تفسير قوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ..}

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ۝ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۝ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الأعراف:13- 15].

يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِإِبْلِيسَ بِأَمْرٍ قَدَرِيٍّ كَوْنِيٍّ: فَاهْبِطْ مِنْهَا أَيْ: بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ لِأَمْرِي، وَخُرُوجِكَ عَنْ طَاعَتِي، فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فِي الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى: فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أَيِ: الذَّلِيلِينَ، الْحَقِيرِينَ، معاملةً له بنقيض قصده، ومُكافأةً لِمُرَادِهِ بِضِدِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْرَكَ اللَّعِينُ وَسَأَلَ النَّظْرَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

الشيخ: الآية واضحةٌ في أنَّ الخروجَ من الجنَّة، والقول الثاني ليس بشيءٍ، المقصود إخراجه من الجنَّة؛ ولهذا قال: فَاخْرُجْ مِنْهَا [الحجر:34]، فالله جلَّ وعلا لما تكبَّر هذا الخبيثُ وأبى السُّجود أمره بالخروج والهبوط من الجنّة، وأبعده ولعنه، نعم.

قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ  ۝ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أَجَابَهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلَ؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا تُخَالَفُ وَلَا تُمَانَعُ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سريعُ الحساب.

الشيخ: وهذا ابتلاءٌ وامتحانٌ للأُمَّة: قَالَ أَنْظِرْنِي هذا مُقدَّرٌ أن يقول هذا، مُقدَّرٌ عليه أن يقول هذا، ومُقدَّرٌ أن يُقال له: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، كلّه بقدرٍ ومشيئةٍ وحكمةٍ بالغةٍ؛ حتى يعلم اللهُ مَن يُتابع الهوى والشَّيطان ممن يُتابع الحقَّ والهدى علمًا ظاهرًا، هو يعلم كلَّ شيءٍ، لكن يعلمه علمًا ظاهرًا في الوجود، كما قال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، حتى نعلم علمًا ظاهرًا بين الناس في الوجود، وهو يعلم الشَّقي من السَّعيد قبل أن يُوجد، لكن المقصود العلم الظَّاهري بين الناس، فابتلاهم بالشَّيطان والهوى وحزب الشَّيطان؛ ليظهر ظاهرًا، ويعلم علمًا ظاهرًا مَن يستجيب للحقِّ ويُتابع الهدى ويحذر الهوى والشَّيطان، ممن يميل إلى هواه ويُتابع شيطانه ويعصي مولاه ، وكل شيءٍ بقدرٍ، لكن لهذه أسباب، ولهذه أسباب.

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16- 17].

يُخبر تعالى أنَّه لما أنذر إِبْلِيسَ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَاسْتَوْثَقَ إِبْلِيسُ بِذَلِكَ، أَخَذَ فِي الْمُعَانَدَةِ وَالتَّمَرُّدِ، فَقَالَ: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أَيْ: كَمَا أَغْوَيْتَنِي.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَا أَضْلَلْتَنِي. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَمَا أَهْلَكْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لِعِبَادِكَ الَّذِينَ تَخْلُقُهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَذَا الَّذِي أَبْعَدْتَنِي بِسَبَبِهِ عَلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيم.

الشيخ: الباء باء السَّببية: بِمَا أَغْوَيْتَنِي يعني: بأسباب إغوائك إيَّاي، ما مصدرية، والباء باء السَّببية، فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي فبإغوائك إيَّاي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ.

أَيْ: طَرِيقَ الْحَقِّ، وَسَبِيلَ النَّجَاةِ، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عَنْهَا لِئَلَّا يَعْبُدُوكَ وَلَا يُوَحِّدُوكَ بِسَبَبِ إِضْلَالِكَ إيَّاي.

وقال بعضُ النُّحاة: الباء هنا قَسَمِيَّةٌ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَبِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ.

قَالَ مُجَاهِدٌ: صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ يَعْنِي: الْحَقَّ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ: عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ: يَعْنِي طَرِيقَ مَكَّةَ.

قَالَ ابنُ جريرٍ: الصَّحيح أنَّ الصِّراطَ المستقيمَ أعمُّ من ذلك.

الشيخ: وهذا هو الصَّواب، المقصود أنَّ الصِّراطَ المستقيمَ هو دين الله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [الأنعام:153]، المقصود الدِّين: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ يعني: لألزمنَّ هذا الشَّيء، ويكون شُغلي الشَّاغل هو إضلالهم وإشقاؤهم والسَّعي في أسباب هلاكهم، فالموفَّقون يعصونه، ويُخالفون أهواءهم الباطلة، ويخشون مولاهم، وهم الأقلون، والأكثرون يتَّبعون ذلك الشَّيطان، ويتَّبعون أهواءهم، كما قال : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ [سبأ:20].

وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17]، قاله ظنًّا لما يعلمه من حال الناس؛ لأنَّه جرَّب آدم، وجرَّب حواء، فقال: وَلَا تَجِدُ قاله ظنًّا ووقع، قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، ولما ذكر قصَّة نوحٍ وإبراهيم وهود وصالح وشُعيب، على كل قصةٍ يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:8]، قال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].

وهذا يُوجب الحذر، يُوجب للعاقل الحذر دائمًا، دائمًا، ما دام الأكثرون صدَّقوه وتابعوه وغلب عليهم أمره، فاحذر أن تكون منهم، جاهد نفسَك ليلًا ونهارًا وفي جميع أحوالك ألا تقع فيما وقع فيه الأكثرون من طاعة الشَّيطان في فعل المعاصي، أو ترك الواجبات، أو ترك المستحبَّات أيضًا؛ لأنَّه حريصٌ حتى في ترك المستحبَّات، ما يُحبُّ أن يكثر الأجرُ.

يقول ابنُ القيم رحمه الله في هذا المعنى: أنَّ الشَّيطان يقعد لهم مقاعد عديدة للصَّدِّ، أعظمها وأخطرها صدّهم عن التوحيد، هذا أكبر شيءٍ، وإيقاعهم في الشِّرك، سواء أكبر أو أصغر، فإن عجز ووفق اللهُ العبدَ ودخل في التوحيد والإيمان حرص على أن يُوقعه في البدعة؛ لأنها أعظم شيءٍ بعد الشِّرك: البدع وإيجاد ما لم يشرعه الله من العبادات، فإن غلبه المؤمنُ وترك البدعَ جلس له في طريق الكبائر؛ يُزَيِّن له اتِّباع الهوى في الغيبة، في النَّميمة، في الرِّبا، في الزنا، في العقوق، إلى غير هذا من الكبائر، وإن غلبه وسلم من الكبائر انتقل معه إلى الصَّغائر، من صغير الذُّنوب ومُحقِّرات الذُّنوب، مرتبة رابعة، فإن غلبه ووقاه اللهُ شرَّ الذنوب انتقل معه إلى مرتبةٍ خامسةٍ، وهي إيقاعه في المكروهات والمشتبهات؛ حتى يُتعبه، وحتى يُثقل عليه طريق الخير، فإن وقاه الله من المكروهات والمشتبهات وعصى الشَّيطان في ذلك انتقل معه إلى درجةٍ سادسةٍ؛ وهي أن يُثَبِّطه عن الأفضل للمفضول، العمل الأفضل يُثَبِّطه عنه، حتى يشغله عنه بالمفضول، يشغله عن الأفضل من الأعمال بالمفضول، مثلًا يقول: أيش ..... تأمر بالمعروف، وتدعو إلى الله، صلِّ الصَّلوات، وأكثر من الصَّلاة، ما يحتاج أن تروح وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا تروح وتطلب العلم، اجتهد وصلِّ واجلس في البيت، اجلس في المصلَّى، اذكر الله، ما يحتاج أن تروح وتطلب العلم، ولا تأمر بالمعروف، ولا تَنْهَ عن المنكر. فيشغله بالمفضول عمَّا هو أفضل.

وهكذا في أنواع المفضولات مع الأفضل، فإن عجز ووُفِّقَ العبدُ حتى اشتغل بالأفضل وقدَّم الأفضلَ على المفضول انتقل معه إلى المرتبة السابعة، وهي تسليط الناس عليه حتى يشغلوه، حتى يُؤذوه، حتى يُثَبِّطوه، حتى يعوقوه بكلِّ ما يستطيعون. مرتبة سابعة، وهي تحريك الناس للإيذاء والصَّدِّ عن الحقِّ، والتَّثبيط، إلى غير هذا من أسباب التَّعويق.

أظنه ذكر هذا في "البدائع"، ويحتمل أنَّه ذكره في "الإعلام"، المقصود أنَّ هذه التي ذكرها ابنُ القيم كلّها صحيحة، كلها حقّ، الشيطان حريصٌ على كلِّ ما يضرّ العبدَ؛ فإن طمع بالشِّرك أو البدعة أو الكبيرة، وإلا رضي بالصَّغائر، المرتبة الرابعة، وإن عجز عن الصَّغائر رضي بالمكروهات والمشتبهات، فإن عجز عن هذه المرتبة انتقل إلى السَّادسة: إشغاله بالمفضول عن الفاضل، وبالمباح عن العبادة؛ حتى تقلّ حسناته، فإن عجز عن الستّ اشتغل بالسَّابعة؛ وهي تسليط الناس عليه حتى يُثَبِّطوه، حتى يشغلوه.

قُلْتُ: لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ -يَعْنِي الثَّقَفِيَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَقِيلٍ- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ سبرة ابن أبي الفاكه.

الطالب: في حاشية نسخة الشّعب في الكلام على موسى بن المسيب قال: في "مسند الإمام أحمد": "عن عبدالله بن المثنى"، وهو خطأٌ، والصَّواب: عبدالله بن المسيّب، يروي عن سالم، ويروي عنه أبو عقيل عبدالله بن عقيل.

الشيخ: انظر "التقريب"؟

س: كلام ابن القيم؟

ج: ..... أو في "البدائع".

قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِطُرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ؟ قَالَ: فَعَصَاهُ وَأَسْلَمَ، قَالَ: وَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: أَتُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ؟ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَالْفَرَسِ فِي الطَّولِ. فَعَصَاهُ وَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ -وَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالْمَالِ- فَقَالَ: تُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقَسَّمُ الْمَالُ؟ قَالَ: فعصاه وجاهد.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَمَاتَ كَانَ حَقًّا على الله أن يُدخله الجنَّة، وإن قُتِلَ كان حقًّا على الله أن يُدخله الجنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّةٌ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ.

وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الْآيَةَ.

قَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أُشَكِّكُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ أُرَغِّبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ أُشَبِّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ أُشَهِّي لهم المعاصي.

وقال ابنُ أبي طَلْحَةَ فِي رِوَايَةٍ، وَالْعَوْفِيُّ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَّا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَمِنْ قِبَلِ دُنْيَاهُمْ، وَأَمَّا مِنْ خَلْفِهِمْ فَأَمْرُ آخِرَتِهِمْ، وَأَمَّا عَنْ أَيْمَانِهِمْ فَمِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ، وَأَمَّا عَنْ شَمَائِلِهِمْ فَمِنْ قِبَلِ سَيِّئَاتِهِمْ.

وَقَالَ سَعِيدُ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: عَنْ قَتَادَةَ: أَتَاهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فزيَّنها لهم ودعاهم إليها، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ بَطَّأَهُمْ عَنْهَا، وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ زَيَّنَ لَهُمُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِيَ، وَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا، وأمرهم بها، أتاك يا ابن آدَمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِكَ مِنْ فَوْقِكَ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَحْمَةِ اللَّهِ.

وَكَذَا رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُريج، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الدُّنْيَا، وَمِنْ خَلْفِهِمْ الْآخِرَةُ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ من حَيْثُ يُبْصِرُونَ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ.

وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ طُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَالْخَيْرُ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ، والشَّرُّ يُحَسِّنُهُ لَهُمْ.

الشيخ: وهذا هو الصَّواب، المقصود أنَّه يُثَبِّطهم عن الخير من كل الوجوه: أمام، وخلف، ويمين، وشمال، يُثَبِّطهم عن الخير، ويدعوهم إلى الشَّر من جميع الطُّرق، وهذا هو الواقع، هذا هو واقع الخبيث والشَّياطين: تزيين الباطل من جميع الوجوه، والتَّثبيط عن الحقِّ من جميع الوجوه، ولكن رحمة الله فوق ذلك، مَن رحمه اللهُ ووقاه شرَّه فهو السَّالم النَّاجي.

الطالب: (عخ، س، ق) موسى بن المسيّب الثَّقفي، أبو جعفر، الكوفي، البزَّار، عن شهر بن حوشب، وعنه عمر بن علي المقدمي، ويعلى بن عبيد. قال ابنُ معينٍ: صالح. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. ا.ه. "تهذيب". قال ابنُ حجر في "التقريب": لا يُلتفت إلى تضعيف الأزدي له. ا.ه.

وأمَّا (م، د) عبدالله بن المسيّب ابن أبي السَّائب، المخزومي، العابدي –بموحدة- عن عبدالله بن السَّائب، وعنه ابن أبي مُليكة، له عندهما فرد حديثٍ، وقرناه بآخر.

(د) عبدالله بن المسيّب القرشي مولاهم، أبو السّوار، المصري، عن الضَّحاك بن شرحبيل، وعنه ابن وهبٍ، وثَّقه ابن حبَّان.

وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ: عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ: "مِنْ فَوْقِهِمْ"؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ مِنْ فَوْقِهِمْ.

وَقَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ: مُوَحِّدِينَ، وَقَوْلُ إِبْلِيسَ هَذَا إِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ مِنْهُ وَتَوَهُّمٌ، وَقَدْ وَافَقَ فِي هَذَا الْوَاقِعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ:20- 21].

وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَاتِهِ كُلِّهَا، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي "مُسْنَدِهِ": حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُجَمِّعٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -يَعْنِي نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -يَعْنِي السِّجِسْتَانِيَّ- حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ.

الشيخ: عندكم: عبدالله؟

الطالب: بالتَّصغير: عبيدالله، في حاشية نسخة الشّعب: زيد، بعده في مخطوطة الأزهر ودار الكتب: حدَّثنا عبيدُالله بن جعفر. وهو خطأٌ، وعبدالله بن جعفر يروي عنه عبيد بن عمرو ابن أبي الوليد الأسدي، أبو وهب الجزري، الذي يروي عنه زيد ابن أبي ميسر. يُنظر في "التهذيب"، والذي بعده عبيدالله بن عمرو ليس .....

............

حدَّثنا عبيدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ ابْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يدعو: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَورَاتِي، وَآمِنْ روعاتي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدي، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ اللَّهُمَّ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي. تَفَرَّدَ بِهِ الْبَزَّارُ وَحَسَّنَهُ.

............

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ: حدَّثنا عبادةُ بن مسلم الفزاري: حدَّثني جريرُ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَورَاتِي، وَآمِنْ رَوَعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وعن شمالي، ومن فوقي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي. قَالَ وكيعٌ: "من تحتي" يَعْنِي: الْخَسْفَ.

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ مُسْلِمٍ بِهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

س: أحسن الله إليك، هنا النبيُّ ﷺ لما استعاذ وقال: ومن فوقي، لماذا ذكر "من فوقي" مع أنَّ الشَّيطانَ لا يأتي من الأعلى؛ لأنَّ الرحمةَ تنزل؟

ج: حتى لا يمنع من الخير، هذا طلب نزول الخير، حتى لا يمنع من الخير. وأيضًا "من فوقي" تقع الصَّواعق، ويقع ما يقع من قِطَع الثَّلج، والعقوبات الأخرى المنوّعة تقع من فوق، نسأل الله السَّلامة.

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف:18].

أَكَّدَ تَعَالَى عَلَيْهِ اللَّعْنَةَ وَالطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ وَالنَّفْيَ عَنْ مَحَلِّ الْمَلَأ الْأَعْلَى بِقَوْلِهِ: اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا، قال ابنُ جريرٍ: أمَّا المذءوم فَهُوَ الْمَعِيبُ، وَالذَّأْمُ.

الشيخ: والذَّأم بالهمزة يعني بخلاف الذَّم .....، والذأم بالهمزة، نعم.

غَيْرُ مُشَدَّدٍ: الْعَيْبُ، يُقَالُ: ذأمه، يذأمه، ذأمًا، فهو مذءومٌ، ويتركون الهمزة فيقول: ذُمْتُهُ، أَذِيمُهُ، ذَيْمًا، وَذَامًّا، وَالذَّامُّ وَالذَّيْمُ أَبْلَغُ فِي الْعَيْبِ مِنَ الذَّمِّ. قَالَ: وَالْمَدْحُورُ: الْمُقْصَى، هو الْمُبْعَدُ الْمَطْرُودُ.

وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ما نعرف المذءوم والمذموم إِلَّا وَاحِدًا.

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا، قَالَ: مَقِيتًا.

وَقَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَغِيرًا، مَقِيتًا.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَقِيتًا، مَطْرُودًا.

وَقَالَ قَتَادَةُ: لَعِينًا، مَقِيتًا.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْفِيًّا، مَطْرُودًا.

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنسٍ: مَذْءُومًا منفيًّا، والمدحور: المصغّر.

وقوله تَعَالَى: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ كَقَوْلِهِ: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ۝ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ۝ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:63- 65].

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [الأعراف:19].

الشيخ: أعوذ بالله من شرِّه، أعوذ بالله من مكائده.

س: ..............؟

ج: أخذها ابنُ عباسٍ من قوله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]؛ لأنَّ الشَّيء الأعظم توحيد الله، والثاني تبعٌ، يعني: ولا تجد أكثرهم إلَّا كافرًا، نسأل الله العافية.