تفسير قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ..}

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:8- 9].

يَقُولُ تعالى: وَالْوَزْنُ أَيْ: لِلْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَقُّ أَيْ: لا يظلم تعالى أحدًا، كقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ۝ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ۝ نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:6- 11]، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ۝ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:101- 103].

فَصْلٌ

وَالَّذِي يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قِيلَ: الْأَعْمَالُ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْرَاضًا، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْلِبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْسَامًا.

قَالَ البغوي: يُروى نحو هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحيح من أنَّ البقرةَ وآلَ عِمْرَانَ يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فرقان من طيرٍ صواف.

ومن ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ قِصَّةُ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ يَأْتِي صَاحِبَهُ فِي صُورَةِ شَابٍّ شَاحِبِ اللَّوْنِ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَأَظْمَأْتُ نَهَارَكَ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ فِي قِصَّةِ سُؤَالِ الْقَبْرِ: فَيَأْتِي الْمُؤْمِنَ شَابٌّ حَسَنُ اللَّوْنِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، وَذَكَرَ عَكْسَهُ فِي شَأْنِ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ.

وَقِيلَ: يُوزَنُ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ وَيُوضَعُ لَهُ فِي كِفَّةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِتِلْكَ الْبِطَاقَةِ فِيهَا "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَمَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟! فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، فَتُوضَعُ تِلْكَ الْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فطاشت السِّجلّات، وثقلت الْبِطَاقَةُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا وَصَحَّحَهُ.

وَقِيلَ: يُوزَنُ صَاحِبُ الْعَمَلِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالرَّجُلِ السَّمِينِ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، ثُمَّ قَرَأَ: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105].

وَفِي مَنَاقِبِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ دقَّة ساقيه، والذي نفسي بيده، لهما فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ أُحُدٍ.

وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحًا: فَتَارَةً تُوزَنُ الْأَعْمَالُ، وَتَارَةً تُوزَنُ محالها، وتارةً يُوزن فاعلها، والله أعلم.

الشيخ: الأدلة في هذا كلِّه دالَّة على أنَّ هذا يقع كلّه؛ تُوزن الأعمال وعاملها والكتب، فليس هناك ما يمنع هذا، ولا هذا، ولا هذا، ولكن المعول على العمل، مَن صلح عملُه ثقل ميزانه، ومَن فسد عمله خفَّ ميزانه؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ۝ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:103- 105]، فأعمال العباد هي التي عليها المعول، وهي المكتوبة، ومَن ثقلت موازينه بالعمل الصَّالح فهو السَّعيد النَّاجي، ومَن خفَّت موازينه بأعماله السَّيئة فهو الهالك.

وظاهر النّصوص أنَّ جميعَ الأعمال تُوزن: المؤمن وغير المؤمن، الكفَّار والمؤمنون، كلّهم تُوزن أعمالهم، فالمؤمن يثقل ميزانه، والكافر يخفّ ميزانه، وليس هناك مُنافاةٌ بين النصوص، نعم.

س: في الصَّحيح قصّة القرآن، وأنَّه .....؟

ج: الصَّحيح غير هذا، المراد صاحبه، يعني: الشَّخص يأتيه بصورة شابٍّ شاحبٍ يقول: أنا القرآن الذي أظمأت نهارك، وأسهرت ليلك.

...........

س: حديث البطاقة صحيحٌ؟

ج: لا بأس به، إسناده جيد، رواه أحمد وجماعةٌ، الترمذي وجماعة.

س: الكفَّار يتفاوتون في العذاب؟

ج: بلى، الكفَّار يتفاوت عذابهم، والمؤمنون يتفاوت نعيمهم، نعيم المؤمنين يتفاوت، وعذاب الكفَّار يتفاوت، ليسوا على حدٍّ سواء: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، نسأل الله العافية.

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10].

يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا مَكَّنَ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ جعل الأرضَ قرارًا، وجعل فيها رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مَنَازِلَ وَبُيُوتًا، وأباح لهم مَنَافِعَهَا، وَسَخَّرَ لَهُمُ السَّحَابَ لِإِخْرَاجِ أَرْزَاقِهِمْ مِنْهَا، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مَعَايِشَ، أَيْ: مَكَاسِبَ وَأَسْبَابًا يكسبون بها، ويتَّجرون فِيهَا، وَيَتَسَبَّبُونَ أَنْوَاعَ الْأَسْبَابِ، وَأَكْثَرُهُمْ مَعَ هَذَا قليل الشُّكر على ذلك، كقوله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].

وَقَدْ قَرَأَ الْجَمِيعُ: مَعَايِشَ بِلَا هَمْزٍ، إِلَّا عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الْأَعْرَجَ فَإِنَّهُ هَمَزَهَا، وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ بِلَا هَمْزٍ؛ لِأَنَّ مَعَايِشَ جَمْعُ مَعِيشَةٍ، مِنْ عَاشَ يَعِيشُ عَيْشًا وَمَعِيشَة، أَصْلُهَا: مَعْيِشَةٌ، فَاسْتُثْقِلَتِ الْكَسْرَةُ عَلَى الْيَاءِ فَنُقِلَتْ إِلَى الْعَيْنِ فَصَارَتْ: مَعِيشَةً، فَلَمَّا جُمِعَتْ رَجَعَتِ الْحَرَكَةُ إِلَى الْيَاءِ لِزَوَالِ الِاسْتِثْقَالِ فَقِيلَ: مَعَايِشُ، وَوَزْنُهُ: مَفَاعِلُ؛ لِأَنَّ الْيَاءَ أَصْلِيَّةٌ فِي الْكَلِمَةِ، بِخِلَافِ مَدَائِنَ وَصَحَائِفَ وَبَصَائِرَ، جَمْعِ: مَدِينَةٍ وَصَحِيفَةٍ وَبَصِيرَةٍ، مِنْ: مَدَنَ وَصَحَفَ وَأَبْصَرَ، فَإِنَّ الْيَاءَ فِيهَا زَائِدَةٌ؛ وَلِهَذَا تُجْمَعُ عَلَى فعائل، وتُهْمَز لذلك، والله أعلم.

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف:11].

يُنَبِّهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى شَرَفِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ عَدَاوَةَ عَدُوِّهِمْ إِبْلِيسَ، وَمَا هُوَ مُنْطَوٍ عَلَيْهِ مِنَ الْحَسَدِ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ آدَمَ؛ لِيَحْذَرُوهُ وَلَا يَتَّبِعُوا طَرَائِقَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا، وهذا كقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ۝ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:28- 29].

وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، وَصَوَّرَهُ بشرًا سَوِيًّا، ونفخ فيه من روحه، أمر الملائكة بالسُّجود له تعظيمًا لشأن الله تَعَالَى وَجَلَالِهِ، فَسَمِعُوا كُلُّهُمْ وَأَطَاعُوا: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِبْلِيسَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ كُلِّهِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وقال سفيانُ الثَّوري: عن الأعمش، عن منهال بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ قَالَ: خُلِقُوا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَصُوِّرُوا فِي أَرْحَامِ النِّساء. رواه الحاكمُ وقال: صحيحٌ على شرطهما ولم يُخرجاه.

ونقل ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَيْضًا: أَنَّ الْمُرَادَ بـِ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم الذُّرِّيَّةُ.

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أَيْ: خَلَقْنَا آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَا الذُّرِّيَّةَ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّه قال بعد ذلك: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ آدَمُ، وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ بِالْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ، كَمَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57]، وَالْمُرَادُ آبَاؤُهُمُ الذين كانوا في زمن موسى، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنَّةً عَلَى الْآبَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَصْلٌ، صَارَ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى الأبناء، وهذا بخلاف قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ الآية [المؤمنون:12]، فإنَّ المرادَ من آدَم الْمَخْلُوق مِنَ السُّلَالَةِ، وَذُرِّيَّتُهُ مَخْلُوقُونَ مِنْ نُطْفَةٍ، وَصَحَّ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ الجنس، لا مُعيَّنًا، والله أعلم.

الشيخ: وهذا الذي قاله المؤلفُ هو الحقّ: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يعني آدم ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فهو خلق آدم وصوَّره، وأسجد له الملائكة، والذُّرية بعد ذلك.

وفي آية السجدة تفصيل المقام: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ هذا آدم، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً هذه الذرية، فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:12- 13] جنس بني آدم، فأبوهم من طين، ثم هم سُلسلوا من ماءٍ مهينٍ من ذرية آدم وحواء ومَن بعدهم، كلهم من ماءٍ مهينٍ، وهو القادر ، وهو الحكيم العليم جلَّ وعلا، كلها آيات، وكلها دلائل على قُدرته العظيمة، وأنه ربُّ العالمين، وأنه المستحقّ لأن يُعبد .

هذا الإنسان العاقل المتكلم ذو الأفكار العظيمة والنِّيات والعزائم الكثيرة هذا أصله طين، ثم الذُّرية كلّها من ماءٍ مهينٍ معروفٍ، يعرفه الناس كلّهم، ماء مهين، هذا الماء ماء المني من الرجل والمرأة، ماء ضعيفٌ، ثم يتطور من المني إلى العلقة، إلى مُضغة، ثم يُصوَّر عظامًا وعروقًا ولحمًا وغير ذلك، هذه كلّها آية من آيات الله، كلّها دالَّة على قُدرته العظيمة، وأنه ربّ العالمين، وأنه المستحقّ لأن يُعبد .

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].

قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ لا هنا زَائِدَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: زِيدَتْ لِتَأْكِيدِ الْجَحْدِ، كَقَوْلِ الشَّاعر: [مجزوء الكامل]

مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ

فَأَدْخَلَ "إِنْ" وَهِيَ لِلنَّفْيِ عَلَى "مَا" النَّافِيَةِ لِتَأْكِيدِ النَّفي، قالوا: وكذا هَاهُنَا: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ مَعَ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. حَكَاهُمَا ابْنُ جريرٍ وردّهما، واختار أنَّ مَنَعَكَ مُضمَّنٌ معنى فعل آخر، تقديره: ما أحرجك وألزمك واضطرَّك ألَّا تسجد إذ أمرتُك. ونحو هذا، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مِنَ الْعُذْرِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الذَّنْبِ، كَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ الْفَاضِلُ بِالسُّجُودِ لِلْمَفْضُولِ، يَعْنِي لَعَنَهُ اللَّهُ: وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِالسُّجُودِ لَهُ؟! ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وَالنَّارُ أَشْرَفُ مِمَّا خَلَقْتَهُ مِنْهُ، وَهُوَ الطِّينُ، فَنَظَرَ اللَّعِينُ إِلَى أَصْلِ الْعُنْصُرِ، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى التَّشْرِيفِ الْعَظِيمِ؛ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَقَاسَ قِيَاسًا فَاسِدًا فِي مُقَابَلَةِ نَصِّ قَوْلِهِ تعالى: فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:29]، فشذَّ من بين الملائكة لترك السُّجود، فهذا أُبْلِسَ من الرحمة، أي: أيس مِنَ الرَّحْمَةِ فَأَخْطَأَ -قَبَّحَهُ اللَّهُ- فِي قِيَاسِهِ وَدَعْوَاهُ أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ أَيْضًا، فَإِنَّ الطِّينَ مِنْ شَأْنِهِ الرَّزَانَةُ وَالْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ وَالتَّثَبُّتُ، وَالطِّينُ مَحَلُّ النَّبَاتِ وَالنُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالنَّارُ مِنْ شَأْنِهَا الْإِحْرَاقُ وَالطَّيْشُ وَالسُّرْعَةُ؛ وَلِهَذَا خان إبليسَ عنصرُه، ونفع آدمَ عنصرُه بالرجوع وَالْإِنَابَةِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالِاعْتِرَافِ وَطَلَبِ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ.

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ. هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ جعفرٍ: حدَّثنا إسماعيلُ بنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُورِ الْعَرْشِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخَلَقَ آدَمَ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ. قُلْتُ لِنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ: أَيْنَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ عَبْدِالرَّزَّاقِ؟ قَالَ: بِالْيَمَنِ. وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: وَخُلِقَتِ الْحُورُ الْعِينُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] قَالَ: قَاسَ إِبْلِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ. إِسْنَادٌ صَحِيحٌ أيضًا.

..............