تفسير قوله تعالى: {..نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا} (2)

وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ؛ فَمِنْ قَائِلٍ: هِيَ مَا عَلَيْهِ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَا عليه وعيدٌ مخصوصٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُالْكَرِيمِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ "الشَّرْحُ الْكَبِيرُ" الشَّهِيرِ فِي كِتَابِ "الشَّهَادَاتِ" مِنْهُ: ثُمَّ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الْكَبَائِرِ، وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّغَائِرِ.

وَلِبَعْضِ الْأَصْحَابِ فِي تَفْسِيرِ الْكَبِيرَةِ وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْمَعْصِيَةُ الَّتِي يَلْحَقُ صَاحِبَهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَهَذَا أَكْثَرُ ما يُوجد لهم.

الشيخ: الكبائر لها شأنٌ خطيرٌ، قد عُلِّقت بها أحكامٌ عظيمةٌ، والأصل في هذا قوله جلَّ وعلا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، فعلَّق سبحانه تكفير السَّيئات سوى الكبائر باجتناب الكبائر، فإذا اجتنب العبدُ الكبائرَ كفَّر اللهُ سيئاته وأدخله الجنة.

وبهذا المعنى يقول النبيُّ ﷺ: الصَّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مُكَفِّرات لما بينهنَّ ما لم تُغْشَ الكبائر.

وفي حديث عثمان : مَن تطهَّر فأحسن طهوره، وأحسن خشوعه، وركوعه، وسجوده؛ غُفِرَتْ خطيئته ما لم تُؤْتَ المقتلة يعني: الكبيرة، أو كما قال عليه الصَّلاة والسلام.

المقصود أنَّ اجتنابَ الكبائر بنصِّ القرآن الكريم وبنصِّ السُّنة شرطٌ في تكفير الصَّغائر بالصَّلوات وبالعبادات الأخرى، فالصلاة والصوم والزكاة والحجّ وسائر أعمال الخير من أسباب تكفير السَّيئات، ومُضاعفة الحسنات، ورفع الدَّرجات، لكن كونها تكفّر السّيئات مشروطٌ باجتناب الكبائر، أما حصول الحسنات والأجور العظيمة ورفع الدَّرجات فهذا حصل بجميع الأعمال الصَّالحات، جميع الأعمال الصَّالحات: قولية، أو فعلية قلبية، أو جارحية، كل هذه يحصل بها الأجر العظيم، والخير الكثير، ما رتَّب اللهُ عليها من الحسنات ومُضاعفة الأجر.

لكن ترتيب تكفير السّيئات عليها هذا جزءٌ مشروطٌ بشرط اجتناب الكبائر، وقد اختلف العلماءُ من الصحابة ومَن بعدهم في حدِّ الكبيرة، فقال بعضُهم: ما فيه حدٌّ من قتلٍ أو جلدٍ أو قطعٍ: كالسَّرقة والزنا واللِّواط والقذف، هذا يُسمَّى: كبيرة، وما ليس فيه هذا الشَّيء يُسمَّى: صغيرة.

وقال آخرون: ما رتّب عليه الوعيد بالعذاب في القبر أو في النار هذا يُسمَّى: كبيرة، ويدخل في ذلك معاصٍ كثيرة.

وقال بعضُهم: يدخل في ذلك أيضًا ما نُفِيَ الإيمانُ عن صاحبه: لا يُؤمن أحدكم، مَن فعل كذا فلا إيمانَ له، لا إيمانَ لمن لا صبرَ له، أو مَن تبرأ منه النبيُّ ﷺ، أو تبرأ منه اللهُ، مثل قوله ﷺ: أنا بريءٌ من الصَّالقة والحالقة والشَّاقة، ليس منا مَن ضرب الخدودَ، وشقَّ الجيوب إلى آخره.

فإذا عرف المؤمنُ -ولا سيما طالب العلم- هذا الخلاف أوجب له ذلك الحرص على تجنّب السَّيئات، والحذر منها كلها؛ لأنَّ كلَّ سيئةٍ يُخشى أن تكون كبيرةً، أن تكون مانعةً من تكفير سيئاته، فالحزم كل الحزم، والكيس كل الكيس الحذر من جميع السَّيئات، والبُعد عن جميع الذّنوب: صغيرها وكبيرها، ويكون المؤمنُ في غايةٍ من الحذر في جميع أوقاته، وحركاته وسكناته، يتحرى الخيرَ، يتحرى ما هو طاعة لله، ويحذر ما هو معصية لله، سواء سُمِّي كبيرة، أم لم يُسمَّ كبيرة، هذا هو الحزم، وهذا هو الكيس، وهذا هو الحيطة العظيمة: أن تكون حذرًا من جميع السَّيئات، سواء كانت صغيرةً أو كبيرةً، كل ما نهى اللهُ عنه تجتنبه، كما قال جلَّ وعلا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال النبيُّ ﷺ: ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتم.

فالواجب اجتناب المنهيّات جميعها، والحذر منها كلّها، والحرص على أداء الأوامر: فرضها ونفلها؛ طاعةً لله، ورغبةً فيما عنده، وحذرًا من عقابه، وتحقيقًا للعبودية التي خُلِقَ لها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فالعبودية التي خُلِقْنَا لها هي طاعة الله ورسوله؛ هي الإخلاص لله، واتِّباع شريعته، وتعظيم أمره ونهيه، وترك ما نهى عنه، وهذه العبادة هي الإسلام، وهي الإيمان، وهي الهُدى، وهي البرّ والتَّقوى.

فالحازم والمؤمن كامل الإيمان هو الذي يُحقق هذه العبادة اتِّباعًا للأوامر، والحرص عليها طاعةً لله، وتعظيمًا له، والحذر من النَّواهي كلّها: صغيرها وكبيرها، والحرص على التَّزود من الخيرات، والمسابقة إلى أنواع الطَّاعات: فرضها ونفلها، كما قال جلَّ وعلا: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الآية [آل عمران:133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21]، وقال جلَّ وعلا عن الرسل وأتباعهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:57- 60] يعني: يعملون الطَّاعات، ويجتهدون في الخيرات، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ مع الخوف والحذر؛ لإيمانهم بأنَّهم راجعون إلى الله، وسائلهم ومُجازيهم بأعمالهم؛ فلهذا هم يعملون ويجتهدون مع الوجل والخوف والحذر: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61]، بسبب هذا الإيمان العظيم والخوف العظيم سارعوا إلى الخيرات، وسابقوا إليها؛ ولهذا جاء عن الحسن البصري رحمه الله أنَّه قال: المؤمن جمع بين الإحسان والشَّفقة والخوف، والمنافق جمع بين إساءةٍ وأمنٍ. المؤمن جمع بين الإحسان في العمل، والجدّ في العمل، مع الشَّفقة والخوف من الله، والمنافق وأشباهه جمع إساءةً وأمنًا، أتى السَّيئات، ومع هذا هو آمنٌ من مكر الله: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، نسأل الله العافية والسَّلامة.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْمَعْصِيَةُ الَّتِي يَلْحَقُ صَاحِبَهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَهَذَا أَكْثَرُ ما يُوجد لهم، وهو إلى الْأَوَّلِ أَمْيَلُ، لَكِنَّ الثَّانِيَ أَوْفَقُ؛ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْكَبَائِرِ.

وَالثَّالِثُ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْإِرْشَادِ" وَغَيْرِهِ: كُلُّ جَرِيمَةٍ تُنْبِئُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ فَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِلْعَدَالَةِ.

وَالرَّابِعُ: ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ أَنَّ الْكَبِيرَةَ كُلُّ فِعْلٍ نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ تُوجِبُ فِي جِنْسِهَا حَدًّا مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَرْكُ كُلِّ فَرِيضَةٍ مَأْمُورٍ بِهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَالْكَذِبُ فِي الشَّهَادَةِ والرِّواية واليمين، هذا ما ذكروه عَلَى سَبِيلِ الضَّبْطِ.

ثُمَّ قَالَ: وَفَصَّلَ الْقَاضِي الرُّويَانِيُّ فَقَالَ: الْكَبَائِرُ سَبْعٌ: قَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ الحقِّ، والزِّنا، واللّواطة، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةُ، وَأَخْذُ الْمَالِ غَصْبًا، وَالْقَذْفُ. وَزَادَ فِي "الشَّامِلِ" عَلَى السَّبْعِ الْمَذْكُورَةِ: شَهَادَةَ الزُّورِ. وَأَضَافَ إِلَيْهَا صَاحِبُ "الْعُدَّةِ": أَكْلَ الرِّبَا، وَالْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ بِلَا عُذْرٍ، وَالْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ، وَقَطْعَ الرَّحِمِ، وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْخِيَانَةَ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَتَقْدِيمَ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا، وَتَأْخِيرَهَا عَنْ وَقْتِهَا بِلَا عُذْرٍ، وَضَرْبَ الْمُسْلِمِ بِلَا حَقٍّ، وَالْكَذِبَ على رسول الله ﷺ عَمْدًا، وَسَبَّ أَصْحَابِهِ، وَكِتْمَانَ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ، وَأَخْذَ الرِّشْوَةِ، وَالْقِيَادَةَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالسِّعَايَةَ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَمَنْعَ الزَّكَاةِ، وَتَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَنِسْيَانَ الْقُرْآنِ بعد تعلُّمه، وإحراقَ الحيوان بالنَّار.

الشيخ: نسيان القرآن بعد تعلُّمه من الكبائر! ليس بجيدٍ؛ لأنَّ الإنسانَ يعتريه النِّسيان، فعدّه من الكبائر غلطٌ، الإنسان ينسى ثم يذكر، فإذا نسي شيئًا من القرآن بعدما حفظه لا يُعدّ كبيرةً، لكن يُشرع له العناية والحرص على حفظه حتى لا ينسى.

وأمَّا حديث: مَن نسي شيئًا من القرآن لقي الله وهو أجذم فهو حديثٌ ضعيفٌ.

المقصود أنَّ جعل نسيان ما حفظ من القرآن من الكبائر ليس بجيدٍ.

والحاصل في هذا أنَّ العُمدة على النصوص، ما جاءت به النصوص تسميته: كبائر، أو وعيد عليه فهذا كبيرة، وقد جاءت النصوص بأشياء كثيرةٍ، حتى قال ابنُ عباسٍ: هي إلى سبعين أقرب منها إلى سبعٍ. وجاء ما هو أكثر من ذلك.

المقصود أنَّ ضبطَ الكبيرة بأقوال الناس ليس بظاهرٍ، ولكن تتبع النّصوص، والعناية بالنّصوص، يتبين من ذلك الشيء الكثير مما فيه وعيدٌ شديدٌ، فالحزم والكيس مثلما تقدّم الحذر من جميع السَّيئات.

وامتناع الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ، وَالْيَأْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَيُقَالُ: الْوَقِيعَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ.

الشيخ: لأنَّه غيبة؛ لأنَّ ..... في أهل الخير والوقيعة في أعراضهم لا شكّ أنَّ هذا من الكبائر، والسَّعي إلى السّلطان فيما يضرّ الناس بالنَّميمة التي تضرّ الناس، كل هذا من أعظم القبائح والكبائر، فالذي يسعى بين الناس بالنَّميمة أو بالغيبة هو من أعظم المفسدين في الأرض، سواء بين الأقارب، أو بين السلطان والناس، أو بين الجيران، أو غيرهم، لا شكَّ أنه من أعظم القبائح؛ ولهذا قال ﷺ: لا يدخل الجنةَ نمَّامٌ، والغيبة شرُّها عظيم.

وَمِمَّا يُعَدُّ مِنَ الْكَبَائِرِ: الظِّهَارُ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمِيتَةِ إِلَّا عَنْ ضَرُورَةٍ. ثُمَّ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلِلتَّوَقُّفِ مَجَالٌ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْخِصَالِ.

قُلْتُ: وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي الْكَبَائِرِ مُصَنَّفَاتٌ، مِنْهَا مَا جَمَعَهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِاللَّهِ الذَّهَبِيُّ الَّذِي بَلَغَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ كَبِيرَةً.

وإذا قيل: إنَّ الكبيرةَ ما توعد عليها الشَّارعُ بِالنَّارِ بِخُصُوصِهَا. كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وما تتبّع ذَلِكَ؛ اجْتَمَعَ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وَإِذَا قِيلَ: كلّ ما نهى اللهُ عنه. فكثيرٌ جدًّا، والله أعلم.

وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32].

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو، وَلَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ. فَأَنْزَلَ الله: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ.

وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَذَكَرَهُ، وَقَالَ: غَرِيبٌ.

الشيخ: وهذا سندٌ جيدٌ عن أم سلمة؛ ولهذا قال الله: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ يعني: لا يقل إنسانٌ: ليتني كنتُ امرأةً. أو تقول المرأةُ: يا ليتني كنتُ رجلًا. بل الإنسان يرضى بما يسَّر اللهُ، وبما قسم الله؛ لأنَّ الله أحكم وأعلم جلَّ وعلا، هو الحكيم العليم في أقواله وأفعاله، وفي شرعه وقدره، فلا يجوز للإنسان أن يتمنَّى أنه رجلٌ وهو امرأة، أو أنَّه امرأةٌ وهو رجلٌ، أو أنه غنيٌّ وهو فقيرٌ، يسأل الله من فضله، يسأل الله أن يُقدّر له الأصلح، وأن يُغنيه من فضله.

وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ أمَّ سلمة قالت: يا رسول الله. فذكره.

وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ فِي "مُسْتَدْرَكِهِ" مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نُقاتل فنُستشهد، ولا نقطع الميراث.

الشيخ: ....... نقطع يعني: يخفض، أو لا ننصف في الميراث، أو لا نكمل في الميراث، حطّ عليها إشارة.

فنزلت الآيةُ، ثم أنزل الله: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195].

ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَكَذَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ بِهَذَا اللَّفْظِ.

وَرَوَى يَحْيَى الْقَطَّانُ وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وخُصَيْفٍ نَحْوُ ذَلِكَ.

وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قَالَا: أُنْزِلَتْ فِي أُمِّ سَلَمَةَ.

وَقَالَ عَبْدُالرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْلِ النِّسَاءِ: لَيْتَنَا الرِّجَالُ فَنُجَاهِدَ كَمَا يُجَاهِدُونَ، وَنَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَطِيَّةَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ: حَدَّثَنِي أَبِي: حَدَّثَنَا الْأَشْعَثُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرٍ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي الْمُغِيرَةِ- عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الآية، قال: أتت امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: يا رسول اللَّهِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ بِرَجُلٍ، فَنَحْنُ فِي الْعَمَلِ هَكَذَا، إِنْ عَمِلَتِ امْرَأَةٌ حَسَنَةً كُتِبَتْ لَهَا نِصْفُ حَسَنَةٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ هذه الآية: {وَلَا تَتَمَنَّوْا} الآية، فإنَّه عدلٌ مني وأنا صنعته.

الشيخ: هذا المتن فيه نظر، وهذا السَّند فيه نظر؛ لأنَّ التَّفضيل إنما هو فيما نصّ اللهُ عليه في المواريث، وفي الشَّهادة وما جاء في معناها، أمَّا الثواب فهو مُشتركٌ؛ الحسنة بعشر أمثالها للرجل والمرأة، مَن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، إلى سبعمئة ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ، الرجل والمرأة جميعًا، ما فيها تنصيف، التَّنصيف فيما نصَّ اللهُ عليه، وما لم ينصّ اللهُ عليه فالأصل أنَّهم سواء إلَّا فيما نصَّ اللهُ عليه من إرثٍ وشهادةٍ وعتقٍ، وغير ذلك.

وقال السّدي في الآية: فَإِنَّ الرِّجَالَ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنَ الْأَجْرِ الضِّعْفُ عَلَى أَجْرِ النِّسَاءِ، كَمَا لَنَا فِي السِّهَامِ سَهْمَانِ. وَقَالَتِ النِّسَاءُ: نُرِيدُ أن يكون لنا أجرٌ مثل أجر الشُّهَدَاءِ، فَإِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُقَاتِلَ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْنَا الْقِتَالُ لَقَاتَلْنَا. فَأَبَى اللَّهُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ قَالَ لَهُمْ: سَلُونِي مِنْ فَضْلِي. قَالَ: لَيْسَ بِعَرَضِ الدُّنْيَا.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوُ ذَلِكَ.

وَقَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباسٍ في الآية، قَالَ: وَلَا يَتَمَنَّى الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لَيْتَ لَوْ أَنَّ لِي مَالَ فُلَانٍ وَأَهْلَهُ. فَنَهَى اللَّهُ عن ذلك، ولكن ليسأل الله من فضله.

وقال الحسنُ ومحمدُ بن سيرين وعطاء والضَّحاك نحو هذا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، فَيَقُولُ رَجُلٌ: لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانٍ لَعَمِلْتُ مِثْلَهُ. فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ»، فَإِنَّ هَذَا شيءٌ غير ما نهت عنه الآية؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ حَضَّ عَلَى تَمَنِّي مِثْلَ نِعْمَةِ هَذَا، وَالْآيَةُ نَهَتْ عَنْ تَمَنِّي عَيْنَ نِعْمَةِ هَذَا، فَقَالَ: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أَيْ: فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَكَذَا الدِّينِيَّةِ أَيْضًا؛ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ.

وَهَكَذَا قَالَ عَطَاءُ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ: نَزَلَتْ فِي النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي مَا لِفُلَانٍ، وَفِي تَمَنِّي النِّسَاءِ أَنْ يَكُنَّ رِجَالًا فَيَغْزُونَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

الشيخ: هذا حسد الغبطة، ليس داخلًا في هذا، يتمنَّى أن يكون له مثل ذلك العمل، مثلما قال صلى الله عليه وسلم: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما أهديتُ، ولجعلتُها عُمرةً»، هذا ليس داخلًا في: {وَلَا تَتَمَنَّوْا}، وإنما هو إخبارٌ عن واقعٍ، يُخبر عن واقعٍ أنَّه لو كان له مثل فلانٍ لعمل مثل عمله، فهما في الأجر سواء بسبب نيَّته الصَّادقة ورغبته الصَّادقة، لا حسدًا، وإنما يتمنَّى الخير والفضل: لو كنت رجلًا لجاهدتُ، لو كنت صحيحًا لباشرتُ الجهاد، لو كنت قويًّا لصليتُ واقفًا. وما أشبه ذلك.

س: لو تمنى الرجلُ أنَّه لو كان من الصَّحابة؟

ج: ....... ما فيها شيء؛ لأنَّ هذا يُخبر أنَّه لو كان كذا لفعل كذا.

 

ثُمَّ قَالَ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} أَيْ: كُلٌّ لَهُ جَزَاءٌ عَلَى عَمَلِهِ بِحَسَبِهِ؛ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. هذا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ، أَيْ: كُلٌّ يَرِثُ بِحَسَبِهِ. رَوَاهُ الوالبيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

الطالب: في نسخة الشّعب: رواه الترمذي عن ابن عباسٍ.

قال في الحاشية: كذلك في مخطوطتنا والمطبوعات: الوابلي.

الشيخ: وأنتم عندكم؟

الطلاب: الوالبي.

الشيخ: حطّ نسخة الترمذي.

ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يُصلحهم فقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ}، لا تتمنّوا ما فضَّلنا بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَحْتُومٌ، وَالتَّمَنِّي لَا يُجْدِي شَيْئًا، وَلَكِنْ سَلُونِي مِنْ فَضْلِي أُعْطِكُمْ، فَإِنِّي كَرِيمٌ وَهَّابٌ.

وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ وَاقِدٍ: سَمِعْتُ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَإِنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ».

ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَذَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ وَاقِدٍ، وَلَيْسَ بِالْحَافِظِ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدِيثُ أَبِي نُعَيْمٍ أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ أَصَحّ.

وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَإِنَّ أَحَبَّ عِبَادِهِ إِلَيْهِ الَّذِي يُحِبُّ الْفَرَجَ».

ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أَيْ: هُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الدُّنْيَا فَيُعْطِيهِ مِنْهَا، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَقْرَ فَيُفْقِرُهُ، وَعَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْآخِرَةَ فَيُقَيِّضُهُ لأعمالها، وبمَن يستحقّ الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه؛ لهذا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.

الطالب: حمَّاد بن واقد.

حماد بن واقد العيشي -بالتَّحتانية والمعجمة- أبو عمر، الصَّفار، البصري، ضعيفٌ، من الثامنة. (ت).

الشيخ: نعم، أحسنت.

س: ..............؟

ج: بنص القرآن، بنص القرآن: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء:32]، يكفي نصّ القرآن.