تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ..}

........... وداءٌ عُضالٌ، وسببٌ لغضب الله جلَّ وعلا، وسببٌ أيضًا لبُغْضِ المخلوقين حتى الأقارب.

فالواجب على المؤمن أن يحذره، وأن يتَّقي الله في أداء الحقوق، وإذا أمر بالبخل صار شرًّا ممن بخل؛ لأنَّه زاد على ذلك أنَّه أمر الناس بالبخل.

فالواجب هو تقوى الله، وأن يُؤدِّي الحقوقَ، وأن يأمر بأدائها حسب طاقته؛ لأنَّ أداء الحقّ كالواجب من المعروف، والأمر بأدائه أمرٌ بالمعروف، والبخل بالواجب منكر، والأمر به منكر، والشَّحيح هو الذي مع بخله حريصٌ على استحصال الأموال بكل طريقٍ، فهو حريصٌ على جمع المال بكل طريقٍ، وبخيلٌ به بعد حصوله؛ ولهذا قال ﷺ في الحديث الصَّحيح: اتَّقوا الشُّحَّ؛ فإنَّه أهلك مَن كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلّوا محارمهم، قال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، مَن وقاه الله شُحَّ نفسَه أفلح؛ لأنَّه يُؤدي الحقوق التي عليه، يُؤدي حقَّ الله وحقَّ عباده، فهذا هو السَّليم، والشَّحيح يضعف عن أداء حقِّ الله، وعن أداء حقِّ عباده؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

يُروى أنَّ عبدالرحمن بن عوف كان يطوف، فأكثر من قوله: "اللهم قِني شُحَّ نفسي"، فسأله سائلٌ، فقال: إني إذا وقيتُ شُحَّ نفسي فقد أفلحتُ، ألم تسمع إلى قول الله: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ؟

فالواجب على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ أن يُحاسِب نفسه في أداء الحقوق: بزكاةٍ، ونفقات، وواجبات أخرى، وأن يحذر البخل بها، والشّح بها، أو يأمر الناس بذلك، فإنَّ هذا أدهى وأَمَرَّ: أن يأمر الناسَ بالشُّحِّ والبخل.

قَوْلُهُ تعالى: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37]، فَالْبَخِيلُ جحودٌ لنعمة الله، لَا تَظْهَرُ عَلَيْهِ وَلَا تَبِينُ، لَا فِي مأكله، وَلَا فِي مَلْبَسِهِ، وَلَا فِي إِعْطَائِهِ وَبَذْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ۝ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ أَيْ: بِحَالِهِ وَشَمَائِلِهِ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:6- 8]، وَقَالَ هَاهُنَا: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ؛ وَلِهَذَا تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:37]، وَالْكَفْرُ هُوَ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، فَالْبَخِيلُ يَسْتُرُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَكْتُمُهَا وَيَجْحَدُهَا، فَهُوَ كَافِرٌ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ نِعْمَةً عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهَا عَلَيْهِ.

وَفِي الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ: وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لنعمتك، مُثنين بها عليك، قابليها، وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا.

وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ السَّلَفِ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى بُخْلِ الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ الْعِلْمِ الَّذِي عندهم مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَكِتْمَانِهِمْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قال تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:37].

الشيخ: الآية عامّة، تعمّ البخل بالمال، والبخل بالعلم، فاليهود بخلوا بالعلم حسدًا وبغيًا، وهكذا كل مَن بخل بالعلم، وهو أشدّ من البخل بالمال، يجب بذل العلم للناس، وإظهاره للناس، فإذا بخل بالعلم وكتم حقَّ الله صار أقبح ممن بخل بالمال، فالواجب إظهار العلم وبيانه وتعليمه الناس، وإرشاد الناس إلى الحقِّ، وتحذيرهم من الباطل، كما يجب بذل المال في وجوههم وعدم البخل، فيُؤدي حقَّ الله في ماله، ويؤدي حقَّ الله في علمه.

رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السِّيَاقَ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْبُخْلُ بِالْعِلْمِ دَاخِلًا في ذلك بطريق الأولى، فإنَّ السياقَ في الإنفاق على الأقارب والضُّعفاء، وكذلك الآية التي بعدها، وهي قوله: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ [النساء:38]، فإنَّه ذكر الْمُمْسِكِينَ الْمَذْمُومِينَ، وَهُمُ الْبُخَلَاءُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَاذِلِينَ المرائين الَّذين يَقْصِدُونَ بِإِعْطَائِهِمُ السُّمْعَةَ، وَأَنْ يُمْدَحُوا بِالْكَرَمِ، وَلَا يُريدون بذلك وجه الله.

وفي حديث الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَجَّرُ بِهِمُ النَّار، وهم: العالم، والغازي، والمنفق، المراؤون بِأَعْمَالِهِمْ، يَقُولُ صَاحِبُ الْمَالِ: مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهِ إِلَّا أَنْفَقْتُ فِي سَبِيلِكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ، إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، أَيْ: فَقَدْ أَخَذْتَ جَزَاءَكَ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الَّذِي أَرَدْتَ بِفِعْلِكَ.

الشيخ: وحديث الثلاثة أنه يُؤتى بالعالم الذي لم يعمل بعلمه، والغازي الذي غزا رياءً، والمنفق الذي راءى بنفقته، فيُسأل كلُّ واحدٍ منهم، يُقال للعالم: قد أعطيتُك العلم، فماذا عملتَ فيما علمتَ؟ فيقول هذا: تعلمتُ فيك العلم، وقرأتُ فيك القرآن. فيقول الله له: كذبتَ، وتقول الملائكةُ: كذبتَ، ولكنَّك تعلَّمتَ ليُقال: عالم، وقرأتَ ليُقال: قارئ.

وهكذا يُؤتى بصاحب المال، فيُقرّ بنعم الله عليه، وماذا عمل فيها، فيقول: ما تركتُ من سبيلٍ تُحبُّ أن يُنفق فيه إلا أن أنفقتُ فيه. فيقول الله له: كذبتَ، وتقول الملائكةُ: كذبتَ، ولكنَّك تصدَّقْتَ ليُقال: جواد، فقد قيل.

ويُؤتى بالغازي المجاهد، فيُسأل عن جهاده، فيقول: جاهدتُ في سبيلك. فيقول الله له: كذبتَ، وتقول الملائكةُ: كذبتَ، ولكن جاهدتَ ليُقال: جريءٌ -يعني شجاع- فقد قِيل ذلك.

فيُؤْمَر بهم فيُسحبون إلى النَّار، وهم أول مَن تُسَعَّر بهم النار، نسأل الله العافية.

المقصود في هذا الحثّ على الإخلاص والصِّدق، وأن يتعلم لله، ويعمل بعلمه، وأن يطلب الحلالَ، ويُخرج الحقوق، وأن يُجاهد لله، في سبيل الله، لا لغير ذلك؛ حتى يحصل له ما وعد الله به المجاهدين والمنفقين في سبيله، والمعلِّمين الذين علَّموا وبصَّروا الناس وفقَّهوهم في الدِّين.

س: ..............؟

ج: هذا من باب الوعيد، وإذا كان حالهم هذا ظاهره أنَّهم كفَّارٌ، ليسوا على دينٍ، كل أعمالهم لغير الله، فإذا كان عندهم توحيدٌ فهذا من المعاصي العظيمة، يُعذَّبون بها، ثم بعد التَّعذيب يُخرجهم الله من النار إلى الجنَّة.

س: هل قوله ﷺ: اللهم إني أعوذ بك أن أُشْرِكَ بك شيئًا أعلمه يُعتبر من العلاج لهذا؟

ج: نعم، نعم، مثلما قال النبيُّ ﷺ .....

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال لعدي بن حاتم: إِنَّ أَبَاكَ رَامَ أَمْرًا فَبَلَغَهُ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ: هَلْ يَنْفَعُهُ إِنْفَاقُهُ وَإِعْتَاقُهُ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ.

الشيخ: يعني أنَّه مُنْكِر للبعث، ليس من المؤمنين بالبعث والنُّشور، نسأل الله العافية.

س: ............؟

ج: محتملة، قد يكونون كُفَّارًا من المنافقين الخلص، فيكونوا ممن يُخلَّدون في النار، ويحتمل أنهم من المرائين المسلمين الذين عُوقبوا بهذا العمل الخبيث، ونهايتهم جنة بعد التَّطهير والتَّمحيص.

والمهم من هذا والمقصود من هذا هو التَّحذير عن العمل لغير الله، العمل الذي شُرع لله هذا فيه التَّحذير من العمل أن يُصرف لغيره جلَّ وعلا.

س: متى يكون الرياءُ أصغر؟ ومتى يكون أكبر؟

ج: إذا كان رياءً بالعمل والعبد مؤمنٌ بالله واليوم الآخر فهذا أصغر، وإذا كان منافقًا لا يُؤمن بالله ولا باليوم الآخر فهذا أكبر.

س: بالنسبة لمن مات قبل النبي ﷺ أنَّهم من أهل الفترة، وجاءت أحاديث تنصّ على أنَّهم بأعيانهم من أهل النَّار؟

ج: الأصل أنَّهم كلّهم من أهل النار؛ لأنهم على بقيةٍ من دين إبراهيم، قامت عليهم الحجّة؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ: إنَّ أبي وأباك في النَّار، واستأذن أن يستغفر لأُمِّه فلم يُؤذن له؛ ولهذا قال في هذا: إنَّه لم يُؤمن بالبعث، أي: ابن جدعان، لم يقل يومًا: ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدِّين.

الأصل فيهم أنَّهم من أهل النار؛ لأنهم على بقيةٍ من دين إبراهيم، فلم يتفقَّهوا، ولم يعملوا، نسأل الله العافية.

س: قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس:6]؟

ج: الغفلة ما تُخرجهم عن كونهم قد بلغتهم الدَّعوة، يعني: غفلوا عنها، وأعرضوا عنها.

س: مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ [القصص:46]؟

ج: هذا بالنسبة إلى أنهم لم يأتِ نذيرٌ بعد إبراهيم عليه الصَّلاة والسلام بالنسبة إلى العرب.

...........

والقاعدة: أنَّ مَن لم تبلغه الدَّعوة أنه يُمتحن يوم القيامة، فإذا أقرَّ دخل الجنةَ، وإن أبى دخل النار، ومَن كانت الدَّعوةُ قد بلغته فهو إلى النار، نسأل الله العافية.

س: مَن كانوا بين عيسى ومحمد عليهما الصَّلاة والسلام ليسوا من أهل الفترة؟

ج: في فترة، لكن ظاهر النصوص أنَّ بعضَهم قد بلغته الحجّة، وأنهم كفَّار، ما هم من أهل الفترة الذين يُمتحنون يوم القيامة، ويحتمل أنَّ جملةً منهم لم تبلغهم دعوة إبراهيم، ولم يشعروا بها، لكنَّه قال في جماعةٍ منهم ما يدل على أنهم بلغتهم الدَّعوة في أمِّه وأبيه، وفي جماعةٍ آخرين، نسأل الله العافية.

على كل حالٍ أهل الفترة حكمهم حكم الكفَّار في أحكام الدنيا، ويوم القيامة يُمتحنون، يوم القيامة.

س: .............؟

ج: الله بعث محمدًا على حين فترةٍ من الرسل بنصِّ القرآن، لكن هؤلاء أهل الفترة أقسام: منهم مَن بلغته الدَّعوة فأصرَّ على الباطل، فيكون من أهل النار، ومنهم مَن لم تبلغه الدَّعوة، وهو غافلٌ عنها، ولم تبلغه؛ فيُمتحن يوم القيامة.

ولهذا قال تعالى: وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية [النساء:38]، أَيْ: إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ هَذَا الْقَبِيحِ وَعُدُولِهِمْ عَنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ عَلَى وَجْهِهَا الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، وَقَارَنَهُمْ فَحَسَّنَ لهم القبائح؛ ولهذا قال تعالى: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38]؛ ولهذا قال الشَّاعر: [الطويل]

عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي

الشيخ: وأبلغ من هذا الحديث، قوله ﷺ: المرء على دين خليله، فلينظر أحدُكم مَن يُخالل، وقصّة أبي طالب معروفة وعظم ضرر جُلساء السُّوء لما قال النبيُّ ﷺ لأبي طالب: يا عمّ، قل: لا إله إلا الله، قال جُلساء السُّوء: أترغب عن ملَّة عبدالمطلب؟ فأطاعهم وأبى أن يستجيب للنبي عليه الصَّلاة والسلام، فقُرناء السُّوء شرُّهم عظيم، وبلاهم كبير، وخطرهم عظيم، فالواجب على العاقل أن يحذر جُلساء السُّوء وأصحاب السُّوء، وأن يحرص على أصحاب الخير.

س: بالنسبة للرِّياء متى يبطل العمل؟ ومتى ينقص الأجر ولا يبطل العمل؟

ج: الرِّياء إذا قارن العمل أبطله، أمَّا إذا وقع وجاهده الإنسانُ وحاربه حتى تخلص منه لا يضرّه، لكن إذا استصحبه أبطل عمله.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ الآية [النساء:39]، أي: وأي شيءٍ يضرّهم لو آمنوا بالله وسلكوا الطَّرِيقَ الْحَمِيدَةَ، وَعَدَلُوا عَنِ الرِّيَاءِ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَجَاءِ مَوْعُودِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لِمَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا.

وَقَوْلُهُ: وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [النساء:39] أَيْ: وَهُوَ عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمُ الصَّالِحَةِ وَالْفَاسِدَةِ، وَعَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ التَّوْفِيقَ مِنْهُمْ فَيُوَفِّقُهُ وَيُلْهِمُهُ رُشْدَهُ، وَيُقَيِّضُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ يَرْضَى بِهِ عَنْهُ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْخِذْلَانَ وَالطَّرْدَ عن جنابِه الْأَعْظَمِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي مَنْ طُرِدَ عَنْ بَابِهِ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، عِيَاذًا بالله من ذلك.

الشيخ: وفي قوله: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إشارة إلى أنهم لم يُؤمنوا بالله وباليوم الآخر، وإنما همّهم المال وجمع المال والبخل به، فالنصوص التي تجمل تُفسّرها النصوص المفصلة، فالبخيل قسمان:

بخيلٌ مؤمنٌ بالله واليوم الآخر، فهذا على خطرٍ من عقوبات المعاصي، المعاصي في البخيل.

وبخيلٌ لم يُؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فهو مع الكفرة مع بخله، نعوذ بالله.

وهكذا المراؤون قسمان:

قسمٌ مُنافِقٌ لا يُؤمن بالله واليوم الآخر، فهذا في الدَّرك الأسفل من النار.

وقسمٌ ليس بمنافقٍ، بل مؤمنٌ بالله واليوم الآخر، ولكن يحمله حبُّ الشُّهرة وحبُّ الرِّياء على أن يعمل للرياء؛ فلهذا تبطل أعماله التي راءى فيها، ويبقى معه أصل إيمانه الذي يُخرجه الله به من النار، أو يمنعه به من النار.

فالبُخلاء قسمان، والمراؤون قسمان، وهكذا المنافقون قسمان:

منافقٌ نفاقًا عمليًّا؛ بإخلاف الوعد، وبالكذب، ونحو ذلك.

ومنافقٌ نفاقًا اعتقاديًّا، وهو من أكفر الناس وأبعدهم عن الهدى، نسأل الله العافية.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ۝ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ۝ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:40- 42].

يقول تعالى مُخْبِرًا أنَّه لا يظلم أحدًا من خلقه يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْقَالَ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، وَلَا مِثْقَالَ ذرَّةٍ، بل يُوفِّيها له، وَيُضَاعِفُهَا لَهُ إِنْ كَانَتْ حَسَنَةً، كَمَا قَالَ تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47]، وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُقْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان:16]، وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ۝ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:6- 8].

الشيخ: وهذا الأمر يُوجب على المؤمن الحذر من السَّيئات: دقيقها وجليلها، والحرص على الحسنات وإن قلَّت، إذا كانت مثاقيل الذَّر من الخير تُحْسَب لك وتنفعك، فلا تحتقر شيئًا من الخير: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40].

فعليك بالعمل الصَّالح من التَّسبيح والتَّهليل والتَّحميد والتَّكبير، والصَّدقة ولو بالقليل، لا تحتقر العمل الصَّالح، أكثر منه، قليله وكثيره، فإنَّ مثاقيل الذَّر تُحسَب لك، وهكذا الشَّر احذره، قليله وكثيره، فإنَّ مثاقيلَ الذَّر تُحْسَب عليك، ويا لها من آيةٍ عظيمةٍ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، ويقول سبحانه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ، حبّة من خردل خير وشرّ، فالأمر عظيم.

فينبغي للعاقل أن تكون عنده حسبة في أعمال الخير: دقيقه وجليله؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ لعدي بن حاتم: اتَّقِ النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، ما من أحدٍ إلا سيُكلّمه ربُّه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلَّا ما قدَّم، وينظر عن شماله فلا يرى إلَّا ما قدَّم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النَّار، فاتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ رواه الشَّيخان في "الصحيحين"، فهذا فيه الحثّ العظيم على العمل الصَّالح: القليل والكثير، وفيه التَّحذير من عمل السّوء: قليله وكثيره.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ، وَفِيهِ: فَيَقُولُ اللَّهُ : ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ مِنَ النَّارِ، وَفِي لَفْظٍ: أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجُوهُ مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو سَعِيدٍ: اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يُؤْتَى بِالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رُؤُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، مَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ. فَتَفْرَحُ الْمَرْأَةُ أَنْ يَكُونَ لَهَا الحقُّ على أبيها أو أمِّها أَوْ أَخِيهَا أَوْ زَوْجِهَا. ثُمَّ قَرَأَ: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، فَيَغْفِرُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ مَا يَشَاءُ، وَلَا يَغْفِرُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ شَيْئًا، فَيُنْصَبُ لِلنَّاسِ، فَيُنَادَى: هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، مَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ. فَيَقُولُ: رَبِّ، فَنِيَتِ الدُّنيا، من أين أوتيهم حقوقهم؟ فيقول: خُذُوا مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، فَأَعْطُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ بِقَدْرِ مظلمتِهِ، فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ فَفَضَلَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ضَاعَفَهَا اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بِهَا الْجَنَّةَ. ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا، قَالَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ.

وَإِنْ كَانَ عَبْدًا شَقِيًّا قَالَ الْمَلَكُ: رَبِّ، فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِيرٌ. فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّارِ.

وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زَاذَانَ بِهِ نَحْوَهُ، وَلِبَعْضِ هَذَا الْأَثَرِ شَاهِدٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

س: ..............؟

ج: ما هو بلازمٍ؛ لأنَّ الكفر يُحبط الأعمال، مثاقيل الذَّر هذه تزول، إذا جاء ناقضٌ من نواقضه بطلت مثاقيل الذَّر، ما بقيت، لو سبَّ الله، أو سبَّ الرسول، أو تنقص الدِّين، أو جحد وجوب الصَّلاة؛ حبط كل شيءٍ، وهكذا ترك الصلاة إذا قيل بكفر تاركها، الحكم واحد، إذا كان معه ناقضٌ من نواقض الإسلام ما بقيت له حسنة، كل الحسنات تذهب، تبطل: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، لا يبقى له ولا مثاقيل الذَّر، كلها تحبط.

الطالب: (د س فق) هارون بن عنترة بن عبدالرحمن الشَّيباني، عن سعيد بن جبير، وعنه الثّوري ويعقوب القمّي، وثَّقه أحمدُ وابنُ معين.

س: ..............؟

ج: ما سمعت الآن؟ البخل بالعلم من أعظم البخل، تقدّم البحثُ فيه، لا تنعس.

س: لكن تدخل فيه حقوق الطبع، تدخل في هذا؟

ج: هذا محل نظرٍ، أقول: محل نظرٍ.