وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَ الطَّائِفِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَذِنَ لَهُ، فَجَاءَهُمْ فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ فِي حِصْنِهِمْ وَقَالَ: لَا يَهُولَنَّكُمْ قَطْعُ مَا قُطِعَ مِنَ الْأَشْجَارِ.. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: دَعَوْتُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْذَرْتُهُمُ النَّارَ، وَذَكَّرْتُهُمْ بِالْجَنَّةِ، فَقَالَ: كَذَبْتَ، بَلْ قَلْتَ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِالْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن سعدان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ ، قَالَ: حَاصَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَصْرَ الطَّائِفِ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَن بَلَّغَ بِسَهْمٍ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ، فَبَلَّغْتُ يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ عَدْلُ مُحَرَّرٍ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ أعتق رجلًا مسلمًا فإنَّ الله جعل كُلَّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ وِقَاءً، كُلّ عَظْمٍ بِعَظْمٍ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً فإنَّ الله جَاعِلٌ كُلَّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا مِنَ النَّارِ.
وَرَوَاهُ أَبُو داود والترمذي، وصححه النسائي مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، سَمِعَ سُفْيَانَ: حدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وعندي مُخنَّثٌ، فسمعه يَقُولُ لِعَبْدِاللَّهِ ابْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلَانَ؛ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ، وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُخَنَّثُ هِيتٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ بِهِ، وَفِي لَفْظٍ: وَكَانُوا يَرَوْنَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ، وَفِي لَفْظٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَلَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ ما هاهنا، لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ هَؤُلَاءِ يَعْنِي: إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَفْهَمُ ذَلِكَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور:31].
وَالْمُرَادُ بِالْمُخَنَّثِ فِي عُرْفِ السَّلَفِ الَّذِي لَا هِمَّةَ لَهُ إِلَى النِّسَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الَّذِي يُؤْتَى، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ قَتْلُهُ حَتْمًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَكَمَا قَتَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ، وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ" يَعْنِي بِذَلِكَ عُكَنَ بَطْنِهَا.
الشيخ: يعني: سمينة.
فَإِنَّهَا تَكُونُ أَرْبَعًا إِذَا أَقْبَلَتْ، ثُمَّ تَصِيرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثِنْتَيْنِ إِذَا أَدْبَرَتْ.
وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ، مِنْ سَادَاتِ ثَقِيفٍ.
وَهَذَا الْمُخَنَّثُ قَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ اسْمَهُ هِيتٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، لَكِنْ قَالَ يُونُسُ: عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَوْلًى لخالته بنت عمرو بن عايد مُخنث يقال له: ماتع، يَدْخُلُ عَلَى نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في بيته، ولا نرى أنه يفطن لشيءٍ من أمور النساء مما يفطن إليه رجال، وَلَا يُرَى أَنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ إِرْبًا، فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَقُولُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: يَا خَالِدُ، إِنِ افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الطَّائِفَ فَلَا تَنْفَلِتَنَّ مِنْكُمْ بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ؛ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ، وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ سَمِعَ هَذَا مِنْهُ: أَلَا أَرَى هَذَا يَفْطِنُ لِهَذَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ لِنِسَائِهِ: لَا يدخُلَنَّ عَلَيْكُمْ، فَحُجِبَ عَنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
الشيخ: والمعنى ظهر أنه يفهم ما يُرغب في النساء، ليس بالمتشبه بالنساء، فالمخنث هو المتشبه بالنساء في أخلاقه وكلماته ورعونته، فلما ذكر هذا الكلام ظهر منه أنه يُميز بين ما يُرغب في النكاح وما لا يُرغب في النكاح، فمُنع من الدخول، نعم.
س: المُميز الذي فوق السبع إذا كان يعرف أمور النساء يُمنع من الدخول؟
ج: هذا يرجع إلى المصلحة، يرجع إلى ولي الأمر، القرآن قال: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا [النور:59]، إذا بلغ الحُلم، أما قبل ذلك فيُمنع في الأحوال الثلاثة التي بيَّنها الله في سورة النور.
س: يعني ضابط التَّخنث هو الرغبة في النساء ومُشابهتهنَّ؟
ج: نعم، عدم الرغبة بهنَّ، والتَّشبه بهنَّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: حدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي العبَّاس الشَّاعِرِ الْأَعْمَى، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا قَالَ: إِنَّا قافلون غدًا إن شاء الله، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتح؟! فَقَالَ: اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ، فَغَدَوْا فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ، فَقَالَ: إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَعْجَبَهُمْ، فَضَحِكَ النَّبيُّ ﷺ، وَقَالَ سُفْيَانُ مرَّةً: فَتَبَسَّمَ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ، وَعِنْدَهُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَاخْتَلَفَ في نُسخ البخاري؛ ففي نسخةٍ كذلك عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هريرة قال: لما مضت خمس عشرة مِنْ حِصَارِ الطَّائِفِ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدُّئِلِيَّ فَقَالَ: يَا نَوْفَلُ، مَا تَرَى فِي الْمُقَامِ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ، إِنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَضُرَّكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال لأبي بكر وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَهَرَاقَ مَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَوْمَكَ هَذَا مَا تُرِيدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ، قَالَ: ثمَّ إِنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ -وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي إِنْ فتح الله عليك حُلِيَّ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ، أَوْ حُلي الفارعة بنت عقيل -وكانت من أحلى نساء ثقيفٍ- فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهَا: وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ فِي ثقيفٍ يا خويلة؟ فخرجت خولة فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فقال: يا رسول الله، ما حديث حدَّثتنيه خولة زَعَمَتْ أَنَّكَ قُلْتَهُ؟! قَالَ: قَدْ قُلْتُهُ، قَالَ: أوما أُذن فِيهِمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَلَا أُؤَذِّنُ بِالرَّحِيلِ؟ قال: بلى، فأذَّن عمرُ بالرحيل.
فلما استقبل النَّاسُ نَادَى سعيد بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَسِيدِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عِلَاجٍ: أَلَا إِنَّ الْحَيَّ مُقِيمٌ، قَالَ: يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَجَلْ وَاللَّهِ، مَجَدَةً كِرَامًا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا عُيَيْنَةُ، أَتَمْدَحُ الْمُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ جِئْتَ تَنْصُرُهُ؟! فَقَالَ: إِنِّي والله ما جئتُ لِأُقَاتِلَ ثَقِيفًا مَعَكُمْ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَفْتَحَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفَ، فَأُصِيبَ مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً أَطَؤُهَا، لعلها تلد لي رجلًا، فإن ثقيفًا مَنَاكِيرُ.
س: "مناكير" كذا أحسن الله إليك: "فإن ثقيفًا مناكير"؟
ج: نعم، الله أعلم.
الشيخ: هداهم الله بعد هذا، وجاءوا مسلمين بعد ذلك والحمد لله والله أكبر، لله الحكمة.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَرَوَى يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ الْمُكَرمِ عَمَّنْ أَدْرَكُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَهْلَ الطَّائِفِ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُمْ وَلَمْ يُؤْذَنْ فِيهِمْ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَجَاءَهُ وَفْدُهُمْ فِي رَمَضَانَ فَأَسْلَمُوا.
وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
الشيخ: مثلما قال في دوسٍ لما قيل له: ادعُ عليهم، قال: اللهم اهدِ دوسًا وائتِ بهم، فهداهم الله وجاءوا، فالدعاء لهم بالهداية خير من الدعاء عليهم، إلا مَن عاند وكابر وآذى المسلمين والله المستعان.
وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالطَّائِفِ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وهم اثنا عشر، فَمِنْ قُرَيْشٍ: سَعِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وعرفطة بن حباب -حليف لبني أمية بن الأسد بن الغوث- وعبدالله ابن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رُمِيَ بِسَهْمٍ فَتُوُفِّيَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وعبدالله ابن أبي أمية ابْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ مِنْ رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَئِذٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ -حَلِيفٌ لِبَنِي عَدِيٍّ- وَالسَّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ السَّهْمِيُّ، وَأَخُوهُ عَبْدُاللَّهِ، وَجُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ.
وَمِنَ الْأَنْصَارِ ثُمَّ مِنَ الْخَزْرَجِ: ثَابِتُ بن الجذع الأسلمي، وَالْحَارِثُ بْنُ سَهْلِ ابْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيُّ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ مَنْ بَنِي سَاعِدَةَ.
وَمِنَ الْأَوْسِ: رُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَطْ.
فَجَمِيعُ مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ اثنَا عَشَرَ رَجُلًا: سَبْعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
مداخلة: في "القاموس" يقول: النكر والنَّكارة والنَّكراء والنُّكر بالضم: الدهاء والفطنة، رجل نكر .....
الشيخ: هو من هذا الباب، نعم.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ولما انصرف رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَاجِعًا عَنِ الطَّائِفِ قَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أبي سلمى يذكر حنينًا والطائف:
كَانَتْ عُلَالَة يَوْمَ بَطْنِ حنينٍ | وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ وَيَوْمَ الْأَبْرَقِ |
جَمَعَتْ بِإِغْوَاءٍ هَوَازِنُ جَمْعَهَا | فَتَبَدَّدُوا كَالطَّائِرِ الْمُتَمَزِّقِ |
لَمْ يَمْنَعُوا مِنَّا مَقَامًا وَاحِدًا | إِلَّا جِدَارَهُمُ وَبَطْنَ الْخَنْدَقِ |
وَلَقَدْ تَعَرَّضْنَا لِكَيْمَا يَخْرُجُوا | فَاسْتَحْصَنُوا مِنَّا بِبَابٍ مُغْلَقِ |
تَرْتَدُّ حَسْرَانَا إِلَى رجراجةٍ | شَهْبَاءَ تَلْمَعُ بِالْمَنَايَا فَيْلَقِ |
مَلْمُومَةٍ خضراء لو قذفوا بها | حصنًا لَظَلَّ كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقِ |
مَشْيَ الضِّرَاءِ عَلَى الهراس كأننا | قدر تفرق في القياد ويلتقي |
فِي كُلِّ سابغةٍ إِذَا مَا اسْتَحْصَنَتْ | كَالنِّهْيِ هَبَّتْ رِيحُهُ الْمُتَرَقْرِقِ |
جدلٍ تَمَسُّ فُضُولُهُنَّ نِعَالَنَا | مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ وَآلِ مُحَرِّقِ |
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبُو حَفْصٍ: حدَّثنا الفريابي: حدَّثنا أبان: حدَّثنا عمرو -هُوَ ابْنُ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ: حدَّثَنَا عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن جدِّه صخر -هو أبو الْعَيْلَةِ الْأَحْمَسِيُّ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ غَزَا ثَقِيفًا، فَلَمَّا أَنْ سَمِعَ ذَلِكَ صَخْرٌ رَكِبَ فِي خَيْلٍ يُمِدُّ النَّبِيَّ ﷺ، فَوَجَدَهُ قَدِ انْصَرَفَ ولم يفتح، فجعل صخرٌ حينئذٍ عهدًا وَذِمَّةً: لَا أُفَارِقُ هَذَا الْقَصْرَ حَتَّى يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلم يُفَارِقْهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَخْرٌ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ ثَقِيفًا قَدْ نَزَلَتْ عَلَى حُكْمِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا مقبلٌ بهم، وهم في خيلي"، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةً، فَدَعَا لِأَحْمَسَ عَشْرَ دَعَوَاتٍ: اللَّهُمَّ بارك لأحمس في خيلها ورجالها.
وأتى الْقَوْمُ، فَتَكَلَّمَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ صَخْرًا أَخَذَ عَمَّتِي، وَدَخَلَتْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: يَا صَخْرُ، إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَادْفَعْ إِلَى الْمُغِيرَةِ عَمَّتَهُ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، وسأل رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَاءً لِبَنِي سُلَيمٍ قَدْ هَرَبُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكُوا ذَلِكَ الْمَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْزِلْنِيهِ أَنَا وَقَوْمِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَنْزَلَهُ وَأَسْلَمَ –يعني: الأسلميين- فَأَتَوْا صَخْرًا فَسَأَلُوهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمُ الْمَاءَ، فَأَبَى، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْلَمْنَا وَأَتَيْنَا صَخْرًا لِيَدْفَعَ إِلَيْنَا مَاءَنَا فَأَبَى عَلَيْنَا، فَقَالَ: يَا صَخْرُ، إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، فَادْفَعْ إِلَيْهِمْ مَاءَهُمْ، قَالَ: نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَتَغَيَّرُ عِنْدَ ذَلِكَ حُمْرَةً حَيَاءً مِنْ أَخْذِه الْجَارِيَةَ وَأَخْذِه الْمَاءَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ.
قُلْتُ: وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يُؤَخَّرَ الفتح عامئذٍ؛ لئلا يُستأصلوا قتلًا؛ لأنه قد تقدم أنه عليه السلام لَمَّا كَانَ خَرَجَ إِلَى الطَّائف فَدَعَاهُمْ إِلَى الله تعالى وإلى أن يُؤووه حتى يُبلغ رسالة ربِّه ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ عمِّه أَبِي طَالِبٍ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَكَذَّبُوهُ، فَرَجَعَ مَهْمُومًا، فَلَمْ يَسْتَفِقْ إلا عند قَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَإِذَا هُوَ بِغَمَامَةٍ، وَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَاهُ مَلَكُ الْجِبَالِ فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلام، وَقَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ؟» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ، لعلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرج مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، فَنَاسَبَ قَوْلهُ: بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ أَنْ لَا يَفْتَحَ حِصْنَهُمْ؛ لِئَلَّا يُقْتَلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَأَنْ يُؤَخَّرَ الْفَتْحُ لِيَقْدَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.