تفسير قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا..}

وَقَوْلُهُ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [النساء:43] التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ فِي التَّطَهُّرِ بِهِ، لَا أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ فِي جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، بَلْ يَكْفِي مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فَقَطْ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ عَلَى أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا -وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ- أنَّه يجب أن يمسح الوجهَ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِضَرْبَتَيْنِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْيَدَيْنِ يَصْدُقُ إِطْلَاقُهُمَا عَلَى مَا يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ، وَعَلَى مَا يَبْلُغُ الْمِرْفَقَيْنِ، كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِمَا مَا يَبْلُغُ الْكَفَّيْنِ، كَمَا فِي آيَةِ السَّرِقَةِ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38].

قَالُوا: وَحَمْلُ مَا أُطْلِقَ هَاهُنَا عَلَى مَا قُيِّدَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ أَوْلَى؛ لِجَامِعِ الطَّهُورِيَّةِ.

وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ فِي أَسَانِيدِهِ ضُعَفَاءَ لَا يَثْبُتُ الْحَدِيثُ بِهِمْ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي حَدِيثٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْحَائِطِ وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثم ضرب ضربةً أخرى فمسح ذِرَاعَيْهِ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ العبدي، وقد ضعَّفه بعضُ الحُفَّاظ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مِنَ الثِّقَاتِ فَوَقَفُوهُ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَابْنُ عدي: وهو الصَّوَابُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ مُنْكَرٌ.

وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ الصِّمَّةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَيَمَّمَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ.

الطالب: عبدالرحمن بن معاوية بن الحويرث –بالتَّصغير- الأنصاري، الزرقي، أبو الحويرث، المدني، مشهور بكُنيته، صدوق، سيئ الحفظ، رُمِيَ بالإرجاء، من السادسة، مات سنة ثلاثين، وقيل بعدها. (د، ق).

الشيخ: وهذا أيضًا ضعيفٌ؛ لأنَّ إبراهيم بن محمد هذا شيخُ الشَّافعي ليس بشيءٍ، ولا يُحتجّ به، المحفوظ هو المسح على الوجه والكفَّين فقط، فالتَّيمم الثَّابت والصَّواب [فيه أن] يمسح الوجه والكفَّين، لا يمسح الذِّراع، ولا العضد، بل يمسح الوجه والكفَّين بضربةٍ واحدةٍ، كما في "الصحيحين" من حديث عمَّار بن ياسر: أنَّ النبي ﷺ علَّمه التيمم ضربة واحدة للوجه والكفَّين، وهذا هو العُمدة في هذا الباب.

س: لو قدَّم مسح اليدين قبل الوجه؟

ج: يُعيد مسح اليدين: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [النساء:43]، ابدؤوا بما بدأ اللهُ به.

س: لكن يُجزئه ولو بدأ باليدين؟

ج: الواجب تقديم الوجه ثم اليدين.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ: حَدَّثَنَا نعيمُ بْنُ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي جُهَيْمٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَبُولُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْحَائِطِ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَيْهِ، فَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْحَائِطِ فَمَسَحَ بِهِمَا يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْكَفَّيْنِ بِضَرْبَتَيْنِ، وَهُوَ قول الشَّافعي في القديم.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنِ ابْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَا تُصَلِّ. فَقَالَ عَمَّارٌ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدْ مَاءً، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا أَتَيْنَا النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ وَضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا، وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ»؟

وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ: حَدَّثَنَا أَبَان: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمَّارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي التَّيَمُّمِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ.

طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ: حَدَّثَنَا عبدُالواحد، عن سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ: حَدَّثَنَا شَقِيقٌ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا مَعَ عَبْدِاللَّهِ وَأَبِي مُوسَى، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِاللَّهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ لَمْ يُصَلِّ؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لا. فقال أبو موسى: أما تذكر إذ قال عمَّار لعمر: أَلَا تَذْكُرُ إِذْ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَإِيَّاكَ فِي إِبِلٍ، فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، فَتَمَرَّغْتُ فِي التُّرَابِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَخْبَرْتُهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقال: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ مَسَحَ كَفَّيْهِ جَمِيعًا، وَمَسَحَ وَجْهَهُ مَسْحَةً وَاحِدَةً بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَا جَرَمَ، مَا رَأَيْتُ عُمَرَ قَنِعَ بِذَاكَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا؟ قَالَ: فَمَا دَرَى عَبْدُاللَّهِ مَا يَقُولُ. وَقَالَ: لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي التَّيَمُّمِ لَأَوْشَكَ أَحَدُهُمْ إِذَا بَرَدَ الْمَاءُ عَلَى جِلْدِهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ.

وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، فقد استدلَّ بذلك الشَّافعي عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّيَمُّمِ أَنْ يَكُونَ بِتُرَابٍ طَاهِرٍ لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْوَجْهِ واليدين منه شيء.

الشيخ: وهذا من المؤلف رحمه الله غريبٌ؛ فإنَّ الحديثَ هذا أخرجه البخاري ومسلمٌ أيضًا، كان الواجبُ على المؤلف أن يُنبه على هذا، حديث عمَّار أخرجه البخاري ومسلم في "الصحيحين"، مع رواية أحمد، وكون عمر وابن مسعود توقَّفا عن ذلك وأشكل عليهما، وقول ابن مسعودٍ: نخشى إذا رخصنا لهم أن يتساهلوا. كلّ هذا ليس بصالحٍ للتَّوقف، بل الواجب الأخذ بالسُّنة والعمل بها، كما دلَّ عليه القرآن، وحديث عمَّار مطابقٌ لما دلَّ عليه القرآن الكريم من أنَّ مَن عدم الماء ضرب الترابَ ومسح وجهه وكفَّيه، هذا هو الواجب عليه، سواء كان جنبًا، أو على حدثٍ أصغر، متى حضرت الصلاةُ فالواجب أن يتيمم إذا لم يجد الماء، وهكذا العاجز عن استخدام الماء من مرضٍ يضرّه الماء؛ حكمه حكم مَن عدم الماء، فيتيمم بضربةٍ واحدةٍ للوجه والكفَّين، هذا هو الأفضل، هذا هو السنة، وإن تيمم بضربتين أجزأ، لكن السنة ضربة واحدة يمسح ببعضها الوجه، وببعضها الكفَّين.

س: ............؟

ج: هذا ما فيه ترتيب، الترتيب تقدّم: مسح وجهه وكفَّيه، كما هو ظاهر السنة: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ، الرِّواية الموافقة للقرآن هي المعتمدة.

س: الترتيب يكون حتى عن الجنابة؟

ج: نعم، في الجنابة والوضوء يمسح وجهه وكفَّيه بالنية عن الجنابة وعن الوضوء.

س: لكن الترتيب يلزم؟

ج: هو الظَّاهر كما نصَّ القرآن.

س: نفخ النبيّ ﷺ يديه حينما ضرب بالأرض؟

ج: لتخفيف التراب، إذا كان فيهما ترابٌ كثيرٌ ينفخ، لو تعلَّق باليدين ترابٌ كثيرٌ ينفخ أفضل؛ لأنَّ المقصود طاعة الله ورسوله في التَّيمم، ليس المقصود الغبار الكثير.

س: إذا ضرب ضربتان تُجزئه؟

ج: تُجزئ لا شكَّ، لكنَّها خلاف الأفضل.

س: ولو كان عالـمًا بحديث عمَّار؟

ج: ولو، تُجزئ مثلما فعل ابنُ عمر، كان ابنُ عمر يضرب ضربتين ويمسح إلى المرفقين اجتهادًا منه.

س: ............؟

ج: وأيش اللي عندك؟ أعد.

حَدَّثَنَا شَقِيقٌ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا مَعَ عَبْدِاللَّهِ وَأَبِي مُوسَى، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِاللَّهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ لَمْ يُصَلِّ؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: ألا تذكر ما قال عمَّار لعمر: أَلَا تَذْكُرُ إِذْ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَإِيَّاكَ فِي إِبِلٍ، فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، فَتَمَرَّغْتُ فِي التُّرَابِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَخْبَرْتُهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقال: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ مَسَحَ كَفَّيْهِ جَمِيعًا، وَمَسَحَ وَجْهَهُ مَسْحَةً وَاحِدَةً بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَا جَرَمَ، مَا رَأَيْتُ عُمَرَ قَنِعَ بِذَاكَ.

الشيخ: الصَّواب: فقال أبو موسى. كلّكم عندكم: فقال عبدالله؟ نسخة الشّعب.

الطالب: إيه، نعم، عبدالله بن مسعود يُخاطب أبا موسى يقول: ألم تر .....

الشيخ: لا، قبله، قبله: عن شقيقٍ قال: كنتُ؟

الطالب: كنتُ مع عبدالله وأبي موسى رضي الله عنهما، فقال أبو موسى لعبدالله: لو أنَّ رجلًا لم يجد الماءَ لم يُصَلِّ؟ فقال عبدُالله: ألا تذكر ما قال عمَّار لعمر رضي الله عنهما: أَلَا تَذْكُرُ إِذْ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟

الشيخ: في هذا الصَّواب: فقال أبو موسى، الرِّواية فيها اختصارٌ.

الطالب: في نسخة الشّعب: فقال عبدالله: لا، فقال أبو موسى: أما تذكر.

الشيخ: هذا الصَّواب، الذي عند الشّعب هو الصَّواب: قال عبدالله: لا، فقال أبو موسى. نعم؛ لأنَّ أبا موسى هو الذي ذكَّر عبدالله بهذا، فقال عبدالله: إنَّ عمر لم يقتنع.

س: المسح على الجدار النَّاعم؟

ج: إذا كان فيه غبارٌ تيمم به، أمَّا إذا وجد الترابَ يبدأ بالتراب: وجُعِلت تربتُها لنا طهورًا، جُعِلَ الترابُ لي طهورًا، فإذا وجد الترابَ يتيمم بالتراب، فإذا ما وجد شيئًا، صار في محلٍّ ما فيه إلا رملٌ أو جصٌّ يتيمم والحمد لله، هذا الصَّعيد، هذا الصَّعيد الذي عنده.

س: السّبخة؟

ج: والسّبخة كذلك، إذا كان ما عندك إلا أرضٌ سبخة يتمم منها: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

الطالب: نُكمل الحديث؟

الشيخ: فقال أبو موسى، نعم.

فقال أبو موسى: ألا تذكر ما قال عمَّار لعمر رضي الله عنهما: أَلَا تَذْكُرُ إِذْ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَإِيَّاكَ فِي إِبِلٍ، فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، فَتَمَرَّغْتُ فِي التُّرَابِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَخْبَرْتُهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقال: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ مَسَحَ كَفَّيْهِ جَمِيعًا، وَمَسَحَ وَجْهَهُ مَسْحَةً وَاحِدَةً بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَا جَرَمَ، مَا رَأَيْتُ عُمَرَ قَنِعَ بِذَاكَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]؟ قَالَ: فَمَا دَرَى عَبْدُاللَّهِ مَا يَقُولُ، وَقَالَ: لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي التَّيَمُّمِ لَأَوْشَكَ أَحَدُهُمْ إِذَا بَرَدَ الْمَاءُ عَلَى جِلْدِهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ.

الشيخ: وهذا لا حرجَ فيه، إذا برد الماءُ ولم يجد ما يُدفئه به وصار الخطرُ، مثل: العاجز عن استعمال الماء؛ كالفاقد له الذي في البرية -في السفر- وليس عنده ما يُسخن به الماء يتيمّم، نعم.

وَقَالَ في الْمَائِدَةِ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، فقد استدلَّ بذلك الشَّافعي عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّيَمُّمِ أَنْ يَكُونَ بِتُرَابٍ طَاهِرٍ لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْوَجْهِ واليدين منه شيءٌ.

الشيخ: يعني لقوله منه: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ دلَّ على أنَّ له غبارًا يتَّصل بالوجه واليدين.

كما روى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَنِ ابْنِ الصِّمَّةِ: أَنَّهُ مَرَّ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يَبُولُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَامَ إِلَى جِدَارٍ فَحَتَّهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ، فضرب بيده عليه، ثم مسح وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أَيْ: فِي الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لَكُمْ، وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ؛ فَلِهَذَا أَبَاحَ لَكُمْ إِذَا لَمْ تَجِدُوا الْمَاءَ أَنْ تَعْدِلُوا إِلَى التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ، والتَّيمم نِعْمَةٌ عَلَيْكُمْ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]؛ ولهذا كانت هذه الأُمّة مخصوصة بمشروعية التَّيَمُّمِ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ، كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ -وَفِي لَفْظٍ: فَعِنْدَهُ طَهُورُهُ وَمَسْجِدُهُ- وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً.

وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ.

وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:43] أي: ومن عفوه عنكم وغُفرانه لَكُمْ أَنْ شَرَعَ التَّيَمُّمَ، وَأَبَاحَ لَكُمْ فِعْلَ الصَّلاة به إذا فقدتم الْمَاءَ؛ تَوْسِعَةً عَلَيْكُمْ، وَرُخْصَةً لَكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِيهَا تَنْزِيهُ الصَّلَاةِ أَنْ تُفْعَلَ عَلَى هَيْئَةٍ نَاقِصَةٍ: مِنْ سُكْرٍ حَتَّى يَصْحُوَ الْمُكَلَّفُ وَيَعْقِلَ مَا يَقُولُ، أَوْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْتَسِلَ، أَوْ حَدَثٍ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ عَادِمًا لِلْمَاءِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَرْخَصَ فِي التَّيَمُّمِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ رَحْمَةً بِعِبَادِهِ، وَرَأْفَةً بِهِمْ، وَتَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.