تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ۝ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ۝ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:44- 46].

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ -عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ- أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَيُعْرِضُونَ عمَّا أنزل الله على رسوله، وَيَتْرُكُونَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ حُطَامِ الدُّنيا، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أَيْ: يَوَدُّونَ لَوْ تَكْفُرُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَتَتْرُكُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ أَيْ: هو أعلم بِهِمْ وَيُحَذِّرُكُمْ مِنْهُمْ، وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا أَيْ: كَفَى بِهِ وَلِيًّا لِمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، وَنَصِيرًا لِمَنِ اسْتَنْصَرَهُ.

الشيخ: وهذا يُبين لنا شدّة عداوة أهل الكتاب للمُسلمين، ولا سيما اليهود -عليهم لعائن الله- فهم جمعوا بين الكفر والحسد وإيثار الدُّنيا على الآخرة، وقد أعطاهم الله نصيبًا من الكتاب، قد علموا شيئًا من الكتاب، وقامت عليهم الحجّة، عندهم التَّوراة، وعند ضُلَّال بني إسرائيل من علمائهم الإنجيل، ومع هذا ضلّوا عن السَّبيل، والتمسوا الضَّلالة، وصدُّوا عن الحقِّ، وبرزوا بالعداوة، ولا شكَّ أنَّ ذلك من أعظم الأدلة على شدّة كفرهم وضلالهم وحقدهم على المسلمين، هم يشترون الضَّلالة، يعتاضونها عن الهدى، ويبذلون فيها الأموال ليصدّوا الناسَ عن الحقِّ، فهم أعداء لا شكَّ في عداوتهم؛ ولهذا قال سبحانه في سورة المائدة: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]؛ لأنها عداوة عن قصدٍ، وعن علمٍ، وعن بغيٍ، بخلاف النَّصارى، فغالبهم ضُلَّال، جُهَّال، وإن كان فيهم بعضُ علمائهم المعاندين، لكن أغلبهم في جهالةٍ، أغلبهم على الجهالة والضَّلالة.

وفي هذا أيضًا بيان شدّة جريمة مَن خالف الحقَّ مع العلم، وآثر الدنيا على الآخرة، وهذا أشدّ جريمةً، وأعظم إثمًا، وأسوأ عاقبةً ممن ترك الحقَّ عن ضلالةٍ وجهلٍ؛ ولهذا صار المنافقون في الدَّرك الأسفل من النار؛ لأنهم آثروا الكفرَ على الإيمان عن بصيرةٍ، أبطنوا الكفرَ، وأظهروا الإسلام؛ طمعًا في الدنيا، ورغبةً في حطامها الفاني، وإيذاءً للمُسلمين، وتلبيسًا عليهم، فصاروا أخبث الناس، وأشدّ الناس عذابًا، نسأل الله العافية.

س: لا يزال بأيديهم علمٌ إلى الآن؟

ج: نعم، إلى الآن.

ثُمَّ قَالَ تعالى: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا "من" في هذا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، كَقَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج:30]، وقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء:46] أي: يتأوَّلون الكلامَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَيُفَسِّرُونَهُ بِغَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ قَصْدًا مِنْهُمْ وَافْتِرَاءً، وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا أَيْ: يَقُولُونَ: سَمِعْنَا مَا قُلْتَهُ يَا مُحَمَّدُ وَلَا نُطِيعُكَ فِيهِ. هَكَذَا فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي كفرِهم وعنادِهم، وأنَّهم يَتَوَلَّوْنَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ بَعْدَمَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِثْمِ وَالْعُقُوبَةِ.

الشيخ: وهذا أقبح الجهل، وأقبح الانحراف؛ إنسانٌ يقدم على الباطل وعلى ما يُغضِب الله عن بصيرةٍ، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، يأتون الأمرَ عن بصيرةٍ، ويُؤثرون الباطلَ عن بصيرةٍ؛ إيثارًا للدنيا، وإيثارًا للطَّمع العاجل، وحسدًا وبغيًا: لأيش يكون الرسول من العرب ما هو منَّا؟! لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، يعني: الإنسان تكون له عبرة، كيف تصل العقولُ إلى هذه الحالة؟ عقول تعرف وتفهم ثم ترضى بالكفر والضَّلال عن بصيرةٍ، وترضى بالعذاب بدل النَّعيم عن بصيرةٍ، كيف يكون هذا الانتكاس؟ نعوذ بالله.

وَقَوْلُهُ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أَيِ: اسْمَعْ مَا نَقُولُ، لَا سَمِعْتَ. رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مَقْبُولٍ مِنْكَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَهَذَا اسْتِهْزَاءٌ مِنْهُمْ واستهتارٌ، عليهم لعنةُ الله.

وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ أَيْ: يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَاعِنَا سَمْعَكَ بِقَوْلِهِمْ: رَاعِنَا، وإنما يُريدون الرّعونة بسبِّهم النبي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا [البقرة:104]؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِكَلَامِهِمْ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَهُ: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ، يَعْنِي: بِسَبِّهِمُ النَّبِيَّ ﷺ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: قُلُوبُهُمْ مَطْرُودَةٌ عَنِ الْخَيْرِ، مُبْعَدَةٌ مِنْهُ، فَلَا يَدْخُلُهَا مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ نَافِعٌ لَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88]، وَالْمَقْصُودُ أنَّهم لا يُؤمنون إيمانًا نافعًا.

الشيخ: أو ما أظهر من هذا، يعني: قليلًا إيمانهم، يعني: قلَّ مَن يُؤمن منهم، وهو نادرٌ، إيمان مَن يؤمن منهم من أندر النادر، نسأل الله العافية.

فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:46] المقصود أنَّ هؤلاء في غايةٍ من البُعد عن الهدى، لا عن جهلٍ، بل عن إيثارٍ للباطل، وعن عنادٍ، وهم الآن يُعادون المؤمنين، ولا تسمع عنهم مَن تقدَّم للإسلام ودخل في الإسلام على طول العصر: أربعة عشر قرنًا وزيادة، قلَّ أن تسمع واحدًا أسلم من اليهود، والنَّصارى بكثرة يُسلمون، وأنا الآن منذ عقلتُ الدنيا ما علمتُ أنه أعلن أنَّ واحدًا من اليهود أسلم: لا في مصر، ولا في الشام، ولا في فلسطين، ولا في غير ذلك، ولا في أمريكا، ما بلغني ولا سمعتُ أنَّ واحدًا منهم أسلم، نسأل الله العافية.

.............

س: مَن ترك العلمَ لكي لا تقوم عليه الحجّة؟

ج: هذا غلطٌ، هذا غلطٌ، لا يجوز، عليه أن يتعلّم، وعليه أن يسأل الله التَّوفيق، لا يترك العلم حتى يقول: أخاف ما أعمل. هذا من الجهل العظيم، وهذا من خداع الشيطان، ولكن عليه أن يتعلّم، وعليه أن يعمل، نعم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ۝ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:47- 48].

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْإِيمَانِ بِمَا نَزَّلَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ الْكِتَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي فِيهِ تَصْدِيقُ الْأَخْبَارِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ، وَمُتَهَدِّدًا لهم إن لم يَفْعَلُوا بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: مِنْ قبل أن نطمس وجوهًا، فطمسها هُوَ رَدُّهَا إِلَى الْأَدْبَارِ، وَجَعْلُ أَبْصَارِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا مِنْ قَبْلِ أن نطمس وجوهًا فلا نُبقي لها سمعًا، ولا بصرًا، ولا أثرًا، ومع ذلك نردّها إِلَى نَاحِيَةِ الْأَدْبَارِ.

قَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عباسٍ في الآية، وهي مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا: وَطَمْسُهَا أَنْ تعمى، فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا يَقُولُ: نَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ مِنْ قِبَلِ أَقْفِيَتِهِمْ، فَيَمْشُونَ الْقَهْقَرَى، وَنَجْعَلُ لِأَحَدِهِمْ عَيْنَيْنِ مِنْ قَفَاهُ.

وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وهذا أبلغ في العقوبة والنَّكال، وهو مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي صَرْفِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَرَدِّهِمْ إِلَى الْبَاطِلِ، وَرُجُوعِهِمْ عَنِ الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ إِلَى سُبُلِ الضَّلَالَةِ، يَهْرَعُونَ وَيَمْشُونَ الْقَهْقَرَى عَلَى أَدْبَارِهِمْ.

وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ۝ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا [يس:8- 9]: إنَّ هذا مثلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ وَمَنْعِهِمْ عَنِ الْهُدَى.

قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا يَقُولُ: عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أي: في الضَّلال.

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ نَحْوُ هَذَا.

قَالَ السُّدِّيُّ: فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا فَنَمْنَعَهَا عَنِ الْحَقِّ، قَالَ: نُرْجِعُهَا كُفَّارًا، وَنَرُدُّهُمْ قِرَدَةً.

الشيخ: هذا التَّفسير بعيدٌ، التَّفسير الأول هو الظَّاهر: قبل أن نُعاقبكم بهذه العقوبة الشَّنيعة: طمس الوجوه، وجعلها من الأدبار، نسأل الله العافية، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

قَالَ السُّدِّيُّ: فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا فَنَمْنَعَهَا عَنِ الْحَقِّ.

الشيخ: هذا تأويلٌ لا وجهَ له، الأول هو الصَّواب.

قَالَ: نُرْجِعُهَا كُفَّارًا، وَنَرُدُّهُمْ قِرَدَةً.

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَرُدُّهُمْ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ.

وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَسْلَمَ حِينَ سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ إِسْلَامَ كَعْبٍ، فَقَالَ: أَسْلَمَ كَعْبٌ زَمَانَ عُمَرَ، أَقْبَلَ وَهُوَ يُرِيدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَمَرَّ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ: يَا كَعْبُ، أَسْلِمْ. فقال: ألستُم تقرؤون في كتابِكم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ إلى أَسْفَارًا [الجمعة:5]، وَأَنَا قَدْ حَمَلْتُ التَّوْرَاةَ. قَالَ: فَتَرَكَهُ عُمَرُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حِمْصَ، فَسَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهَا حَزِينًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا الْآيَةَ. قَالَ كَعْبٌ: يَا رَبّ، أَسْلَمْتُ. مَخَافَةَ أَنْ تُصِيبَهُ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَى أَهْلَهُ فِي الْيَمَنِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِمْ مُسْلِمِينَ.

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِلَفْظٍ آخَرَ من وجهٍ آخَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ حَلْبَسٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَائِذِ اللَّهِ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْجَلِيلِيُّ مُعَلِّمَ كَعْبٍ، وَكَانَ يَلُومُهُ فِي إِبْطَائِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ لِيَنْظُرَ أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ كَعْبٌ: فَرَكِبْتُ حَتَّى أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا تَالٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا، فَبَادَرْتُ الْمَاءَ فاغتسلتُ، وإني لأمسّ وَجْهِي مَخَافَةَ أَنْ أُطْمَسَ، ثُمَّ أَسْلَمْتُ.

الطالب: (د، ت، ق) يونس بن ميسرة بن حلبس -بفتح المهملة والموحّدة، بينهما لام ساكنة، وآخره مهملة- الحميري، الدّمشقي، الزاهد، عن معاوية وواثلة، وعنه الأوزاعي ومروان بن جناح، وثَّقه الدَّارقطني، قتلته المسودة سنة اثنتين وثلاثين ومئة بدمشق.

س: المسودة؟

ج: دُعاة لبني العباس كانوا يلبسون السَّواد زيًّا لهم، دعاة بني العباس، ضدّ بني أمية.

وَقَوْلُهُ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ يَعْنِي الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي سَبْتِهِمْ بِالْحِيلَةِ عَلَى الِاصْطِيَادِ، وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ قِصَّتِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.

وَقَوْلُهُ: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أَيْ: إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ فَإِنَّهُ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ.

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أَيْ: لَا يَغْفِرُ لِعَبْدٍ لَقِيَهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ أي: من الذُّنُوبِ لِمَنْ يَشَاءُ أَيْ: مِنْ عِبَادِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ.

س: ما الفرق بين الشِّرك والكُفر؟

ج: الشِّرك هو الكفر، والكفر هو الشرك، لكن إطلاق الشِّرك في الغالب على ما كانت عبادته لغير الله، والكفر في الغالب يُطلق على جحد ما أوجب الله، أو جحد لما حَرَّم الله، أو سبّ ونحوه، وإلَّا فكل ما يُسمَّى شركًا يُسمَّى: كفرًا، وما سُمِّي كفرًا يُسمَّى شركًا.

س: القصّة التي ذُكرت في إسلام كعب هذه صحيحة؟

ج: ما أدري والله، المقصود هو إسلامه بعد وفاة النبي ﷺ، رحمه الله، وعنده غرائب وعجائب.

س: هو أسلم في عهد النبي أو بعد عهد النبي؟

ج: في عهد النبي، لكن ما قَدِمَ إلَّا بعد ذلك، ما قدم المدينة إلا بعد وفاة النبي.

.............