تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ..}

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ۝ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:64- 65].

يَقُولُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ أَيْ: فُرِضَتْ طَاعَتُهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ.

وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا يُطِيعُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِي، يَعْنِي: لَا يُطِيعُهُمْ إِلَّا مَنْ وَفَّقْتُهُ لِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152] أَيْ: عَنْ أَمْرِهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَسْلِيطِهِ إِيَّاكُمْ عَلَيْهِمْ.

الشيخ: وهذه هي المشيئة القدرية، هذا الإذن القدري: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ يعني: بإذنه الكوني القدري، وإلا فإذنه الشَّرعي كل الناس مأمورون بطاعة الله، قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:54]، فالجميع مأمورون بطاعة الله ورسوله إذنًا شرعيًّا، وأمرًا شرعيًّا، لكن لا يقبل الطاعة ولا يهتدي إلَّا مَن أذن الله له كونًا، مَن سبقت له السَّعادة هذا هو الذي يمتثل، ومَن سبقت له الشَّقاوة لم يمتثل؛ ولهذا قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].

وهو سبحانه أمرهم بطاعة الرسل، وخلقهم لذلك، وأمرهم بتقواه، وأذن لهم في ذلك شرعًا، ولكن منهم مَن أطاع، ومنهم مَن عصى، فمَن أطاع فقد أطاع بإذن الله الكوني القدري، وإذنه الشَّرعي جميعًا، وافق الشَّرعي، ومَن عصى فقد خالف الإذن الشَّرعي والأمر الشَّرعي، ولكنَّه لم يخرج عن إذنه القدري الكوني، ومشيئته القدرية: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن:11] الكوني القدري، ولا حُجَّة لهم في ذلك، وهو سبحانه خلقهم وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وجعل لهم عقولًا واختيارًا وإرادةً وفعلًا، فمَن قبل الحقَّ وأقبل عليه وأراده فله الثَّواب الجزيل والعاقبة الحميدة، ومَن أبى فله النَّار؛ ولهذا يتوعدهم سبحانه في آياتٍ كثيرات بالنار؛ ليمتثلوا ويُطيعوا، قال جلَّ وعلا: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29]، فهذا الأمر تهديدٌ وتوبيخٌ وتخويفٌ وتحذيرٌ، ليس إذنًا لهم في الكفر، ولكنَّه أمر تهديدٍ وتوبيخٍ وتحذيرٍ؛ ولهذا قال بعدها: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29]، هذا جزاء مَن أبى وعاند الحقَّ ولم يقبل أمر الله الشَّرعي ..... قال: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40]، وعيدٌ وتهديدٌ، يعني: اعملوا ما شئتُم وسوف تلقون جزاءكم: إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.

فالناس غير مخيّرين، بل مأمورون، مفروضٌ عليهم أن يُطيعوا الله ورسوله، لكن لهم اختيار، ولهم مشيئة استحقّوا عليها الثَّواب والعقاب، وأمر الله لازمٌ لهم، يجب عليهم أن يمتثلوا أمر الله، وتلزمهم طاعة الله، وعليهم أن يعبدوه وحده، وقد أعطاهم اللهُ العقولَ والبصائرَ والإرادات والفعل: لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ [التكوير:28]، فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ [المدثر:55]، ولكن منهم مَن أطاع وامتثل ووفّق للحقِّ، وهم الأقلّ، ومنهم مَن أبى وعاند، وهم الأكثرون.

فالواجب على المكلَّف أن يحذر طاعةَ هواه وشيطانه، وأن يمتثل أمر الله، وأن يُسارع إلى مراضيه، وأن يستقيم على الحدود التي حدَّها، هذا هو طريق النَّجاة: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ، أُرْسِلَ ليُطاع، وأمر الناس بطاعته وألزمهم، فمَن أطاع فله الجنّة والكرامة والسَّعادة، ومَن أبى فقد خالف أمر الله وإرادته الشَّرعية، فله الخيبة والنَّدامة.

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية، يُرْشِدُ تَعَالَى الْعُصَاةَ وَالْمُذْنِبِينَ إِذَا وَقَعَ مِنْهُمُ الْخَطَأُ وَالْعِصْيَانُ أَنْ يَأْتُوا إِلَى الرَّسُولِ ﷺ فَيَسْتَغْفِرُوا اللَّهَ عِنْدَهُ، وَيَسْأَلُوهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64].

وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُم الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِهِ "الشَّامِلِ" الْحِكَايَةَ الْمَشْهُورَةَ عَن الْعُتْبِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ ﷺ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا، وَقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِي، مُسْتَشْفِعًا بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول: [البسيط]

يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ

ثُمَّ انْصَرَفَ الْأَعْرَابِيُّ، فَغَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ: يَا عُتْبِيُّ، الْحَقِ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ.

الشيخ: هذه الحكاية باطلة، وقد ذكر العلماءُ أنها باطلة، رُوِيَتْ بإسنادٍ مُظْلِمٍ ..... العتبي كما ذكر الذَّهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم، العجب من المؤلف كيف يذكرها؟! وذكر لي بعضُ المشايخ أنَّه وجد نسخةً خطيَّةً فيها بياضٌ تحت هذه الحكاية، كأنَّه يُريد أن يكتب شيئًا فلم يكتب، يعني: المقصود أنها باطلة، ولا يجوز الإتيان إلى قبره يستشفع به، إنما يُسَلِّم عليه، فقط سلامٌ، إنما هذا في حياته فقط ﷺ: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ أي: في حال وجودك حيًّا بين أظهرهم، يدعو الله لهم، ويشفع لهم عليه الصلاة والسلام، أما بعد موته لا، بعد موته عليهم التوبة إلى الله في أي مكانٍ، ولا يأتوا عند القبر، يتوب إلى الله في أي مكانٍ، لكن هذا في حياته في المدينة أو في غير المدينة، جاءوا يطلبون منه أن يشفع لهم؛ ليتوب الله عليهم، هذا هو معنى الآية، أمَّا بعد الوفاة فلم يُشرع لهم ذلك، ولو كان مشروعًا لفعله الصَّحابة وهم أعلم الناس به، هم أعلم الناس، وأفضل الناس بسيرته وهديه ودينه.

المقصود أنَّ هذا باطلٌ، والحكاية هذه باطلة، ولا أساسَ لها، والعتبي غير معروفٍ، ولا يُعتمد عليه لو صحَّت الحكاية، لو صحَّت عنه لا يُعتمد عليه، فكيف وإسنادها باطلٌ إلي العتبي نفسه؟ نعم.

س: بعضهم يقول: إنَّ بعض النُّسخ المخطوطة من تفسير ابن كثير خالية من هذه الحكاية؟

ج: ممكن، لكن بعض النُّسخ فيها بياض تحتها.

س: ............؟

ج: كل هذا باطل، كله من التساهل، كله باطل، يجب الحذر من هذه الحكاية الباطلة.

وَقَوْلُهُ: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] يُقْسِمُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يُحَكِّمَ الرَّسُولَ ﷺ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَمَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ الِانْقِيَادُ لَهُ، بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] أَيْ: إِذَا حَكَّمُوكَ يُطِيعُونَكَ فِي بَوَاطِنِهِمْ، فَلَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا حَكَمْتَ بِهِ، وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فَيُسَلِّمُونَ لِذَلِكَ تَسْلِيمًا كُلِّيًّا مِنْ غَيْرِ مُمَانَعَةٍ، وَلَا مُدَافَعَةٍ، وَلَا مُنَازَعَةٍ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هواه تبعًا لم جِئْتُ بِهِ.

الشيخ: نعم، وهذا هو الواجب على المسلمين حول حكم الله ورسوله: أن يُسلِّموا له تسليمًا: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، متى علم أنَّه حكم الله ورسوله وجب التَّسليم لذلك، والانقياد لذلك، ومَن صار في نفسه حرجٌ من حكم الله ورسوله، وأنه يمكن أن يكون خطأ، وأنَّ الصواب في غير حكم الله؛ يكون ردَّةً عن الإسلام.

أما حكم القاضي فقد يُخطئ ويُصيب، حكم القاضي ليس حكم الله، حكمه هو، قد يُخطئ ويُصيب القاضي، لكن إذا كان واضحًا أنَّه حكم الله ورسوله، والأدلة واضحة فيه وجب الانقيادُ لذلك.

أما حكم القاضي فهو يفصل في الخصومات، وعلى العبد أن يُسلم للحكم من جهة إلزامه به، وإذا كان يظهر له أنَّ القاضي مخطئ هذا شيءٌ آخر، لكن إن وصلت الحكومةُ يلزمه التَّسليم لهذا الأمر من جهة الحكومة، إن تمَّ الحكمُ بينهما فليس له الحقُّ أن يُطالب بعد ذلك.

أمَّا إذا عرف أنَّه حكم الله، وأنَّ الرسولَ حكم فيه، فالواجب الانقياد لذلك، والانشراح لذلك، وعدم الشَّك والريب، بل ينشرح صدره لذلك، وقلبه لذلك؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا هو الحكم العدل، فحكمه هو الحقّ، وما سواه هو الباطل.

س: كراهية المرأة للتَّعدد هل يُعتبر هذا من الحرج، أم هذا اعتبار كراهية فطرية فقط؟

ج: هذا من جهة نفسها، ما تُحبّ أن يكون معها شريكٌ، وإذا كرهت حكم الله؛ أن ترى أنَّ حكمَ الله جائرٌ في هذا، وأنه غلطٌ؛ يكون ردَّةً عن الإسلام، لكن إذا كانت تكره الجارة ما يضرّ، كونها ما تُحبّ أن تكون معها جارة ما يُخالف، لكن عليها أن تُسلِّم لحكم الله، وعليها أن ترضى بحكم الله من جهة الشرع؛ لأنَّه حقٌّ.

س: البيت الشِّعري الذي قاله الأعرابي معناه طيبٌ أم فيه شيءٌ، أو فيه قدحٌ في العقيدة؟

ج: ..... ما صرَّح بالسؤال ..... معناه هو أفضل الناس عليه الصَّلاة والسلام، هو أفضل الخلق، لكن: "يا خير مَن دُفِنَتْ" يُوهم أنَّه يريد أن يسأل شيئًا، ولكنَّه ما صرَّح بالسؤال، كأنَّه يريد الشَّفاعة، يعني: اشفع لي، أو انصرني، يكون شركًا أكبر بهذا.

س: نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه؟

ج: ..... الفداء ما هو للقبر، له هو ﷺ، فيه تجاوز.

س: وسند الحديث الذي بعده: والذي نفسي بيده، لا يُؤمن أحدُكم؟

ج: فيه ضعفٌ عند أهل العلم، رواه صاحب "الحجّة" وضعَّفه آخرون، ولكن معناه صحيحٌ، بعض الأئمّة ضعَّفه، وبعضهم قوَّاه ..... صاحب "الحجة" في كتابه.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: حدَّثنا محمد بن جعفر: حدَّثنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَاصَمَ الزبيرُ رجلًا في شراج الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟! فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، وَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ ﷺ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الْأَنْصَارِيُّ، وكان أشار عليهما ﷺ بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ الآية.

هكذا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَاهُنَا، أَعْنِي فِي كِتَابِ "التَّفْسِيرِ" مِنْ "صَحِيحِهِ" مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ، وَفِي كِتَابِ "الشُّرْبِ" مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ أَيْضًا، وَفِي كِتَابِ "الصُّلْحِ" مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ ابْنِ أَبِي حَمْزَةَ. ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، فَذَكَرَهُ، وَصُورَتُهُ صُورَةُ الْإِرْسَالِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ فِي الْمَعْنَى.

وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَصَرَّحَ بِالْإِرْسَالِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ كَانَ يُخَاصِمُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، كَانَا يَسْقِيَانِ بِهَا كِلَاهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟! فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ.

فَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ ﷺ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ أَرَادَ فِيهِ سَعَةً لَهُ وَلِلْأَنْصَارِيِّ، فَلَمَّا أَحْفَظَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَوْعَى النَّبِيُّ ﷺ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ.

قَالَ عُرْوَةُ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ مَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِلَّا فِي ذَلِكَ: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.

هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ عُرْوَةَ وَبَيْنَ أَبِيهِ الزُّبَيْرِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.

وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَخِيهِ عَبْدِاللَّهِ، فَإِنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَالرَّحْمَنِ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ رَوَاهُ كَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِالْأَعْلَى: حَدَّثَنَا ابْنُ وهبٍ: أخبرني اللَّيْثُ وَيُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ: أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مع النبي ﷺ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كِلَاهُمَا النَّخْلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سرِّحِ الماءَ يمرّ. فأبى عليه الزُّبَيْرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟! فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، وَاسْتَوْعَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ أَرَادَ فِيهِ السَّعَةَ له وللأنصار، فَلَمَّا أَحْفَظَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا فِي ذَلِكَ: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.

وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بِهِ، وَجَعَلَهُ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ فِي مُسْنَدِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَذَا سَاقَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنَ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِاللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ؛ فَإِنَّهُ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ. فَذَكَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَامَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بذكر عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ غَيْرَ ابْنِ أَخِيهِ، وَهُوَ عَنْهُ ضَعِيفٌ.

الشيخ: المقصود أنَّ الحاكم قد تخفى عليه بعضُ الأشياء لذهوله عمَّا وقع عند الأئمّة، والحاصل أنَّ هذه القصّة من الزبير رضي الله عنه وأرضاه أراد بها النبيُّ ﷺ أن يسقي السَّقي المعتاد؛ يعمّ الماء الأرض، ثم يسير إلى أرض الأنصاري، فلمَّا قال الأنصاري الكلمة التي ما كان ينبغي له أن يقولها: أن كان ابن عمَّتِك؟! تغير وجهه عليه الصلاة والسلام وغضب وأمر الزبير أن يأخذ حقَّه كاملًا حتى يستوفي الماء إلى الجدر، إلى أصل الحبس الذي يفصل بينهما حتى يستوفي حقَّه، ثم يُرسله إليه، وهكذا إذا كان الماءُ ينزل، هكذا كل واحدٍ يأخذ حقَّه كاملًا، ثم يُسيره إلى مَن بعده، هكذا حتى يستوفي كل واحدٍ حقَّه.

وهذه من طبيعة البشر إلا مَن عصم الله، قد يُبادر ويُسارع إلى الغضب والتُّهمة من غير صبرٍ، من طبيعة الإنسان: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، من طبيعة البشر السّرعة والعجلة والظّلم إلا مَن رحم الله.

س: هل استوعى النبيُّ ﷺ للزبير حقَّه أو استوفى؟

ج: كلّها واحد: استوعى واستوفى المعنى واحد.

س: ...........؟

ج: أصل الجدر، يعني: الحبس، الحد.

س: الاعتراض على حكم النبي ﷺ؟

ج: مثلما تقدم: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ، غلطٌ من الأنصاري، أقول: غلطٌ من الأنصاري، مَن اتَّهم النبيَّ كفر، اتَّهم النبيَّ بالظلم، لكن الأنصاريّ حمله الحرصُ على حقِّه، وقال هذه الكلمة العوراء القبيحة، وغضب النبيُّ ﷺ ولم يُعاقبه، عفا عنه عليه الصَّلاة والسلام.

س: بعضهم يتّهم الأنصاري بالنِّفاق، هل هذا صحيحٌ؟

ج: قد يكون، يحتمل.

س: يقول بأنَّه شهد بدرًا؟

ج: معناه ليس من المنافقين، نعم.

س: .............؟

ج: لا، هذه في ..... المطر الذي يسيل بين الناس، يجب أن يعدل حتى يقسم بين الناس على السّوية: الأول فالأول، أما الأنهار فلها حكمٌ آخر ..... قد تكون قويةً، وقد تكون ضعيفةً.

س: هل يُؤخذ من هذا أنَّه تكلَّم في سخطه فيُعفى عن كلامه؟

ج: على كل حالٍ هي كلمة مُنكرة، وكون النبي ﷺ عفا عنه هذا يدل على أنَّ الله جلَّ وعلا وفَّق هذا العبد، فقد يرجع ويتوب ..... الرسول ﷺ عفا عنه، وسمح عنه، ولم يُعاقبه، قد يكون، أو ترك النبيُّ ﷺ التَّنبيه لأنَّه ستر عورته وغلطه ونقصه، ويقوم عليه مَن حوله من الصَّحابة، ما بلغني أنَّ الرسولَ ﷺ عاقبه بشيءٍ، بل ظاهر القصّة أنه عفا عنه عليه الصلاة والسلام، وباب التوبة مفتوحٌ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو دُحَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ رَجُلٍ مِنْ آلِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَضَى لِلزُّبَيْرِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا قَضَى لَهُ لِأَنَّهُ ابْنُ عمَّته. فنزلت: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَة.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَيْوَةَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي قَوْلِهِ: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَحَاطِبِ ابْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، اخْتَصَمَا فِي مَاءٍ، فَقَضَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَسْقِيَ الْأَعْلَى ثُمَّ الْأَسْفَلُ. هَذَا مُرْسَلٌ، وَلَكِنْ فِيهِ فَائِدَةُ تَسْمِيَةِ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه.

س: حاطب من المهاجرين؟

ج: هو الظَّاهر أنَّه ..... المهاجرين، لكن الظاهر أنَّه حالف الأنصار فصار في حلفٍ خاصٍّ، وإلا فهو الذي كتب الكتابَ المعروف، قال: لتكون لي يدٌ عند قريشٍ أحمي بها مالي. في قصّة يوم الفتح لما كتب الكتابَ وأعطاه المرأة في قصّةٍ له، هذا ليس من قريشٍ، ولكنَّه من المهاجرين، لكن لعلّ بينه وبين الأنصار حلفًا، انظر "التقريب": حاطب، إن كان له ذكرٌ، وانظر أبا حيوة.

الطالب: عندي حاشية للشيخ مُقبل الوادعي ..... ضعيف، وحاطب مُهاجري، وليس بأنصاريّ.

الشيخ: يحتمل، يحتمل بأنَّه والى الأنصار، حالف الأنصار، يحتمل.

س: الرجل إذا حالف قومًا .....؟

ج: يُنْسَب إليهم بالولاء، يُنْسَب إليهم بالحلف يعني.

س: طيب، إذا كان هذا الحلف .....؟

ج: محتمل، محتمل.

س: ما يكون عفوه لأنَّه حضر بدرًا، كما عفا عن حاطبٍ؟

ج: محتمل، محتمل إن صحَّ عنه، فقصَّته في يوم الفتح الأعظم أعظم من ذلك، ومع ذلك عفا الله عنه؛ لأنَّه قال أنَّه فعلها عن اجتهادٍ، وظنَّ أنه جائزٌ له ليحمي ماله الذي هناك، والله عفا عنه بسابقة بدر، وهذا إن صحَّ أنَّه هو الذي قال هذا الكلام نرجو أنَّ الله يعفو عنه لسابقة بدرٍ رضي الله عنه وأرضاه.