تفسير قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ..}

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ۝ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:50- 51].

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ذِلَّةِ أَهْلِ النَّارِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ شَرَابِهِمْ وَطَعَامِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُجَابُونَ إِلَى ذَلِكَ.

قَالَ السُّدِّيُّ: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يَعْنِي: الطَّعَامَ.

وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَسْتَطْعِمُونَهُمْ وَيَسْتَسْقُونَهُمْ.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَنْ عُثْمَانَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: يُنَادِي الرَّجُلُ أباه أو أخاه فيقول له: قد احترقتُ فأَفِضْ عَلَيَّ مِنَ الْمَاءِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَجِيبُوهُمْ. فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ.

وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ سَوَاءً.

وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ يعني: طعام الجنَّة وشرابها.

الشيخ: وهذا لمزيد التَّوبيخ والتَّقريع لما سلف من أعمالهم الخبيثة؛ لأنَّهم فرَّطوا في الدنيا وضيَّعوا، وقد أُمِرُوا، جاءت الرسل ونزلت الكتب تأمرهم وتنهاهم، تأمرهم بعبادة الله، وتزجرهم عن عبادة الطَّاغوت، فلم يستجيبوا، فلمَّا جاء يوم القيامة، وصار أهلُ الجنَّة إلى الجنة، وأهل النَّار إلى النار، نادى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [الأعراف:44]، أهل الجنّة وجدوا النَّعيم، وأهل النار وجدوا الجحيم، نسأل الله العافية.

ثم نادى: أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يعني: أسعفونا، فيُجيبهم أهلُ الجنة: قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ۝ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ يعني: ولما كانوا بآياتنا يجحدون لكفرهم وجحدهم الحقّ صاروا إلى النار.

فالواجب على العاقل أن ينتبه في هذه الدار -دار العمل- قبل أن يقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24]، يا أسفاه على ما فرطتُ في جنب الله. هذا يوم العمل، هذه دار العمل، دار الاستقامة، دار المحاسبة، دار المجاهدة، أما الآخرة فهي دار الجزاء: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7- 8]، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، والله تقدَّم إلى الناس بالرسل والكتب، وأقام الحجج، وقطع المعاذير.

فالواجب على المكلَّف أن ينتبه، وألا تغرّه الحياة الدنيا بزخرفها وشهواتها، وألا يتبع هواه، وألا يغرّه دُعاة الباطل ودُعاة النار، بل يستعمل عقله، ولينظر لماذا خُلِقَ؟ وبماذا أُمِرَ؟ هل هو مخلوقٌ سُدًى؟ كلا، يقول سبحانه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]، هذا استفهامُ إنكارٍ، ليس الأمرُ كذلك، ويقول أيضًا: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [المؤمنون:115] يعني: كلا لم تُخلقوا عبثًا ولا سُدًى، خُلقتم لأمرٍ عظيمٍ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، خُلِقُوا ليعبدوا الله، ليُطيعوا الله وينقادوا لشرعه، قال تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] يعني: الأمر واضحٌ، أمر تقريعٍ وتوضيحٍ: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، تقريعٌ وتوبيخٌ، ليس بإذنٍ، ولكنَّه تقريعٌ وتوبيخٌ لهم ووعيدٌ لهم؛ ولهذا قال جلَّ وعلا بعدها: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29] يعني: فلن تفوتوا الله، اعملوا، أنتم مخلوقون لطاعة الله، والحقّ قد بان لكم، وقد بُيِّن لكم: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وله الجنة، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ وله النار، هذا وعيدٌ بالعذاب الأليم، فهو وعيدٌ وتقريعٌ وتوبيخٌ.

وهكذا يقول جلَّ وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا يعني: يميلون عن الحقِّ أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت:40]، هل يستويان؟ أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثم يقول مُتوعِّدًا لهم: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40] يعني: فلن تفوتوا الله، بل سوف تُعرضون عليه، ويُجازيكم بأعمالكم.

فليحذر العاقل أن يغترَّ بهذه المهلة بهذه الدار، أو بمَن ضلَّ من الناس، لا، لينظر مَن اهتدى، لينظر بماذا أُمِرَ؟ ما هو المصير؟ ليعدّ العُدَّة، لعله ينجو، ولا يغترّ بالأكثر: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وربّك يقول لك، يُعلّمك أن تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

فأنت اسأل ربَّك صادقًا أن يهديك صراطه المستقيم، وهو دينه الذي بعث به رسلَه، إذا هُدِيتَ له صِرْتَ إلى دار الكرامة ودار النَّعيم التي وعد اللهُ بها أهلَ الصِّراط المستقيم.

إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ، وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ سَوَاءً.

وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ يعني: طعام الجنّة وشرابها.

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ الْمُغِيرَةِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الصَّفَّارُ فِي دَارِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، أَوْ سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الْمَاءُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى أَهْلِ النَّارِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.

وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ قَالُوا لَهُ: لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَى ابْنِ أَخِيكَ هَذَا فَيُرْسِلَ إِلَيْكَ بِعُنْقُودٍ مِنَ الْجَنَّةِ؛ لَعَلَّهُ أَنْ يَشْفِيَكَ بِهِ. فَجَاءَهُ الرَّسُولُ وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ.

س: أحسن الله إليك، أقول: بالنسبة للميت هل أفضل الصَّدقة عنه تسبيل الماء؛ لقصة سعد بن عُبادة؟

ج: الأقرب والله أعلم أنَّه يُنظر ما هو أشدّ حاجة، فإذا كان الناسُ في حاجةٍ إلى الماء سبَّل الماء، وإن كان الناسُ في حاجةٍ إلى غيره من الطَّعام واللباس ..... ينظر حاجة الفقراء، إذا احتاجوا ماءً أسعفهم بالماء، وإن احتاجوا طعامًا أسعفهم بالطَّعام، فالحاجات تختلف، تسبيل الماء فيه خيرٌ عظيمٌ، وهكذا تسبيل الأشياء الأخرى: كالنَّخيل، والأراضي؛ لتُوزع أجرتها بين الناس، واشترى بها حاجات للفُقراء، نعم.

س: قوله: "أفضل الصَّدقة الماء" صحيحٌ هذا؟

ج: يحتاج إلى نظرٍ في سنده: حدَّثنا أيش؟ أعد سنده.

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ الْمُغِيرَةِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الصَّفَّارُ فِي دَارِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، أَوْ سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الْمَاءُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى أَهْلِ النَّارِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.

الشيخ: انظر أبا موسى الصَّفار، وموسى بن المغيرة في "التقريب".

وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ قَالُوا لَهُ: لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَى ابْنِ أَخِيكَ هَذَا فَيُرْسِلَ إِلَيْكَ بِعُنْقُودٍ مِنَ الْجَنَّةِ؛ لَعَلَّهُ أَنْ يَشْفِيَكَ بِهِ. فَجَاءَهُ الرَّسُولُ وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ.

الشيخ: وهذا مرسلٌ؛ أبو صالح تابعي.

مُداخلة: هناك حاشية أحسن الله إليك على الأثر السَّابق الذي عند ابن أبي حاتم بتحقيق الشيخ مقبل بن هادي الوادعي.

الشيخ: إيه، وأيش يقول؟

الطالب: هذا حديثٌ ضعيفٌ؛ فإنَّ موسى بن المغيرة وهو الزّقاق أو الدّقاق، وشيخه أبا موسى الصَّفار مجهولان، هكذا قال الذَّهبي في "الميزان" في ترجمة كلِّ واحدٍ منهما، وذكر هذا الحديث في ترجمة موسى بن المغيرة.

الشيخ: وبهذا يكون ضعيفًا، نعم، ذكرهما صاحب "التقريب" أو ما ذكرهما؟

الطالب: ما هما بموجودين.

الشيخ: كأنهم من رجال أحمد أو غيره.

ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى الْكَافِرِينَ بما كانوا يعتمدونه في الدّنيا باتِّخاذهم الدِّينَ لَهْوًا وَلَعِبًا، وَاغْتِرَارِهِمْ بِالدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَزُخْرُفِهَا عمَّا أُمِرُوا به من العمل للآخرة.

وقوله: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا أي: يُعاملهم مُعَامَلَةَ مَنْ نَسِيَهُمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشِذُّ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ وَلَا يَنْسَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [طه:52]، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى هَذَا مِنْ باب المقابلة، كقوله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، وَقَالَ: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:126].

الشيخ: يعني: ضيَّعتها وتركتها؛ ولهذا ضيَّع وترك، وهو سبحانه لا ينسى شيئًا: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64]، بمعنى أنَّه تركهم في ضلالهم وعماهم وعذابهم، نسأل الله العافية.

وَقَالَ تَعَالَى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية:34].

وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا قَالَ: نَسِيَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَلَمْ يَنْسَهُمْ مِنَ الشَّرِّ.

وَقَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عباسٍ قال: نَتْرُكُهُمْ كَمَا تَرَكُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَتْرُكُهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ كَمَا تَرَكُوا أَنْ يَعْمَلُوا لِلِقَاءِ يَوْمِهِمْ هَذَا.

وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «أَلَمْ أُزَوِّجْكَ؟ أَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرَبَّعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. فَيَقُولُ: أَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فاليوم أنساك كما نسيتني.

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ۝ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأعراف:52- 53].

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِعْذَارِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِإِرْسَالِ الرسل إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول، وأنه كتابٌ مُفَصَّلٌ مُبَيَّنٌ، كقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ الآية [هود:1].

وقوله: فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ للعالمين، أَيْ: عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِمَا فَصَّلْنَاهُ بِهِ، كقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166].

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَرْدُودَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ الآية [الأعراف:2]، وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ الْآيَةَ.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ قد طال الفصلُ، ولا دليلَ عليه، وإنما الأمر أنَّه لما أخبر بما صاروا إليه من الخسارة في الْآخِرَةِ، ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ أَزَاحَ عِلَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، كَقَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]؛ وَلِهَذَا قَالَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أَيْ: مَا وعدوا به مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: ثَوَابَهُ.

وَقَالَ الرَّبِيعُ: لا يزال يجيء من تَأْوِيله أَمْرٌ حَتَّى يَتِمَّ يَوْمَ الْحِسَابِ، حَتَّى يَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، فيتم تأويله يومئذٍ.

وقوله: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

الشيخ: لأنَّ التَّأويل يُطلق على تفسير الشيء، مثل قول ابن جرير: (القول في تأويل قوله) يعني: تفسير قوله تعالى، وقول عائشة: "يتأوَّل القرآن" يعني: يعمل به، ويُفسّر به. ويُطلق التَّأويل على صرف اللَّفظ عن ظاهره إلى معنى آخر؛ لدليلٍ دلَّ على ذلك. ويُطلق التأويل على العاقبة، وهي النهاية: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ [يوسف:100] يعني: هذه نهايتها، وهذه عاقبة الرؤيا، تأويلها: مُنتهاها، ومنها هذه الآية الكريمة: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يعني: عاقبته ومُنتهاه وما يدل عليه وينتهي إليه تأويله: الجنة أو النار، تأويل ما أمر الله به ورسوله، وما نهى الله عنه ورسوله، ونهايته الجنة للمؤمنين، والنار للكافرين، نسأل الله العافية.

يَقُولُ: الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ: تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَتَنَاسَوْهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَيْ: فِي خلاصنا مما صرنا إليه مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، أَوْ نُرَدُّ إِلَى الدَّارِ الدُّنيا فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، كَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27- 28]، كَمَا قَالَ هَاهُنَا: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أي: خسروا أنفسَهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ: ذَهَبَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فلا يشفعون فيهم، ولا ينصرونهم، ولا ينقذونهم مما هم فيه.

الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله، نستجير بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله.