تفسير قوله تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا..}

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ۝ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ۝ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:19- 21].

يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَبَاحَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِزَوْجَتِهِ حَوَّاءَ الْجَنَّةَ أَنْ يَأْكُلَا مِنْهَا مِنْ جَمِيعِ ثِمَارِهَا إِلَّا شَجَرَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَسَدَهُمَا الشَّيطانُ، وسعى في المكر والوسوسة والخديعة؛ ليسلبهما مَا هُمَا فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَاللِّبَاسِ الْحَسَنِ، وَقَالَ كَذِبًا وَافْتِرَاءً: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَيْ: لِئَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ خَالِدَيْنِ هاهنا، وَلَوْ أَنَّكُمَا أَكَلْتُمَا مِنْهَا لَحَصَلَ لَكُمَا ذَلِكُمَا، كَقَوْلِهِ: قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى [طه:120] أَيْ: لِئَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ، كَقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء:176] أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا، وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل:15] أَيْ: لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ.

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ ويحيى ابن أبي كثيرٍ يقرآنِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا، وَقَاسَمَهُمَا أَيْ: حَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ، إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فَإِنِّي مِنْ قَبْلِكُمَا هاهنا، وَأَعْلَمُ بِهَذَا الْمَكَانِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْمُرَادُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، كَمَا قَالَ خَالِدُ بْنُ زهير ابن عمّ أبي ذؤيب: [الطويل]

وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمُ أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذْ مَا نُشُورُهَا

أَيْ: حَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَدَعَهُمَا، وَقَدْ يُخْدَعُ الْمُؤْمِنُ بالله.

وقال قتادةُ في الآية: حلف بالله إني خُلِقْتُ قبلكما، وأنا أعلم منكما، فَاتَّبِعَانِي أُرْشِدُكُمَا.

وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: مَن خدعنا بالله انخدعنا له.

الشيخ: والمعنى أنَّه كما قال الله زيَّن لهما الأمر، وكذب عليهما أنَّ هذا الأكلَ يُسبب الخلدَ في الجنَّة والملك الذي لا يبلى، يعني: تكونا بمنزلة الملائكة: أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، فخدعهما بهذا، وظنَّا صدقَه فيما زيَّن لهما؛ ولهذا وقعا فيما وقعا فيه، فأكلا من الشَّجرة.

والله أباح لهما جميعَ ما في الجنّة من أنواع النَّعيم إلَّا هذه الشَّجرة ابتلاءً وامتحانًا، وهو سبحانه يعلم أنَّ هذا قد يقع، لكن المقصود البيان والتَّحذير من أعداء الله، وكذلك التَّثبت من النَّاصحين، فقد ينصح وهو عدو، فالواجب التَّثبت حتى لا تقبل إلا ما ظهرت صحّته، وظهرت لك منفعته من النَّاصحين، فكم من ناصحٍ كذوبٍ حسودٍ، ولكن المؤمن يحذر ويتباعد عن أسباب الشَّر، ويتَّهم الناصح إذا لم يعلم صدقه ولم يأمنه؛ حتى يكون على بينةٍ.

س: هل يُفهم من الآية أنَّ الملائكة أفضل من بني آدم؟

ج: قد يُفهم منها هذا: إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ يعني: يحصل لكم وصف الملائكة، ولكن الصَّحيح عند أهل السنة والجماعة أنَّ صالحي الإنس أفضل من الملائكة؛ لأنَّ الإنسَ كُلِّفوا وامتُحِنُوا بالشَّهوة والشَّيطان، فصالحهم أفضل من الملائكة، واحتجُّوا بحديثٍ رواه الدَّارمي رحمه الله في الردِّ على بشر المريسي عن النبي ﷺ أنَّه قال: يقول الله : لن أجعل صالح ذُرية مَن خلقتُ بيدي كمَن قلتُ له: كن فكان، يعني: لا أجعلهما سواء، بل أُفَضِّل هؤلاء لما حصل لأبيهم من الخلق بيد الله، ولما ابتلاهم به من الشَّهوة والشَّيطان، فهم على خطرٍ، بخلاف الملائكة؛ فإنَّهم أُعطوا عقولًا وسلموا من أسباب الشَّهوة.

س: ما يُروى مرفوعًا هذا: مَن خدعنا بالله انخدعنا له؟

ج: يُروى عن ابن عمر موقوفًا، ومعنى "ننخدع" نحسب أنه صادق، ما هو معناه أنهم عرفوا خداعه، لا، قد يخدع المؤمن بالله من باب النَّصيحة، فيحسب أنَّ الناصحَ صادقٌ أو مُصيبٌ فتقع المصيبة.

س: يكون الأصلُ في الناس إحسانَ الظنِّ بهم؟

ج: ولا سيما إذا كانوا من أهل الخير، ومن المعروفين ..... ولا تتهما، فالأصل فيهما الخير إذا كانا معروفين بالصِّفات الحميدة، وإلا فالإنسان أصله الظلم والجهل: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود:10]، إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ [هود:9]، فالأصل فيه العدالة، إلا إن استقام على الشَّريعة، وهم الأقلّ.

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:22- 23].

قَالَ سَعِيدُ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ آدَمُ رَجُلًا طُوَالًا كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ، كَثِيرُ شَعْرِ الرَّأْسِ، فَلَمَّا وقع فيما وَقَعَ بِهِ مِنَ الْخَطِيئَةِ بَدَتْ لَهُ عَوْرَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ لَا يَرَاهَا، فَانْطَلَقَ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ، فَتَعَلَّقَتْ بِرَأْسِهِ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهَا: أَرْسِلِينِي. فَقَالَتْ: إِنِّي غَيْرُ مُرْسِلَتِكَ. فَنَادَاهُ رَبُّهُ : يَا آدَمُ، أمني تَفِرُّ؟ قال: يا ربِّ، إني استحيتُك.

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مَرْفُوعًا، والموقوف أصحّ إسنادًا.

وقال عبدُالرزاق: عن سفيان بن عيينة وابن المبارك: أنبأنا الْحَسَنُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الشَّجَرَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ السُّنْبُلَةَ، فَلَمَّا أَكَلَا مِنْهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا.

الشيخ: وهذا أيضًا من أخبار بني إسرائيل؛ لأنَّ ابن عباسٍ لم يعزه إلى النبي ﷺ، الحاصل أنَّها مُبهمة، لم يُبيِّنها الربُّ ، هذه الشَّجرة مُبهمة، فأكلا منها فحصل لهما ما يحصل لابن آدم في الدنيا عند أكل الطَّعام.

وَكَانَ الَّذِي وَارَى عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا أَظْفَارَهُمَا.

وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَرَقِ التِّينِ يَلْزَقَانِ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ.

فَانْطَلَقَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُوَلِّيًا فِي الْجَنَّةِ، فعلقت برأسه شجرةٌ من الجنة، فناداه اللهُ: يَا آدَمُ، أَمِنِّي تَفِرُّ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي استحيتُك يَا رَبِّ. قَالَ: أَمَا كَانَ لَكَ فِيمَا مَنَحْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَبَحْتُكَ مِنْهَا مَنْدُوحَةٌ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِكَ مَا حَسِبْتُ أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ بِكَ كاذبًا. قال: وهو قول الله : وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. قَالَ: فَبِعِزَّتِي لَأُهْبِطَنَّكَ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا تَنَالُ الْعَيْشَ إِلَّا كَدًّا. قَالَ: فَأُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَا يَأْكُلَانِ مِنْهَا رَغَدًا، فَأُهْبِطَ إِلَى غَيْرِ رَغَدٍ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَعُلِّمَ صَنْعَةَ الْحَدِيدِ، وَأُمِرَ بِالْحَرْثِ فَحَرَثَ وَزَرَعَ، ثُمَّ سَقَى حَتَّى إِذَا بَلَغَ حَصَدَ، ثُمَّ دَاسَهُ، ثُمَّ ذَرَاهُ، ثُمَّ طَحَنَهُ، ثُمَّ عَجَنَهُ، ثُمَّ خَبَزَهُ، ثُمَّ أَكَلَهُ، فَلَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ قَالَ: وَرَقُ التِّينِ. صَحِيحٌ إِلَيْهِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة. قال: كَهَيْئَةِ الثَّوْبِ.

وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فِي قَوْلِهِ: يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا قَالَ: كَانَ لِبَاسُ آدَمَ وَحَوَّاءَ نُورًا عَلَى فُرُوجِهِمَا، لَا يَرَى هَذَا عَوْرَةَ هَذِهِ، وَلَا هَذِهِ عَوْرَةَ هَذَا، فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا. رواه ابنُ جريرٍ بسندٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ.

وَقَالَ عَبْدُالرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ آدَمُ: أَيْ رَبِّ، أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَاسْتَغْفَرْتُ؟ قَالَ: إِذًا أُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ. وَأَمَّا إِبْلِيسُ فَلَمْ يَسْأَلْهُ التَّوْبَةَ، وَسَأَلَهُ النّظرة، فأعطى كلَّ واحدٍ منهما الَّذِي سَأَلَهُ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ الحسين، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ قِيلَ لَهُ: لِمَ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيْتُكَ عَنْهَا؟ قَالَ: حَوَّاءُ أَمَرَتْنِي. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَعْقَبْتُهَا أَنْ لَا تَحْمِلَ إِلَّا كَرْهًا، وَلَا تَضَعَ إِلَّا كَرْهًا. قَالَ: فَرَنَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ حَوَّاءُ، فَقِيلَ لَهَا: الرَّنَّةُ عَلَيْكِ وَعَلَى وَلَدِكِ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمُ مِنْ رَبِّهِ.

س: أحسن الله إليك، ما نقل عن مجاهدٍ وقال: إنَّه صحيحٌ إليه. يكون أخذه من بني إسرائيل؟

ج: هذا هو الأصل، الأصل هو هذا، نعم.

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ۝ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:24- 25].

قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ فِي اهْبِطُوا آدَمُ وَحَوَّاءُ وَإِبْلِيسُ وَالْحَيَّةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرِ الْحَيَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْعُمْدَةُ فِي الْعَدَاوَةِ آدَمُ وَإِبْلِيسُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا الآية [طه:123]، وَحَوَّاءُ تَبَعٌ لِآدَمَ، وَالْحَيَّةُ إِنْ كَانَ ذِكْرُهَا صَحِيحًا فَهِيَ تَبَعٌ لِإِبْلِيسَ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي هَبَطَ فِيهَا كُلٌّ مِنْهُمْ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُ تِلْكَ الْأَخْبَارِ إِلَى الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، وَلَوْ كَانَ فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الْبِقَاعِ فَائِدَةٌ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ لَذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، أَوْ رَسُولُهُ ﷺ.

وَقَوْلُهُ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ أَيْ: قَرَارٌ وَأَعْمَارٌ مَضْرُوبَةٌ إِلَى آجَالٍ مَعْلُومَةٍ، قَدْ جَرَى بِهَا الْقَلَمُ، وَأَحْصَاهَا الْقَدَرُ، وَسُطِّرَتْ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُسْتَقَرٌّ: القبور. وعنه قال: مُسْتَقَرٌّ فوق الْأَرْضِ وَتَحْتَهَا. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

وَقَوْلُهُ: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55].

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ جعل الْأَرْضَ دَارًا لِبَنِي آدَمَ مُدَّةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فِيهَا مَحْيَاهُمْ، وَفِيهَا مَمَاتُهُمْ وَقُبُورُهُمْ، وَمِنْهَا نُشُورُهُمْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين، ويُجازي كلًّا بعمله.

الشيخ: وهذا من عدله سبحانه ورحمته جلَّ وعلا، فحكمته أن تكون هذه الأرضُ مُستقرًّا مُؤقَّتًا، فيها أعمال صالحة وضدّها، وفيها رسل وأنبياء وأخيار، ثم بعد انتهاء الأمد تنتهي هذه الدار، وينتقل كلٌّ إلى داره: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى، وقَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ، فهي دارٌ مُؤقَّتةٌ لها نهاية، وهذه النِّهاية يعلمها الله ، استأثر بعلمها ، وبعد حصول هذه النِّهاية ينقسم الناسُ إلى قسمين: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، يُقضى بينهم، ويُحكم بينهم في يوم القيامة، اليوم الطَّويل، ثم ينتهي الأمرُ إلى فرقتين: فرقة تكون في الجنة، وهم الصُّلحاء والأخيار، وهم الأقلّون. وفريق في النَّار، وهم الأكثرون، نسأل الله العافية، كلٌّ بما قدَّم: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [فصلت:46] .