تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِالرَّحِيمِ: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى تِجَارَةٍ؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: تسعى في إصلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا، وَتُقَارِبُ بَيْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ الْعُمَرِيُّ لَيِّنٌ، وَقَدْ حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا.

الشيخ: وهذا يُغني عن الحديث الضَّعيف، الحديث الصَّحيح مع الآية الكريمة كافية: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، فالإصلاح بين الناس مما يرغب فيه المصلحون والأخيار، ومما تحلّ به المشاكل، وتجتمع به القلوب، وتزول به الشَّحناء والعداوة، فالإصلاح بين الناس مطلوبٌ، كما في هذه الآية الكريمة، وكما في قوله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، أمر: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:1]، فالإصلاح مطلوبٌ، قال جلَّ وعلا: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].

فالمسلمون مطلوبٌ بينهم الصّلح، بين العامَّة والخاصَّة، بين الجيران، إذا حصل بينهم اختلافٌ بين الأقارب، بين الأصحاب والزملاء، بين المدرسين، بين المدرسين ومرجعهم، بين الرعية والراعي، بين الطائفتين، بغت إحداهما على الأخرى، فالإصلاح مطلوبٌ.

وفي الحديث: الصلح جائزٌ بين المسلمين، إلا صلحًا حرَّم حلالًا أو أحلَّ حرامًا.

فلا ينبغي للمؤمن أن يحتقر نفسَه، بل إذا تيسر له الصّلح فليفعل، ولو بالاستعانة بآخر وثالث، يجتمعون حتى يقوموا بالإصلاح؛ لأنَّ الواحد قد لا يُقبل منه، لكن إذا كانوا اثنين، كانوا ثلاثة، أو أكثر، وزاروا المتنازعين، وتحدَّثوا معهم بالحديث الطَّيب، قد يجعل اللهُ في ذلك الخير.

س: مَن هجر شخصًا لمعصيةٍ فهل يُشرع أن يُصلح بينهما؟

ج: يُصلح بينهما بالمشورة على صاحب المعصية أن يتوب، فإذا تاب زال الإشكالُ، ما هناك صلح إلَّا بهذا؛ بالتوبة.

وَلِهَذَا قَالَ: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ أَيْ: مُخْلِصًا فِي ذَلِكَ، مُحْتَسِبًا ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، أي: ثوابًا جزيلًا كَثِيرًا وَاسِعًا.

وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء:115] أَيْ: وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ ﷺ، فَصَارَ فِي شِقٍّ، وَالشَّرْعُ فِي شِقٍّ، وَذَلِكَ عَنْ عَمْدٍ منه بعدما ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ، وَتَبَيَّنَ لَهُ، وَاتَّضَحَ لَهُ.

وَقَوْلُهُ: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115] هَذَا مُلَازِمٌ لِلصِّفَةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ لِنَصِّ الشَّارع، وقد تكون لما اجتمعت عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فِيمَا عُلِمَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا، فَإِنَّهُ قَدْ ضُمِنَتْ لَهُمُ الْعِصْمَةُ فِي اجْتِمَاعِهِمْ مِنَ الْخَطَأ؛ تَشْرِيفًا لَهُمْ، وَتَعْظِيمًا لِنَبِيِّهِمْ، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك، قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا طَرَفًا صَالِحًا فِي كِتَابِ "أَحَادِيثِ الْأُصُولِ"، وَمِن الْعُلَمَاءِ مَنِ ادَّعَى تَوَاتُرَ مَعْنَاهَا، وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَعْدَ التَّرَوِّي وَالْفِكْرِ الطَّوِيلِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِنْبَاطَاتِ وَأَقْوَاهَا، وَإِنْ كان بعضُهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدّلَالَةَ مِنْهَا عَلَى ذَلِكَ.

الشيخ: والآية واضحةٌ في أنَّ سبيلَ المؤمنين حُجَّة، فإذا ثبت أنَّه سبيل المؤمنين فهو حُجَّة، مَن اتَّبع غير سبيلهم هلك، وأساس المؤمنين أصحاب النبي ﷺ، هم الأساس، فإذا اتَّفق أصحابُ النبي ﷺ على شيءٍ وجب اتِّباعهم فيه، ومن أدلة ذلك هذه الآية الكريمة، وقوله جلَّ وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

ومن أدلة وجوب اتِّباع الجماعة قوله ﷺ: لا تزال طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ منصورة، لا تزال هذه الأُمَّة قائمة على أمر الله.

فالحاصل أنَّ الطائفة المنصورة القائمة بأمر الله إذا اجتمع المسلمون فهي فيهم، والله جلَّ وعلا قد ضمن الحقّ لهذه الأُمَّة، وأنها لا تزال فيها طائفة، فإذا اجتمعت فالطائفة فيها التي هي مُوافقة للحقِّ، والتي أخبر النبيُّ عنها ﷺ، فهذه الأُمَّة لا تجتمع على ضلالةٍ، فإذا علم اجتماع السَّلف الصَّالح من الصَّحابة على شيءٍ فهو الحقّ، لا يجوز خلافه، وإن جاءت النُّصوص صارت مُؤيدةً لذلك، مُوضِّحةً لمعناه، فالأصل في هذا كلِّه النصوص؛ لأنها دالَّة على أنَّ هذه الأُمّة لا تجتمع على ضلالةٍ، والسَّير عليها أخذٌ بالأدلة الشَّرعية: الكتاب والسُّنة، لكن بعد العناية والتَّأكد من الإجماع عند خفاء الدَّليل، أمَّا إذا ظهر الدليلُ فالحمد لله، أجمعوا أو لم يُجمعوا، فالواجب الأخذ بالدَّليل، كما قال جلَّ وعلا: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، وقال سبحانه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، فإذا وُجِدَ النِّزاعُ والاختلافُ وجب الردُّ إلى الكتاب العظيم والسنة المطهرة؛ لأنهما معصومان، فالحقّ فيهما بلا شكٍّ.

فتُعرض أقوال الناس وتُعرض أفعالهم وآراؤهم على الكتاب والسّنة، فما وافقهما قُبِلَ، وما خالفهما رُدَّ على قائله، وقائله إذا كان مجتهدًا ومن أهل الاجتهاد له أجر الاجتهاد، وإن كان ليس من أهل الاجتهاد ليس له شيء إلا الإثم، لكن ذاك إذا كان من أهل الاجتهاد وأخطأ فله أجرٌ، وإن أصاب فله أجرانِ.

س: قول الجمهور هل هو حُجَّة على الإطلاق؟

ج: ما هو بحجّة، لا، الحجّة في الدَّليل، الحجّة في الإجماع.

س: أحسن الله إليك، قول شيخ الإسلام أنَّه ليس هناك إجماع قطعي إلا وله دليلٌ من الكتاب والسّنة، إلا أنَّه قد يخفى على بعض النَّاس؟

ج: صدق لا شكّ.

س: قول الشَّافعي، تأويل الشَّافعي .....؟

ج: كلامٌ طيبٌ، لكن الأحاديث صريحة، والآية تُوافق الأحاديث.

س: الإجماعات الظنية هل هي حُجَّة؟

ج: الحجّة في الإجماع القطعي، فإذا ما وُجِدَ إجماعٌ فلا بدَّ أن يُلتمس الدَّليل، الدليل هو المعوَّل عليه.

س: ..............؟

ج: ما أتذكر الآن.

وَلِهَذَا تَوَعَّدَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115] أَيْ: إِذَا سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ جَازَيْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ نُحَسِّنَهَا فِي صَدْرِهِ وَنُزَيِّنَهَا لَهُ اسْتِدْرَاجًا لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ [القلم:44]، وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وَقَوْلُهُ: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]، وَجَعَلَ النَّارَ مَصِيرَهُ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الهدى لم يكن له طريقٌ إلَّا إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22]، وَقَالَ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف:53].

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ۝ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ۝ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ۝ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ۝ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ۝ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ۝ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:116- 122].

قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ الآية، وَذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ.

وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ ثُوَيْرِ ابْنِ أَبِي فَاخِتَةَ سَعِيدِ بْنِ عَلَاقَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية. ثم قال: هذا حَسَنٌ غَرِيبٌ.

الشيخ: ثوير لا يُحتجّ به، ليس بشيءٍ، ثوير ابن أبي فاختة ضعيفٌ عندهم، والآية الكريمة فيها الرَّجاء، فيها الخير العظيم؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا علَّق ما دون الشِّرك تحت مشيئته، فدلَّ على الفضل العظيم، وأنَّ أصحابَ الذنوب على رجاءٍ، ولكنَّها حاسمة لأهل الشِّرك، لا رجاءَ لهم، فمَن مات على الشِّرك فهو ميؤوسٌ من المغفرة له، فهي مُحكمةٌ، ومَن مات على ما دون الشِّرك فهو تحت مشيئة الله، وهي فيمَن لم يتب، إذا مات على الشِّرك والمعاصي ولم يتب، فإنَّه ميؤوسٌ من حال المشرك، وصاحب المعصية تحت المشيئة: إن شاء اللهُ غفر له، وإن شاء عذَّبه على قدر المعاصي التي مات عليها، ثم يخرج من النار، بخلاف آية الزمر: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، هذه في التَّائبين، نزلت في التَّائبين، فمَن تاب تاب اللهُ عليه من جميع الذُّنوب؛ الشِّرك وما دونه.

فآية الزمر: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا هذه في التَّائبين، وآيتا النِّساء -هذه الآية والتي قبلها في أول السورة- هاتان الآيتان في غير التَّائبين، فيمَن مات على الشِّرك، أو على ما دونه من المعاصي.

وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا أَيْ: فَقَدْ سَلَكَ غَيْرَ الطَّرِيقِ الْحَقِّ، وَضَلَّ عَنِ الْهُدَى، وَبَعُدَ عَنِ الصَّوَابِ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ وَخَسِرَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفَاتَتْهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

الشيخ: وهذه الآية أيضًا ينبغي التَّنبه لها، فيها الردّ على الخوارج والمعتزلة؛ فإنَّ الخوارجَ قالوا: مَن مات على المعاصي مُخلَّدٌ في النار وكافرٌ. والمعتزلة قالوا: منزلة بين منزلتين، ولكنَّه مُخلَّدٌ في النار. فالآيتان نصٌّ في الردِّ على الطَّائفتين، هذه الآية والتي قبلها في أول السورة ردٌّ على الطَّائفتين، وأنَّ ما دون الشِّرك تحت المشيئة، ليس صاحبُها مُخلَّدًا في النار، وليس كافرًا، لا كافرًا ولا مُخلدًا في النار، بل تحت مشيئة الله، والطَّائفتان -الخوارج والمعتزلة- من أضلّ الطوائف، وأخبث الطوائف، نسأل الله العافية.

وعلى رأي الطَّائفتين الإباضية الموجودون في عمان وفي ليبيا، وبعضهم في الجزائر، هم بعضهم على طريقة الخوارج، وبعضهم على طريقة المعتزلة، كلّهم على تخليد العُصاة في النار، فهم من بقايا المعتزلة والخوارج، نسأل الله العافية.

س: الصَّواب تكفيرهم يا شيخ؟

ج: مَن هم؟

س: الإباضية؟

ج: الخوارج، تكفير الخوارج؛ لأنَّ الخوارج يُكفِّرون المسلمين، كفَّروا العُصاة، قال فيهم النبيُّ: يمرقون من الإسلام.

س: ..... ذكر فتوى اتَّفق الصحابةُ على عدم كفر الخوارج؟

ج: ما هو بظاهرٍ، أقول: ما هو بظاهرٍ، إنما قال عليٌّ: من الكفر فرُّوا. من كلام عليٍّ ، توقَّف في كفرهم، قال: من الكفر فرُّوا.

س: إنكار رؤية الله؟

ج: مَن أنكرها كفر، نسأل الله العافية، مَن أنكر الرُّؤية وتكفير العُصاة كلّها ردّة، وتخليدهم في النار كلها ردّة، كلها كفر، لكن بعض العامَّة ما يفهم، لا بدَّ من إقامة الحجّة؛ لأنَّ عامَّتهم ما يفهمون، لكن مجتهدوهم وقادتهم لا شكَّ، نسأل الله العافية.

وَقَوْلُهُ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عن أبي بن كعب: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا، قَالَ: مَعَ كُلِّ صَنَمٍ جِنِّيَّةٌ.

الشيخ: أيش عندكم؟

الطالب: في تعليق: صوابه: الحسين بن واقد، كما في "المسند"، ذكر الجزء والصَّفحة.

الشيخ: انظر "التقريب" و"الخلاصة".

الطالب: الحسين بن واقد مولى عبدالله بن عامر بن كريز، أبو عبدالله، المروزي، قاضيها، عن عبدالله بن بريدة ومطر الوراق وعمرو بن دينار، وعنه زيد بن الحباب والفضل بن موسى وابن المبارك، وثَّقه ابنُ معين، قال البخاري: مات سنة تسعٍ وخمسين ومئة. (خت، م، مد).

الشيخ: العجب، نسخة الشعب: الحسن، فاتهم الحسين بن واقد.

لأنها تلبس عليهم وتُكلّمهم، فيظنون أنَّ الصنمَ كلَّمهم، أنَّ الصنمَ الجمادَ كلَّمهم، فالعزى ومناة واللَّات وغيرهم أصنام تُضلّهم الشَّياطين، تلبس عليهم فيظنون لجهلهم أنَّ هذه الأصنام الجامدة كلَّمتهم، وإنما هي الشَّياطين المضلّة المغوية لهم، نسأل الله العافية؛ ولهذا لما قطع خالدٌ العُزَّى رأى امرأةً تحثو الترابَ على وجهها كما ذكروا في السّير، فعمَّها بالسَّيف فقتلها، يُروى عن النبي ﷺ أنَّه قال: تلك العزَّى.

الطالب: الربيع بن أنس البكري، أو الحنفي، بصري، نزل خراسان، صدوقٌ له أوهام، ورُمِيَ بالتَّشيع، من الخامسة، مات سنة أربعين أو قبلها. (4).

الشيخ: و"الخلاصة".

الطالب: الرَّبيع بن أنس، الكندي، أو الحنفي، البصري، عن أنسٍ والحسن، وأرسل عن أمِّ سلمة، وعنه سليمان التَّيمي وسليمان الأعمش وابن المبارك، قال أبو حاتم: صدوق. قيل: توفي سنة تسعٍ وثلاثين ومئة. وقيل: سنة أربعين. (الأربعة).

وفي حاشية: وقال العجلي: ثقةٌ، صدوقٌ.

وَحَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْبَاهِلِيُّ، عَنْ عَبْدِالعزيز بن محمَّدٍ، عَنْ هِشَامٍ –يَعْنِي: ابْنَ عُرْوَةَ- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا، قَالَتْ: أَوْثَانًا.

وَرَوَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ابْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَالسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَحْو ذَلِكَ.

وَقَالَ ابنُ جريرٍ: عن الضَّحاك في الآية: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا نعبدهم ليُقَرِّبونا إلى الله زلفى. قال: فاتَّخذوهنَّ أربابًا، وصوَّروهنَّ جواري، فَحَكَمُوا وَقَلَّدُوا، وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ يُشْبِهْنَ بَنَات اللَّهِ الَّذِي نَعْبُدُهُ. يَعْنُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ شَبِيهٌ بقول الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19]، وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19]، وقال: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [الصافات:158].

وَقَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالضَّحَّاكُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا قَالَ: يَعْنِي مَوْتَى.

وَقَالَ مُبَارَكٌ -يَعْنِي ابْنَ فَضَالَةَ- عَنِ الْحَسَنِ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا قَالَ الْحَسَنُ: الْإِنَاثُ كُلُّ شَيْءٍ مَيِّتٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ: إِمَّا خَشَبَةٌ يَابِسَةٌ، وَإِمَّا حَجَرٌ يَابِسٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ غَرِيبٌ.

س: ما الصَّواب في الآية؟

ج: الأقرب والله أعلم على ظاهرها: أنَّه شبّه لهم أنَّ هؤلاء يمثلون الملائكة أنهم بنات الله على زعمهم، أو أنَّهم تلبس عليهم الجنّ وتكلّمهم ..... الجنّ، فهم في الحقيقة مرجعهم إلى الإناث: إمَّا إناث الجنّ –الشياطين- وإمَّا مما يعتقدون أنَّه الملائكة، وأنهم بنات الله، وأنهم عبدوهم، وهؤلاء تماثيل وصور لهم، تمثيلًا لهم، والحقيقة أنهم عبدوا الشَّيطان؛ لأنَّ الشيطانَ هو الذي زيَّن لهم هذه الأشياء، ولبَّس عليهم، نسأل الله العافية.

س: ماذا يعني بقوله: فحكموا وقلَّدوا؟

ج: حكموا على أنهم إناث، وقلَّدوا هؤلاء ممن تابعهم على الباطل، وقلَّدوا مَن قال ذلك، نسأل الله العافية.

.............

وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا أَيْ: هو الذي أمرهم بذلك وحسَّنه وزيَّنه لهم، وَهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ إِبْلِيسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60]، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ادَّعَوْا عِبَادَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41].

الشيخ: الملائكة تقول: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [القصص:63].

وَقَوْلُهُ: لَعَنَهُ اللَّهُ أَيْ: طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ جِوَارِهِ.

وَقَالَ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا أَيْ: مُعَيَّنًا، مُقَدَّرًا، مَعْلُومًا.

قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِئَة وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ.

وَلَأُضِلَّنَّهُمْ أَيْ: عَنِ الْحَقِّ، وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أَيْ: أُزَيِّنُ لَهُمْ تَرْكَ التَّوْبَةِ، وَأَعِدُهُمُ الْأَمَانِيَ، وَآمُرُهُمْ بِالتَّسْوِيفِ وَالتَّأْخِيرِ، وَأَغُرُّهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

الشيخ: أيش عندك؟

الطالب: قال قتادة.

الذي عنده مُقاتل يحطّ نسخة.