تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ..} (2)

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُعَانِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، فَذَكَرَ أَمْرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ، وَفَضْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَأَفْضَلَ الشُّهَدَاءِ، وَأَفْضَلَ الرِّقَابِ، وَنُبُوَّةَ آدَمَ، وَأَنَّهُ مُكَلَّمٌ، وَعَدَدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.

وَقَالَ عَبْدُالله ابنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي بِخَطِّهِ: حَدَّثَنِي عَبْدُالْمُتَعَالِي بْنُ عَبْدِالْوَهَّابِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا مُجَالِدُ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: هَلْ تَقُولُ الْخَوَارِجُ بِالدَّجَّالِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إني خاتم أَلْفِ نَبِيٍّ أَوْ أَكْثَرَ، وَمَا بُعِثَ نَبِيٌّ يُتَّبَعُ إِلَّا وَقَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنْهُ، وَإِنِّي قد بُيِّنَ لي فيه مَا لَمْ يُبَيَّنْ لِأَحَدٍ، وَإِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَعَيْنُهُ الْيُمْنَى عَوْرَاءُ جَاحِظَةٌ، لَا تَخْفَى، كَأَنَّهَا نُخَامَةٌ فِي حَائِطٍ مُجَصَّصٍ، وَعَيْنُهُ الْيُسْرَى كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، مَعَهُ مِنْ كُلِّ لِسَانٍ، وَمَعَهُ صُورَةُ الْجَنَّةِ خَضْرَاءُ يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ، وَصُورَةُ النَّارِ سَوْدَاءُ تَدْخُنُ.

الشيخ: وهذا كالذي قبله ضعيفٌ؛ فمُجالد ضعيفٌ، ولكن له شواهد، كونه أعور العين اليُمنى هذا معروفٌ في الأحاديث الصَّحيحة، ومعه جنَّة ونار، هذا معروفٌ في الأحاديث الصَّحيحة، أما قوله: خاتم ألف نبيٍّ هذا ضعيفٌ؛ لأنَّه لم يثبت في عدد الأنبياء والرسل شيءٌ يُعتمد عليه، فالأنبياء والرسل كثيرون، لكن لم يثبت في عددهم شيءٌ، نعم.

وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي الْجُزْءِ الَّذِي فِيهِ رِوَايَةُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنِّي أَخْتِمُ أَلْفَ نَبِيٍّ أَوْ أَكْثَرَ، مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَى قَوْمِهِ إِلَّا حَذَّرَهُمُ الدَّجَّالَ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، هَذَا لَفْظُهُ بِزِيَادَةِ أَلْفٍ، وَقَدْ تَكُونُ مُقْحَمَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مُداخلة: في نسخة الشعب: ألف ألف نبيٍّ.

الشيخ: هذا هو، حتى تتميز عن الأولى: ألف ألف؛ لأنَّ الأولى ألف، والثانية ألف، زيادة: ألف، انظر أبا الوداك ومجالد في "التقريب".

وَسِيَاقُ رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَثْبَتُ وَأَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَرِجَالُ إسناد هذا الحديث لا بأسَ بهم.

الشيخ: هذا ليس بجيدٍ؛ لأنَّ مجالدًا ليس ممن يُحتجّ به، وقول المؤلف: "لا بأسَ به" محل نظرٍ، كأنَّه قالها عن غير تأمُّلٍ رحمه الله.

س: معناه أنه يُجيد ألف لسانٍ هو؟

ج: هذا معناها، رواية ما عليها اعتماد، رواية ضعيفة، تحطّ على رواية "رجاله لا بأسَ بهم": فيه نظر. والصَّواب أنه ضعيفٌ؛ لأنَّ مجالدًا لا يُحتجّ به.

س: .............؟

ج: إيه، نعم، هذه أصول، هذا أصلٌ عظيمٌ ما يحتاج فيه مثل هذا، هذه أصول عظيمة تحتاج إلى أدلةٍ صحيحةٍ.

...........

وقد رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنِّي لَخَاتَمُ أَلْفِ نَبِيٍّ أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ نَبِيٌّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ، وَإِنِّي قَدْ بُيِّنَ لِي مَا لَمْ يُبَيَّنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَإِنَّهُ أعور، وإنَّ ربَّكم ليس بأعور.

قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وَهَذَا تَشْرِيفٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.

س: هذه الطُّرق التي ذكرها في عدد الأنبياء؟

ج: ما يُعتمد عليها؛ لاختلافها، بعضها ألف نبيٍّ، وبعضها ألف ألف نبيٍّ، وبعضها مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، وبعضها ثمانية آلاف، كل أسانيدها مدخولة ومُضطربة أيضًا.

س: .............؟

ج: لا، ما يصلح؛ لأنها مختلفة، مُضطربة.

س: مئة وخمسة وعشرون ما هو بصحيحٍ؟

ج: ما ثبت شيءٌ يا ولدي، الله أعلم، لا يعلم عددَهم إلا الله .

وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ: الْكَلِيمُ.

الشيخ: قال جلَّ وعلا: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78]، منهم مَن بُيِّنَ له، ومنهم مَن لم يُبيّن له.

وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَالِكِيُّ: حَدَّثَنَا مَسِيحُ بْنُ حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُالْجَبَّارِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي بَكْرِ ابْنِ عَيَّاشٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ: "وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا قَرَأَ هَذَا إِلَّا كَافِرٌ، قَرَأْتُ عَلَى الْأَعْمَشِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ عَلَى يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ عَلَى أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِالرحمن السّلمي عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا. وَإِنَّمَا اشْتَدَّ غَضَبُ أَبِي بَكْرِ ابْنِ عَيَّاشٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ قَرَأَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَرَّفَ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ، وَكَانَ هَذَا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.

الشيخ: المقصود أنَّه قرأها: "وَكَلَّمَ اللهَ" نصب الجلالة، ورفع موسى، يعني: موسى هو الذي كلَّم؛ ليفرَّ من إثبات صفة الكلام، وهذا من الجهل الكبير، قال الله جلَّ وعلا: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، والله جلَّ وعلا يُكلِّم مَن يشاء من عباده، فهو يُكلِّم جلَّ وعلا ويُكلَّم.

فالمعتزلة والجهمية من سخافة عقولهم وقلّة علمهم ودينهم أنكروا الصِّفات، وأنكروا الأسماء، فالجهمية أنكرت الأسماء والصِّفات وتأوَّلتها، والمعتزلة أنكرت الصِّفات وقالت: إنها أسماء جامدة لا معاني لها. وهذا من جهلهم وضلالهم.

وَكَانَ هَذَا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ يُكَلِّمُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا رُوِّينَاهُ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ: "وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا"، فقال له: يا ابن اللَّخناء، كيف تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]؟!

الشيخ: هذا أصرح وأوضح.

يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّحْرِيفَ وَلَا التَّأْوِيلَ.

الشيخ: لأنَّ الضَّميرَ مفعول "كلَّمَه ربّه"، وهكذا نبينا ﷺ كلَّمه اللهُ ليلة الإسراء والمعراج، كلَّمه سبحانه بفرض الصَّلوات الخمس حتى جعلها خمسًا بعد أن ..... خمسين، نعم.

وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ بَهْرَامَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ: حَدَّثَنَا هَانِئُ بْنُ يَحْيَى، عَنِ الْحَسَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى كَانَ يُبْصِرُ دَبِيبَ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ.

وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ لَا يَصِحُّ، وَإِذَا صَحَّ مَوْقُوفًا كَانَ جَيِّدًا.

الشيخ: هذا غريبٌ، كونه يُعطى قوة البصر بعد كلام الله هذا غريبٌ؛ لأنَّ قتادة مُدلِّس، وقد يكون من أخبار بني إسرائيل، نعم.

س: من ناحية قتادة؟

ج: التَّدليس، نعم، العنعنة، وقد يكون سمعه أبو هريرة من بعض أهل الكتاب، ومثل هذا ما يثبت به، لو كان معروفًا عن النبي ﷺ لرواه الأئمَّةُ ورواه الصَّحابة، وهذا غريبٌ، يُحفظ.

س: ما من نبيٍّ إلا ويُحذر أُمَّته من الدَّجال، هذا صحيحٌ؟

ج: في "الصحيحين": ما بعث اللهُ من نبيٍّ إلَّا حذَّر أُمَّته الدَّجال، ثابتٌ، كونه أعور العين اليُمنى هذا ثابتٌ، وكونه يمكث في الأرض أربعين يومًا: يوم كسنةٍ، ويوم كشهرٍ، ويوم كأسبوعٍ، هذا ثابتٌ.

وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي "مُستدركه" وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَانَ عَلَى مُوسَى يَوْمَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ جُبَّةُ صُوفٍ، وَكِسَاءُ صُوفٍ، وَسَرَاوِيلُ صُوفٍ، وَنَعْلَانِ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ ذَكِيٍّ.

الشيخ: لعله أيضًا كذلك، لعله تلقَّاه من بني إسرائيل، الله أمره أن يخلع نعليه، لكن هذا ليس مما يُعوّل عليه، "حمار غير ذكيٍّ" يعني: حمار الوحش، ميت، نعم.

وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جُوَيْبِر، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ نَاجَى مُوسَى بِمِئَةِ أَلْفِ كَلِمَةٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَصَايَا كُلُّهَا.

الشيخ: وليت المؤلف ما ذكر مثل هذه، أقول: ليت المؤلف أعرض عن مثل هذا ..... ضعيفة؛ لأنَّ جويبرًا ليس بشيءٍ، جويبر هذا ساقطٌ، لا يُحتجُّ به، والضَّحاك في سماعه من ابن عباسٍ نظر، والله المستعان.

فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَقَتَهُمْ مِمَّا وَقَعَ فِي مَسَامِعِهِ مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ .

وهذا أيضًا إسنادٌ ضعيفٌ؛ فإنَّ جويبرًا أضعف، وَالضَّحَّاكُ لَمْ يُدْرِكِ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما.

فَأَمَّا الْأَثَرُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى الرَّقَاشِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عبدالله أنَّه قَالَ: لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى يَوْمَ الطُّورِ كَلَّمَهُ بِغَيْرِ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَهُ يَوْمَ نَادَاهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا رَبُّ، هَذَا كَلَامُكَ الَّذِي كَلَّمْتَنِي بِهِ؟ قَالَ: لَا يَا مُوسَى، إنما كَلَّمْتُكَ بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ، وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا، وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا: يَا مُوسَى، صِفْ لَنَا كَلَامَ الرَّحْمَنِ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُهُ، قَالُوا: فَشَبِّهْ لَنَا. قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا إلى صوت الصَّواعق؟ فإنَّه قَرِيبٌ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ؛ فإنَّ الفضلَ الرَّقاشيَّ هذا ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ.

الشيخ: قد أحسن المؤلفُ في التَّنبيه.

وَقَالَ عَبْدُالرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ ابْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَزْءِ بْنِ جَابِرٍ الخثعمي، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا كَلَّمَ موسَى كلَّمه بِالْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا، سِوَى كَلَامِهِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا رَبُّ، هَذَا كَلَامُكَ؟ قَالَ: لَا، وَلَوْ كَلَّمْتُكَ بِكَلَامِي لَمْ تَسْتَقِمْ لَهُ، قَالَ: يَا رَبُّ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ يُشْبِهُ كَلَامَكَ؟ قَالَ: لَا، وَأَشَدُّ خَلْقِي شَبَهًا بِكَلَامِي أَشَدُّ مَا تَسْمَعُونَ مِنَ الصَّوَاعِقِ. فَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَهُوَ يَحْكِي عَنِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِيهَا الْغَثُّ وَالسَّمِينُ.

الشيخ: يعني عن كتب بني إسرائيل، وهو تابعيٌّ يحكي الغثَّ والسَّمين، والصَّحيح والباطل.

والمقصود أنَّ كلامَ الله لا يعلم كيفيته إلَّا هو ، كسائر الصِّفات، وهو جلَّ وعلا يتكلَّم بما شاء: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، ومِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، ويُكلِّم الناسَ يوم القيامة، ويُكلِّم أهلَ الجنة، لكن لا يعلم كيفية كلامه إلَّا هو .

وَقَوْلُهُ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [النساء:165] أَيْ: يُبَشِّرُونَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَاتَّبَعَ رِضْوَانَهُ بِالْخَيْرَاتِ، وَيُنْذِرُونَ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ بِالْعِقَابِ وَالْعَذَابِ.

وَقَوْلُهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:165] أَيْ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ رُسُلَهُ بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَبَيَّنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ؛ لِئَلَّا يَبْقَى لِمُعْتَذِرٍ عُذْرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه:134].

الشيخ: هذه مهمّة الرسل، مهمة الرسل عليهم الصَّلاة والسلام البشارة والنِّذارة، يُبَشِّرون أقوامَهم بالجنة لمن أطاع واستقام، ويُنذرونهم مقتَ الله وعذابه لمن خالف الأوامر وركب المحارم، وهم يُبَلِّغون عن الله رسالاته، ويدعون الناسَ إلى طاعة مولاهم، والاستقامة على أمره، والوقوف عند حدوده، ويُبشِّرون مَن أطاعهم بالجنة والسَّعادة والعاقبة الحميدة، ويُنذرون مَن عصاهم بالخيبة والنَّدامة والعاقبة الوخيمة؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] يعني: تنقطع الحجّة والمعذرة.

وكذا قوله: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [القصص:47].

وَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا أحدَ أغير من الله، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ المدح من الله ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.

الشيخ: والمعنى أنَّه سبحانه شديد الغيرة، ولا أحد أغير منه؛ ولهذا حرَّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن سبحانه، ولا أحد أحبّ إليه العذر من الله؛ ولهذا بعث الرسلَ، وأنزل الكتبَ، وأقام الحجّة، ولا أحد أحبّ إليه المدح من الله؛ ولهذا أثنى على نفسه، وبيَّن أسماءه وصفاته ليُثنى عليه ويُحمد .

فالواجب على أهل الإيمان حمده والثَّناء عليه، والاستقامة على طاعته ومحبَّته، والحذر من أسباب غضبه، وبُغض ما أبغض، وكراهة ما كره من الفواحش، والتَّحذير منها، مع إقامة الحجّة والدَّعوة إلى الله، وإرشاد الناس إلى الخير، كما أحبَّ مولاهم، كما أمر، هكذا الرسل وأتباعهم يكرهون ما كرهه الله، ويُحبّون ما أحبَّه الله، ويدعون إلى ما دعا إليه الله ورسوله من الخير والهدى والصَّلاح، وهذه الدَّار إنما تعمر وتستقيم بإقامة ما جاءت به الرسل، وإذا ضيَّع الناسُ ذلك أحلّوا بأنفسهم عقابَ الله وأنواع المثلات التي تُصيب مَن خالفهم وركب خلافَ ما دعوا إليه، وهي دار الامتحان، ودار الابتلاء، فالواجب الحذر.

ويقول سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، وقد يُبتلى الناسُ بالمهلة وهم على الكفر والضَّلال، وقد يموت على ذلك، كما هو الحال في أكثر الخلق؛ يموت على ضلاله وكفره، وهذا من إمهال الله له، ولو شاء لعاجلهم بعقوبةٍ، لكنَّها تكون في الآخرة أشدّ، نسأل الله العافية.

فلا ينبغي لعاقلٍ أن يغترَّ بإمهال الله، ولا يمسي ويُصبح على معاصي الله ويأمن، هذه مُصيبة عظيمة، فليحذر وليُبادر بالتَّوبة إلى الله، فقد تكون عقوبته أن يُملى له، وهذه عقوبة عظيمة؛ يُملى له على الباطل حتى يموت، هذه من العقوبات المعجلة، ولكن إذا رزقه اللهُ التوبةَ والإنابةَ والرجوعَ إلى الله ومَنَّ اللهُ عليه بالتَّوبة، هذه هي النِّعمة العظيمة: الم ۝ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1- 2]، وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53].

ويُروى عنه عليه الصَّلاة والسلام أنَّه قال: إذا رأيتَ الله يُعطي العبدَ على معاصيه ما يُحبُ، وهو على ما يكره، فإنما هو استدراكٌ.

فالواجب الحذر، وأن يكون العبدُ محاسبًا لنفسه، مجاهدًا لها عند كل زلَّةٍ، يُبادر بالتَّوبة، ويحذر الإصرار، لعله ينجو، قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44] يعني: آيسون من كل خيرٍ، نعوذ بالله.

ومن ذلك الإصرار على التَّهاون بالصَّلاة، والتَّثاقل عنها كفعل المنافقين، وأشدّ من هذا تركها وعدم إقامتها في أوقاتها، فهذا من البلاء العظيم والشَّر الكبير، فالترك كفرٌ، والتَّساهل بأدائها في الجماعة وسيلةٌ لذلك، ومن صفات أعداء الله المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ۝ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:54- 55].

وهكذا بقية المعاصي: من الزنا، وشرب المسكر، وظلم الناس، وظلم الزوجات، وظلم الأولاد، وظلم الجيران، وظلم العاملين بالكذب والخيانة والغشّ، إلى غير ذلك.

فالمؤمن يُحاسِب نفسَه، والتَّاجر يُحاسِب نفسه، والرجل يُحاسِب نفسَه مع أهل بيته: هل أدَّى حقَّهم؟ مع جيرانه: هل أدَّى حقَّهم؟ وهكذا العامل يُحاسِب نفسه: هل نصح في العمل أو غشّ في العمل؟ هكذا كل إنسانٍ ينظر ويُحاسِب نفسه، ويحذر أن يكون أخلَّ بشيءٍ مما أوجب الله، أو ركب شيئًا مما حرَّم الله.

وكان عمرُ في خطبه يقول: حاسبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوها قبل أن تُوزن. فالحساب اليوم أسهل، ويُحاسبها ويُوقفها عند زلَّاتها وغدراتها خيرٌ له من أن يُجازف الأمور ويتساهل، ثم تكون الكارثةُ يوم القيامة، أو عند الموت، نسأل الله العافية.

س: ..............؟

ج: مَن أنكر الكلام كفر، مثل: بقية الصِّفات الثابتة في الكتاب والسُّنة، نسأل الله العافية.

س: ..............؟

ج: مَن تأوَّلها فقد أنكرها.

 

وَفِي لَفْظٍ آخر: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ.

س: ...............؟

ج: ما في بأس، ما هو بطعامٍ.