تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ..} (2)

وقال ابنُ جريرٍ: حدَّثني محمد بن عبدالله بن عبدالحكم: حدَّثنا ابنُ أبي فديك: حدَّثنا ابنُ أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أُمية بن عبدالله بن خالد بن أسيد أنَّه قال لعبدالله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر! فقال عبدُالله: إنا وجدنا نبيّنا ﷺ يعمل عملًا عملنا به.

فقد سمَّى صلاةَ الخوف مقصورة، وحمل الآيةَ عليها، لا على قصر صلاة المسافر، وأقرَّه ابنُ عمر على ذلك، واحتجَّ على قصر الصَّلاة في السَّفر بفعل الشَّارع، لا بنصِّ القرآن.

وأصرح من هذا ما رواه ابنُ جريرٍ أيضًا: حدَّثنا أحمدُ بن الوليد القرشي: حدَّثنا محمدُ بن جعفر: حدَّثنا شعبة، عن سماك الحنفي قال: سألتُ ابن عمر عن صلاة السَّفر، فقال: ركعتان تمام غير قصرٍ، إنما القصر في صلاة المخافة. فقلتُ: وما صلاة المخافة؟ فقال: يُصلي الإمامُ بطائفةٍ ركعةً، ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء مكان هؤلاء، فيُصلي بهم ركعةً، فيكون للإمام ركعتان، ولكلِّ طائفةٍ ركعة، ركعة.

الشيخ: هذه إحدى طرق صلاة الخوف؛ لأنَّ صلاةَ الخوف جاءت على أنواعٍ: منها أنَّ النبي ﷺ صلَّى بكل طائفةٍ ركعتين. ومنها أنَّه صلَّى بهم جميعًا، وركعوا معه جميعًا، فلمَّا سجد سجد معه الصفُّ الأول، وبقى الصفُّ الثاني واقفًا يُراقِب العدو، فلمَّا قام الصفُّ الأول من السُّجود سجد الصفُّ الثاني، ثم قام وتقدَّم الصفُّ الآخر في مكان الصفِّ الأول، وتأخَّر الصفُّ الأول في مكان الصفِّ الآخر، فلمَّا ركع ركع بهم جميعًا، ورفع بهم جميعًا، ثم سجد الصفُّ الأول الذي كان مُؤخَّرًا في الأولى، فلمَّا قام للركعة الأولى سجد الصفُّ الثاني. وجاءت أنواعٌ أخرى في صلاة الخوف: منها أنه صلَّى بكل طائفةٍ ركعةً، فكان له ركعتان، ولكل طائفةٍ ركعة.

س: قول ابن عباس .....؟

ج: نعم، هذه إحدى الأنواع: يُصلِّي بكل طائفةٍ ركعةً، فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفةٍ ركعة، أو يُصلي بالجميع ركعةً واحدةً له ولهم جميعًا، هذا نوعٌ من صلاة الخوف، ولكنَّ الأكثر والأشهر في الأحاديث الصَّحيحة الكثيرة أنَّه صلَّى بكل طائفةٍ ركعتين، في بعضها أنَّه سلَّم بالأوَّلين، ثم صلَّى بالآخرين، وفي بعضها أنَّه صلَّى بالطَّائفة الأولى ركعةً، ثم استمرَّ في الركعة الثانية وأتمَّت في نفسها، ثم ذهبت تحرس، ثم جاءت الطائفةُ الثانيةُ فصلَّت معه الركعةَ التي بقيت، ثم جلس للتَّشهد، وقامت وأتت بالركعة الثانية، ثم جلست معه، ثم سلَّم بهم.

............... 

وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102].

صلاة الخوف أنواعٌ كثيرةٌ، فإنَّ العدو تارةً يكون تجاه القبلة، وتارةً يكون في غير صوبها، والصَّلاة تارةً تكون رباعيةً، وتارةً تكون ثلاثيةً كالمغرب، وتارة تكون ثنائية كالصُّبح وصلاة السَّفر، ثم تارةً يُصلُّون جماعةً، وتارةً يلتحم الحربُ فلا يقدرون على الجماعة، بل يُصلون فُرادى مُستقبلي القبلة وغير مُستقبليها، ورجالًا ورُكْبَانًا، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضَّربَ المتتابع في متن الصَّلاة.

ومن العلماء مَن قال: يُصلون والحالة هذه ركعةً واحدةً؛ لحديث ابن عباسٍ المتقدّم، وبه قال أحمدُ بن حنبل.

قال المنذري في الحواشي: وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحمَّاد، وإليه ذهب طاوس والضَّحاك، وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي: أنَّه يرى ردَّ الصبح إلى ركعةٍ في الخوف، وإليه ذهب ابنُ حزم أيضًا.

وقال إسحاقُ بن راهويه: أمَّا عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تُومئ بها إيماءً، فإن لم تقدر فسجدة واحدة؛ لأنها ذكر الله.

وقال آخرون: تكفي تكبيرةٌ واحدةٌ. فلعله أراد ركعةً واحدةً كما قاله الإمامُ أحمد بن حنبل وأصحابه، وبه قال جابر بن عبدالله وعبدالله بن عمر وكعب وغير واحدٍ من الصَّحابة والسّدي، ورواه ابنُ جريرٍ، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرةٍ واحدةٍ، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه، وإليه ذهب الأميرُ عبدالوهاب بن بخت المكي، حتى قال: فإن لم يقدر على التَّكبيرة فلا يتركها في نفسه. يعني: بالنية. رواه سعيدُ بن منصور في "سننه" عن إسماعيل بن عياش، عن شعيب بن دينار عنه، فالله أعلم.

ومن العلماء مَن أباح تأخير الصَّلاة لعذر القتال والمناجزة، كما أخَّر النبيُّ ﷺ يوم الأحزاب الظُّهر والعصر، فصلَّاهما بعد الغروب، ثم صلَّى بعدهما المغرب، ثم العشاء، وكما قال بعدها يوم بني قُريظة حين جهَّز إليهم الجيش: لا يُصلينَّ أحدٌ منكم العصرَ إلا في بني قُريظة، فأدركتهم الصلاةُ في أثناء الطَّريق، فقال منهم قائلون: لم يُرد منا رسولُ الله ﷺ إلا تعجيل المسير، ولم يُرد منا تأخير الصَّلاة عن وقتها. فصلّوا الصلاةَ لوقتها في الطَّريق، وأخَّر آخرون منهم صلاةَ العصر فصلّوها في بني قُريظة بعد الغروب، ولم يُعنِّف رسولُ الله ﷺ أحدًا من الفريقين.

وقد تكلَّمنا على هذا في كتاب "السيرة"، وبيَّنا أنَّ الذين صلّوا العصرَ لوقتها أقرب إلى إصابة الحقِّ في نفس الأمر، وإن كان الآخرون معذورين أيضًا، والحجّة هاهنا في عذرهم في تأخير الصَّلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار النَّاكثين للعهد من الطائفة الملعونة اليهود.

وأمَّا الجمهور فقالوا: هذا كلّه منسوخٌ بصلاة الخوف، فإنها لم تكن نزلت بعد، فلمَّا نزلت نُسِخَ تأخير الصَّلاة لذلك، وهذا بيِّنٌ في حديث أبي سعيدٍ الخدري الذي رواه الشَّافعي رحمه الله وأهل السُّنن، ولكن يُشكل عليه ما حكاه البخاري في "صحيحه" حيث قال: "باب الصَّلاة عند مُناهضة الحصون ولقاء العدو"، قال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصَّلاة صلَّوا إيماءً، كل امرئٍ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخَّروا الصلاةَ حتى ينكشف القتالُ، أو يأمنوا فيُصلّوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلّوا ركعةً وسجدتين، فإن لم يقدروا فلا يُجزئهم التَّكبير، ويُؤخِّرونها حتى يأمنوا. وبه قال مكحولٌ.

وقال أنسُ بن مالك: حضرت مُناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتدَّ اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصَّلاة، فلم نُصلِّ إلا بعد ارتفاع النَّهار، فصلَّيناها ونحن مع أبي موسى، ففُتِحَ لنا.

قال أنسٌ: وما يسرُّني بتلك الصَّلاة الدنيا وما فيها. انتهى ما ذكره، ثم أتبعه بحديث تأخير الصَّلاة يوم الأحزاب، ثم بحديث أمره إيَّاهم أن لا يُصلّوا العصرَ إلا في بني قُريظة، وكأنَّه كالمختار لذلك، والله أعلم.

الشيخ: وهذا هو الصَّواب: أنَّه لا بأس بالتأخير لشدّة القتال، مثلما أخَّر النبيُّ ﷺ يوم الأحزاب، وهكذا أخَّرت إحدى الطَّائفتين لما بُعثوا إلى بني قُريظة، منهم مَن صلَّى العصرَ في وقتها، ومنهم مَن أخَّرها حتى صلَّاها في بني قُريظة بعد المغرب، وهكذا الصَّحابة في تستر لما اشتدّ القتالُ في الفجر أخَّروها وصلّوها ضحًى؛ لأنَّ أداءها بطُمأنينة وكمال خيرٌ من أدائها على غير ذلك؛ لشدّة القتال، واشتغال القلوب، فلا بأس بالتَّأخير، والقول بالنَّسخ لا وجهَ له، القاعدة المعروفة أنَّ كلَّ ما أمكن الجمعُ فهو أولى من النَّسخ.

...............

ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتجّ بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر، فإنه يشتهر غالبًا، ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب، ولم يُنقل أنَّه أنكر عليهم، ولا أحدٌ من الصحابة، والله أعلم.

قال هؤلاء: وقد كانت صلاةُ الخوف مشروعةً في الخندق؛ لأنَّ غزوةَ ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول الجمهور علماء السِّيَر والمغازي، وممن نصَّ على ذلك محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي ومحمد بن سعد كاتبه وخليفة بن الخيَّاط وغيرهم.

وقال البخاريُّ وغيره: كانت ذاتُ الرقاع بعد الخندق؛ لحديث أبي موسى، وما قدم إلا في خيبر، والله أعلم.

الشيخ: وبكل حالٍ، سواء غزوة ذات الرِّقاع قبل أو بعد فالأصل عدم النَّسخ، والجمع أولى، فالقاعدة عند أهل العلم ..... أنَّ الجمعَ مُقَدَّمٌ على النَّسخ، إذا أمكن الجمعُ فهو المقدّم، ولا يُصار إلى النَّسخ إلا أن يتعذَّر الجمعُ والعلم بالتاريخ، نعم.

والعجب كل العجبِ أنَّ المزني وأبا يوسف القاضي وإبراهيم بن إسماعيل بن عُلية ذهبوا إلى أنَّ صلاةَ الخوف منسوخة بتأخيره عليه الصَّلاة والسَّلام الصلاةَ يوم الخندق، وهذا غريبٌ جدًّا، وقد ثبتت الأحاديثُ بعد الخندق بصلاة الخوف، وحمل تأخير الصَّلاة يومئذٍ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب، والله أعلم.

فقوله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ [النساء:102] أي: إذا صليتَ بهم إمامًا في صلاة الخوف، وهذه حالة غير الأولى، فإنَّ تلك قصرها إلى ركعةٍ كما دلَّ عليه الحديث، فُرادى ورجالًا ورُكْبَانًا، مُستقبلي القبلة وغير مُستقبليها، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمامٍ واحدٍ.

وما أحسن ما استدلّ به مَن ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة، حيث اغتُفرت أفعالٌ كثيرةٌ لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبةٌ لما ساغ ذلك.

الشيخ: والمقصود أنَّ صلاةَ الخوف الله جلَّ وعلا قال: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، من أوضح الأدلة على وجوب صلاة الجماعة، وأنَّ الواجبَ على المسلمين أن يُصلّوها جماعةً في بيوت الله ، مع شدّة الخوف، أمرهم أن يُصلوا جماعةً، وصلَّى بهم جماعة، وعند الحاجة قسمهم قسمين ..... إلا عند العجز، فدلَّ ذلك على أنَّه يجب على المسلمين أن يُصلوا جماعةً الصَّلوات الخمس في بيوت الله، وأنَّه لا يجوز لهم أن يُصلوها في منازلهم؛ ولهذا قال ﷺ: مَن سمع النِّداء فلم يأتِ فلا صلاةَ له إلا من عذرٍ، قيل لابن عباسٍ: ما العذر؟ قال: خوفٌ أو مرضٌ. وقال عليه الصَّلاة والسلام للأعمى لما سأله قال: يا رسول الله، ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد، فهل لي من رخصةٍ أن أُصلي في بيتي؟ قال له ﷺ: هل تسمع النِّداء بالصَّلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب، هذا أعمى ليس له قائدٌ ومع هذا يقول له: أجب، يعني: أجب النِّداء، صلِّ مع الجماعة، فكيف بالبصير والقادر من باب أولى؟ وإذا كانت تجب في صلاة الخوف إذا تيسر ذلك، فمن باب أولى في صلاة الأمن.

س: بعض رجال الحسبة ..... حتى إذا فاتت الصَّلاة وصلَّى الناسُ صلّوا في مقرِّهم؟

ج: إذا دعت الضَّرورةُ إلى هذا، الهيئة لها شأنٌ، رجال الهيئة لهم شأنٌ؛ يُراقبون الناس، ويأمرونهم بالصَّلاة، ويحضُّونهم، النبي ﷺ قال: لقد هممتُ أن آمر بالصَّلاة فتُقام، ثم آمر رجلًا فيؤمّ الناس، ثم أنطلق إلى رجالٍ لا يشهدون الصَّلاة فأحرق عليهم بيوتهم، هذا التَّخلف لأجل مصلحة المسلمين، وإقامة دين الله، والمنع من التَّخلف عن الجماعة.

س: إذا أكل الإنسانُ ثومًا أو بصلًا؟

ج: لا يُصلِّي مع الجماعة، إذا أكل ثومًا أو بصلًا يُصلي في بيته، الرسول نهاه أن يُصلي مع الجماعة، لا يُؤذيهم، وإذا كان قصد بذلك التَّخلف فهذا يكون عاصيًا، أمَّا إذا دعت الحاجةُ إلى البصل لحاجةٍ أو لعلَّةٍ لا بأس.

س: لو كان الجماعةُ في سفرٍ ويسمعون الأذانَ؟

ج: أي أذانٍ؟

س: أذان الصَّلاة؟

ج: أذان البلد؟

س: هم في البلد، لكنَّهم مُسافرون؟

ج: لا، ما يلزمهم؛ لأنَّ لهم عذرًا، يُصلون قصرًا، إلا إذا كان واحدًا تلزمه الجماعة، ولا يُصلي قصرًا، يلزمه أن يُصلي مع الجماعة؛ لأنَّ الجماعةَ واجبةٌ، أمَّا إذا كانوا جماعةً -اثنين فأكثر- إن صلَّوا مع الجماعة فلا بأس، وإن صلَّوا قصرًا لأنفسهم فلا بأس.

وأمَّا مَن استدلَّ بهذه الآية على أنَّ صلاةَ الخوف منسوخةٌ بعد النبي ﷺ؛ لقوله: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فبعده تفوت هذه الصِّفة، فإنَّه استدلالٌ ضعيفٌ، ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة الذين احتجّوا بقوله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، قالوا: فنحن لا ندفع زكاتنا بعده ﷺ إلى أحدٍ، بل نُخرجها نحن بأيدينا على مَن نراه، ولا ندفعها إلا إلى مَن صلاته -أي دُعاؤه- سكنٌ لنا. ومع هذا ردَّ عليهم الصَّحابةُ، وأبوا عليهم هذا الاستدلال، وأجبروهم على أداء الزكاة، وقتلوا مَن منعها منهم.

الشيخ: وهذا هو الصَّواب، مَن قال: إنها منسوخةٌ بقوله: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ، فهذا استدلالٌ بعيدٌ، فقد فعلها الصحابةُ بعده، والرسول ﷺ مُشَرِّعٌ، يُعلِّم الناسَ، فعلى الأُمَّة أن تسلك الشَّريعة التي جاء بها، وأن تستقيم عليها، فلا يجوز أن يُقال: إنَّ هذا خاصٌّ بحياته ﷺ. فهو المشرِّع والمعلِّم، فجميع الشَّرائع كلّها بعده للناس إلَّا ما خصَّه اللهُ به في حياته فقط، وأمَّا بقية الشَّرع كلّه للناس؛ يُعلِّمهم ويُرشدهم، وأمَّا ما خصَّه اللهُ به فقط فهذا انتهى بموته، مثل: كونه يتزوج تسعًا، وكونه له أن يقبل واهبة الشَّيء، الذي خصَّه به يختصُّ به عليه الصلاة والسلام، فالمقصود أنَّ صلاةَ الخوف له وللأُمَّة جميعًا.

س: مانعو الزكاة امتنعوا من أدائها بالكلية، أو امتنعوا من أدائها لأبي بكر؟

ج: منعوا أداءها لولي الأمر.

س: إذا فاتت الجماعةُ الأولى ما دليل الذين منعوا الجماعة الثانية؟

ج: لا دليلَ لهم، إذا فاتت الجماعةُ الأولى ووجدت جماعةٌ فصَلِّ معهم، النبيُّ ﷺ لما دخل رجلٌ وقد صلَّى الناسُ قال ﷺ: مَن يتصدَّق على هذا فيُصلِّي معه؟ وهذه جماعة جديدة، فإذا فاتت الجماعة وتيسرت جماعةٌ أخرى يُصلي معهم، وعليك أن تجتهد في المستقبل حتى لا تفوت الجماعة، حتى تُصلي مع الناس مع الإمام الراتب، لكن لو حصل تأخّر لبعض الأسباب ثم وجدت جماعة أخرى صلِّ معهم، نعم.

س: ..............؟

ج: هذه جماعة عارضة، ما هي بجماعٍة مرتبةٍ، هذه جماعة عارضة، جاءت جماعةٌ وصلَّى الناسُ صلّوا جماعةً، ما يُصلون فُرادى، الذي قال بهذا القول: "يُصلون فُرادى" قولٌ ساقطٌ لا وجهَ له.

س: ..............؟

ج: الجماعة الرَّاتبة التي يُصلِّي بهم الإمامُ الرَّاتب الواجب السَّعي إليها والصَّلاة معهم، ومَن تخلَّف فقد أثم إلا لعذرٍ شرعيٍّ، لكن لو تخلَّف لعذرٍ شرعيٍّ أو لغير عذرٍ ثم وجد جماعةً أخرى لزمه أن يُصلي معهم، ولا يُصلِّي وحده.

س: ..............؟

ج: إذا كانت سائمة عليه الزكاة، أمَّا إذا كانت ليست سائمةً ما عليه زكاة، إذا كانت للقنية، أمَّا إذا كانت للتِّجارة زكَّاها زكاة التِّجارة؛ زكاة العروض، زكاة الذهب والفضة، وأمَّا إذا كانت سائمةً أغلب الحول أو كل الحول وجبت فيها زكاة السَّائمة إذا بلغت النِّصاب.

س: ...............؟

ج: ما يُخالف، نعم، مثلما كان معاذٌ يُصلي مع النبي الفريضة، ثم يذهب ويُصلي بجماعته، هي له نفلٌ، ولهم فرضٌ، ومثلما صلَّى النبيُّ ﷺ صلاةَ الخوف، وصلَّى بجماعةٍ ركعتين، هذا فرضه، ثم صلَّى بآخرين ركعتين فرضًا لهم ونفلًا له عليه الصَّلاة والسلام.

س: إذا كانت الجماعةُ الراتبةُ تُؤخِّر الصلاةَ إلى آخر الوقت؟

ج: السُّنة عدم التَّأخير، السنة المبادرة، إلَّا العشاء إذا تأخَّروا أخَّر، هذا الأفضل، وأمَّا بقية الصَّلوات فالسنة فيها التَّقديم في أول الوقت، ما عدا العشاء، كان النبيُّ إذا رآهم عجَّلوا عجَّل، وإذا رآهم أخَّروا أخَّر عليه الصلاة والسلام، وهكذا الظهر في شدّة الحرّ، الأفضل تأخيرها في شدّة الحرّ.

س: يتصدَّق عليه ولو كانت صلاة مغربٍ؟

ج: ولو مغربًا، الحديث عامٌّ، نعم.

ومن هذا قصّة أبي ذرٍّ لما ذكر النبيُّ ﷺ أنه يأتي على الناس زمانٌ يُؤخِّر فيه الأُمراءُ الصَّلاةَ عن وقتها، قال أبو ذرٍّ: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: صَلِّ الصَّلاةَ لوقتها، فإذا أدركتَها معهم فصَلِّ؛ فإنَّها لك نافلة، ولا تقل: صلَّيْتُ فلا أُصلِّي.