باب موعظة المحدث عند القبر، وقعود أصحابه حوله

باب موعظة المحدِّث عند القبر، وقعود أصحابه حوله

يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ [القمر:7]، الأجداث: القبور.

بُعْثِرَتْ [الانفطار:4]: أُثيرت. بعثرتُ حوضي: أي: جعلتُ أسفله أعلاه.

الإيفاض: الإسراع.

وقرأ الأعمش: (إلى نصب) إلى شيءٍ منصوبٍ يستبقون إليه، والنصب: واحدٌ، والنصب مصدر.

يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق:42] من القبور.

يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]: يخرجون.

 1362- حدثنا عثمان، قال: حدثني جرير، عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبدالرحمن، عن عليٍّ قال: كنا في جنازةٍ في بقيع الغرقد، فأتانا النبي ﷺ، فقعد، وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس، فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحدٍ، ما من نفسٍ منفوسةٍ إلا كُتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كُتب: شقية، أو سعيدة، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أفلا نتَّكل على كتابنا وندع العمل؟ فمَن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما مَن كان منا من أهل الشَّقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشَّقاوة. قال: أما أهل السعادة فيُيسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيسرون لعمل الشقاوة، ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى الآية [الليل:5].

الشيخ: المؤلف رحمه الله أراد بهذا بيان شرعية التذكير عند اجتماع الناس في المقبرة، وهكذا في الاجتماعات التي تتم لأي مناسبةٍ؛ اغتنامًا للاجتماع وفرصة حضور الناس للتبليغ والبيان؛ لأن الله بعثه مُبلِّغًا ومُرشِدًا ومُعلِّمًا، وهو يعظهم عند اجتماعهم على الطعام، وعند اجتماعهم في القبور، وفي المساجد، ويوم الجمعة في الخطبة، وغير ذلك، في كل فرصةٍ مناسبةٍ يُبلِّغهم ما بعثه الله به.

وفي هذا أنه كان ذات يومٍ جالسًا عند قبرٍ ومعه أصحابه، ومعه مخصرة، يعني: عصا صغيرة، وجعل ينكت بها في الأرض ويقول: ما منكم من أحدٍ، وفي لفظٍ: ما من نفسٍ منفوسةٍ إلا وقد علم مقعدها من الجنة، ومقعدها من النار، وهل هي شقية أو سعيدة؟

وهذا مكتوبٌ عليك في بطن أمك، كما في حديث ابن مسعودٍ: يُؤمر الملكُ بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، بعد الطور الثالث، في أول الخامس من شهوره في بطن أمه، وهذا يُؤخذ من قوله جلَّ وعلا: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70]، مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ولَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الحديد:22].

وقوله في حديث عبدالله بن عمرو في "الصحيح": إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وحديث عمران بن حصين: كُتب في الذكر كل شيءٍ.

وقوله جلَّ وعلا: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].

وقول النبي ﷺ: كل شيءٍ بقدرٍ، حتى العجز والكيس، والأدلة في هذا كثيرةٌ.

وعند هذا قال الصحابةُ: أفلا نتَّكل على كتابنا؟ ما دام كل شيءٍ مكتوبًا، أفلا نتَّكل على كتابنا وندع العمل؟ مَن كان منا كُتب أنه شقيٌّ فسوف يعمل بالشقاوة، ومَن كان سعيدًا فسوف يعمل بالسعادة، فقال النبي ﷺ: اعملوا، فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له، فهم مأمورون بالعمل، وصدرت الأوامر من ربنا في كتابه العظيم، وعلى لسان رسوله الأمين بالتوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والصدق في أداء الأمانة، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف، وفي النهي عن المنكر، إلى غير هذا، فالعباد مأمورون بهذه الأوامر، وعليهم أن يمتثلوا.

كما صدرت النواهي منه سبحانه عن أشياء، أعظمها الشرك بالله، وصرف العبادة لغيره، وهكذا بقية أنواع الكفر، ثم يلي ذلك المعاصي من الكبائر: الزنا، والسرقة، وعقوق الوالدين، والربا، والغيبة، والنميمة، وقتل النفس بغير حقٍّ، إلى غير هذا من المعاصي.

فالواجب على العباد أن يمتثلوا، وأن يعملوا، وأن يُجاهدوا أنفسهم؛ لأن الله أعطاهم عقولًا، وأعطاهم إرادات، وأعطاهم أسماعًا وأبصارًا، وأعطاهم أدوات يعملون بها، فعليهم أن يعملوا ويسألوا الله التوفيق والإعانة، يسألوه، ويضرعوا إليه، ويستعينوا به: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، والله يقول: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ [النساء:32]، ويقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، فالعبد يعمل، ويكدح، ويجتهد، ويستعين بالله، ويضرع إليه، ويأخذ بالأسباب، والقدر من وراء ذلك.

وقوله: إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج:43]، النُّصب جمع نصاب، والنصب: الواحد، وهو المصدر، ما يُنصب للمُتسابقين من الأهداف، ويُسمّونه: الشبح، الهدف الذي يُنصب ليرميه الرُّماة؛ حتى يتمرَّنوا على إصابة الرمي.

فيخرجون سِرَاعًا إلى ما أُريد منهم في موقف الحساب والجزاء.

والأجداث: القبور كما هو معلومٌ، فهم يخرجون يوم القيامة من أجداثهم: من قبورهم، من سائر أجزاء الدنيا: من البحار، من التراب الذي تمزَّقت فيه أجسامهم، أو أجسام الحيوانات التي أكلتهم، أو غير ذلك، فهم يُجمعون من سائر أرجاء الأرض، ويخلقهم الله ويُعيدهم كما كانوا، ويجزيهم بأعمالهم: خيرها وشرّها، فهو القادر على كل شيءٍ : قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4]، فهو سبحانه قد علم أجزاءهم: أين كانت؟ وأين ذهبت من برٍّ وبحرٍ؟ وسوف يجمعهم، ويُجازيهم بأعمالهم نفسها، نفس الأجزاء: نفس العظام، ونفس الجلود التي عملت، تُجمع وتُجازى من خيرٍ وشرٍّ.

فالتذكير بهذا عند الاجتماع عند القبر، حين يجتمعون والقبر ما بعد انتهى، أو في وليمة عُرسٍ، أو في ..... وإعلان عرسٍ، أو في اجتماعٍ عارضٍ، أيّ اجتماعٍ، العالِمُ ينتهز الفرصة إذا حصل الاجتماع، وطالب العلم ينتهز فرصة الاجتماع للتذكير بالله وبحقِّه، والتذكير بما يجب على الناس، وفي كل وقتٍ يذكر ما يُناسبه من الترغيب والترهيب، حسبما في الوقت من بدعٍ أو معاصٍ وغير ذلك، يذكر في كل وقتٍ ما يُناسبه، ويُنبّه على ما يحسن التَّنبيه عليه. نعم.

حتى على الطعام؛ تقدّم أنه في بعض الأحيان يأخذ العظم وينهس منه، ثم يتكلّم عليه الصلاة والسلام في الحاضرين.

س: هل ثبت عنه ﷺ أنه ذكَّر في عرسٍ؟

ج: ما هي بأحاديث توقيفية، المهم الاجتماعات، والأعراس ما أذكر فيها شيئًا، لكنها اجتماعات، فرصة.

مواضع التذكير ما هي بتوقيفية، مواضع التذكير على حسب ما يراه المذكّر والمعلّم والمرشِد، حسب الفرص. نعم.

باب ما جاء في قاتل النفس

1363- حدثنا مسدد: حدثنا يزيد بن زريع: حدثنا خالد، عن أبي قلابة، عن ثابت بن الضحاك ، عن النبي ﷺ قال: مَن حلف بملَّةٍ غير الإسلام كاذبًا مُتعمدًا فهو كما قال، ومَن قتل نفسَه بحديدةٍ عُذِّب به في نار جهنم.

1364- وقال حجاج بن منهال: حدثنا جرير بن حازم، عن الحسن: حدثنا جندب في هذا المسجد، فما نسينا، وما نخاف أن يكذب جندب على النبي ﷺ، قال: كان برجلٍ جراحٌ فقتل نفسه، فقال الله: بدرني عبدي بنفسه؛ حرَّمتُ عليه الجنة.

الشيخ: وهذا وعيدٌ شديدٌ يدل على أن قاتل النفس مُعرَّضٌ للوعيد ولدخول النار، وأن الله حرَّم عليه الجنة، هذا من باب الوعيد، قد يكون التحريم أن يدخلها مع أول الداخلين، أو يدخلها على هيئةٍ خاصَّةٍ.

المقصود أن هذا من باب الوعيد في هذه المسائل وأشباهها، ومثل: لا يدخل الجنة نمَّامٌ.

فالحاصل أن الوعيد بحرمان الجنة وبدخول النار لا يلزم منه التكفير كما تقول الخوارج، لا يلزم أن يكون كافرًا، فقد يُتوعد بالنار مَن ليس بكافرٍ: كالنَّمام، وقاتل النفس، والزاني، والسارق، وغيرهم من أهل المعاصي.

وفي هذا خطر القتل للنفس، وأن القاتل يُعذَّب بما قتل به نفسه: إن قتل نفسه بحديدةٍ عُذِّب بها، أو بالسيف عُذِّب بالسيف، أو بالسمِّ عُذِّب بالسم، أو بالخنق عُذِّب بالخنق، وهكذا، مَن قتل نفسه بشيءٍ يُعذَّب به، إذا كان خنق نفسه يُخنق في النار، وإن كان بحديدةٍ يُعذَّب بحديدةٍ، وهكذا مثلما فعل، إلا أن يعفو الله عنه، فهو تحت العفو.

لكن هذا يوجب الحذر، وأن الإنسان عليه أن يصبر ويتحمّل، وإن أصابه ما أصابه، وإن جاءته مُضايقات، وإن أُوذي، وإن سُجن؛ لا يقتل نفسه، بل يتحمّل ويتصبر حتى يجعل الله له فرجًا ومخرجًا. نعم.

س: لكن ما يخلد في النار؟

ج: لا، ما يخلد، وعيدٌ بالنار، لكن لا يكفر، ولا يخلد، إنما هذا رأي الخوارج والمعتزلة، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: من باب الوعيد، فقد يدخل النار ويُعذَّب، وقد لا يدخل لأسبابٍ كثيرةٍ: من دعاء المسلمين له، واستغفارهم له، ومن حسناتٍ عظيمةٍ، ومن عفو الرب ، فله العفو كما يشاء، وذكر العلماء أسبابًا كثيرةً.

س: يُصلَّى عليه يا شيخ؟

ج: يُصلَّى عليه، نعم، لكن لا يُصلِّي عليه مَن له شأنٌ: كالإمام، والقاضي، ونحوهم، يُصلي عليه بعضُ الناس، فالنبي ﷺ قال في القاتل: أما أنا فلا أُصلي عليه، يُصلِّي عليه بعضُ الناس من باب الزجر عن مثل هذا العمل، نسأل الله العافية، مثل: الغالّ.

س: ويُدعا له؟

ج: يُدعا له بالمغفرة والرحمة والعفو، أهل السنة والجماعة يقولون: العُصاة تحت مشيئة الله، كما قال تعالى في شأنهم: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [النساء:48]، حكم بأن المشرك لا يُغفر له، ثم قال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ، فدلّ على أنهم مُعلَّقون تحت المشيئة، لو كانوا كفارًا لصاروا مُخلدين في النار، ما في مشيئة.

ثم أحاديث الشفاعة الكثيرة التي سمعتم بعضها في "صحيح مسلم" .....، وفيها أنه يشفع فيهم، ويخرجون من النار، وأن الله يحدّ له حدًّا فيُخرجهم من النار مرات كثيرة، يشفع فيهم عليه الصلاة والسلام، وأنه حرَّم على النار أن تأكل آثار السجود من المصلين، وهم دخلوا النار وهم يُصلون، لكن لهم ذنوبٌ دخلوا بها النار.

هذا هو الذي أجمع عليه أهل الحقِّ، خلافًا للخوارج القائلين بالتكفير والتخليد في النار، وخلافًا للمعتزلة في مُوافقتهم للخوارج في التخليد في النار. نعم.

س: والحلف بملّةٍ غير الإسلام؟

ج: فيه الوعيد الشديد، فهو كما قال: إن كان مُتعمدًا فهو كما قال، هذا وعيدٌ أيضًا، كأن يقول: واليهودية، أو والنصرانية، أو هو يهودي، أو هو نصراني إن فعل كذا وكذا. لا يجوز هذا، يكفي أن يقول: والله، يحلف بالله ويكفي. نسأل الله السلامة. نعم.

س: يجعل اليهودية قسمًا؟

ج: ..... معنى القسم: هو يهودي إن فعل كذا. هذا معنى القسم.

س: ............؟

ج: نعم، فالواجب الحذر من هذا، ويكفي ما شرع الله، فالحلف بالله يكفي. نعم.

س: شرب الدخان .....؟

ج: هذه معاصٍ، هذه من جنس المعاصي، مثل: الخمر، قد يموت بالخمر أيضًا، قد يُكثر من الخمر ويهلك، هذه من المعاصي، ما يُسمّى: قاتل نفسه، لكن تسبب في قتلها، يُخشى عليه.

س: يحلف بالذمة ويقول: بذمتي؟

ج: ما يجوز، "بذمتي" ما يجوز، أما "في ذمتي" ما هو بحلفٍ، لكن إذا قال: "بذمتي" أو "بالأمانة" فهذا ما يجوز، وفي الحديث الصحيح: مَن حلف بالأمانة فليس منا. نعم.

س: والحلف برأس فلان، وبالنبي ﷺ؟

ج: ما يجوز، كل ما يكون من الحلف بغير الله فهو منكرٌ، ومن المحرَّمات الكفرية، والنبي ﷺ يقول: مَن حلف بشيءٍ دون الله فقد أشرك. رواه أحمد بإسنادٍ صحيحٍ عن عمر .

وفي السنن عن ابن عمر: مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك، وفي الحديث الصحيح: مَن حلف بالأمانة فليس منا، قد أجمع أهلُ العلم على ذلك.

ويُروى عن بعض أهل العلم جواز الحلف بالنبي ﷺ، وهذا قولٌ باطلٌ، وليس بشيءٍ، والذي عليه إجماع أهل العلم منع ذلك مطلقًا: بالنبي عليه الصلاة والسلام، وبالأمانة وغيرها. نعم.

ويحلف بعض الناس فيقول: وحياة فلان، وشرف فلان، أو وحياتك. هذا منكرٌ لا يجوز، يجب التَّحذير منه، لكنه يكون شركًا أصغر، ويكون أكبر؛ فالحلف بغير الله شركٌ أصغر، هذا هو الأصل، مثل الرياء، ومثل: لولا الله وفلان، لولا الله وأنت. هذا شركٌ أصغر، وكذلك: هذا من الله ومنك. هذا شركٌ أصغر، لكن قد يكون أكبر في بعض الأحيان إذا اعتقد أنه يتصرف في الكون، أو أن له مشيئةً مثل مشيئة الله، أو أنه يستحقّ التعظيم كما يستحقّه الله حين حلف به؛ فصار شركًا أكبر. نعم.

س: كلمة "بجد" تصير قسمًا؟

ج: وأيش بجد؟ جدك؟

س: بجد؟

ج: بجد فلان، مثل: بأبي، سواءً بسواء، لا تجوز.

س: عكس الهزل؟

ج: ما هو بجد، يُقال: بجد، ضد الهزل: الجد، ما يجوز.

س: ما يُعتبر هذا قسمًا؟

ج: ما يقول: وجد فلان، أو وجدك، أو بجدك، ما يحلف به.

1365- حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: الذي يخنق نفسَه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار.

الشيخ: نسأل الله العافية، نسأل الله العافية، يُعذَّب بمثل ما قتل نفسَه، نسأل الله العافية.

باب ما يُكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين

رواه ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ.

1366- حدثنا يحيى بن بكير: حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهابٍ، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباسٍ، عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما مات عبدالله بن أبي ابن سلول دُعِيَ له رسول الله ﷺ ليُصلي عليه، فلما قام رسول الله ﷺ وثَبْتُ إليه، فقلتُ: يا رسول الله، أتُصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟! أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: أخِّر عني يا عمر، فلما أكثرتُ عليه قال: إني خُيِّرتُ فاخترتُ، لو أعلم أني إن زدتُ على السبعين يُغفر له لزدتُ عليها.

قال: فصلَّى عليه رسول الله ﷺ ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا إلى قوله: وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84].

قال: فعجبتُ بعد من جرأتي على رسول الله ﷺ يومئذٍ، والله ورسوله أعلم.

الشيخ: وهذا يدل على حرصه ﷺ على نفع الأمة وهدايتها، كان حريصًا على هدايتهم، وعلى إنقاذهم من النار عليه الصلاة والسلام، حتى بلَّغه الله أمرهم، وأنه لا يُصلَّى عليهم، وكان قد نزل عليه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]: لو أعلم أنه تنفعهم الزيادة لزدتُ على السبعين، لكن ما نُهيتُ عن الصلاة عليهم. فأراد أن ينفعهم بهذا، ويُرضي ابنه عبدالله، وهو رجلٌ صالحٌ: عبدالله بن عبدالله بن أبي صحابيٌّ جليلٌ، ورجلٌ صالحٌ.

وعبدالله يتظاهر بالإسلام، ويُنكر كل ما يُنسب إليه، وهو مُنافقٌ، رأس المنافقين، لكنه يُنكر ما يُنسب إليه، ويُكذِّب ما يُنسب إليه، ويتظاهر أنه مسلمٌ، وربما قام يعظ الناس ويحثّهم على اتباع النبي عليه الصلاة والسلام.

فلما أنزل الله الآية الصَّريحة ترك الصلاة، وهي قوله جلَّ وعلا: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا ولَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، صرَّح الله بكفرهم، والنهي عن الصلاة عليهم، فحينئذٍ انتهى أمرهم، وعلم أن مَن علم نفاقَه بالبينة لا يُصلَّى عليه، نسأل الله العافية.

س: تعبير المؤلف في الترجمة بالكراهة؟

ج: كراهة التحريم، تسامح في العبارة، مثل: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38] يعني: مُحرَّمًا.

وفي هذا أيضًا الدلالة على أن الكافر لا يُستغفر له؛ ولهذا لما أراد أن يستغفر لعمِّه أبي طالب -كما تقدم- أنزل الله الآية: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [التوبة:113]، ولما أراد أن يستغفر لأمه نُهي عن ذلك؛ لأنها ماتت في الجاهلية، فنُهي عن الاستغفار لها، فمَن مات على الكفر لا يُستغفر له، ولا يُدعا له. نعم.

باب ثناء الناس على الميت

1367- حدثنا آدم: حدثنا شعبة: حدثنا عبدالعزيز بن صهيب، قال: سمعتُ أنس بن مالك يقول: مرُّوا بجنازةٍ، فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي ﷺ: وجبتْ، ثم مرُّوا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال: وجبتْ، فقال عمر بن الخطاب : ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار، أنتم شُهداء الله في الأرض.

الشيخ: وهذا يدل على التسامح في الثناء على الميت؛ لأن الحيَّ يُخشى عليه العُجب والتكبر، أما الميت فما يُخشى عليه من هذا؛ فلهذا أقرَّهم النبي ﷺ على الثناء على الميت، ولم يقل لهم: لا تقولوا كذا، وقولوا: الله حسيبه ..... إلى آخره، فذاك يُقال في الحي؛ لأن الحي يُخشى عليه الثناء عليه، والمبالغة في الثناء خطرٌ، ولكن يُقال: الله حسيبه، نظنه كذا، ونعتقده كذا، والله حسيبه. مثلما في الأحاديث الصحيحة.

وهكذا الثناء بالشر على الميت إذا كان معروفًا بالبدعة أو المعاصي الظاهرة؛ للتحذير منه، والنبي ﷺ أقرَّهم، ما قال: لماذا قلتم؟!

ويُحمل هذا على أنه أظهر البدعة والشَّر؛ فلهذا أقرَّهم على الثناء عليه شرًّا.

أما المستور فالنبي ﷺ قال: لا تسبُّوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا، لكن إذا كان في إعلان حاله مصلحةٌ: للتحذير من بدعته، أو التأسي به؛ فيُحمل الواقع على هذا الشيء.

ومَن أُثني عليه خيرٌ من أهل العلم والإيمان والعدالة وجبت له الجنة، ومَن أُثني عليه شرٌّ من أهل الخير والعدالة وجبت له النار: أنتم شُهداء الله في الأرض، فهذا فيه غبطةٌ لمن أُثني عليه خيرٌ من أهل الإسلام، وفيه خطرٌ عظيمٌ لمن أثنى عليه أهلُ الخير بشرٍّ. نسأل الله العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

واستنبط من هذا بعضُ أهل العلم: أنه يُشهد بالجنة والنار لمن أُثني عليه بهذا أو هذا، والمعروف عند أهل العلم أنه لا يُشهد بالجنة والنار إلا لمن شهد له الرسول ﷺ بعينه، وإلا فنرجو للمؤمن المحسن، ونخاف على المسيء، لكن ما نقول: فلانٌ في الجنة، ولا فلانٌ في النار إلا بنصٍّ، لكن نعتقد أن المؤمنين في الجنة، وأن الكفار في النار عقيدةً عامَّةً، فأهل الإيمان في الجنة، هذه عقيدةٌ عامَّةٌ، مَن مات على الإيمان والإسلام فهو من أهل الجنة، ومَن مات على الكفر فهو من أهل النار، هذه عقيدةٌ عامَّةٌ، لكن زيد ابن فلان ومحمد ابن فلان من أهل الجنة، أو محمد ابن فلان من أهل النار على التعيين، هذا هو محل التوقف عند أهل السنة، فهم لا يشهدون لأحدٍ بعينه أنه من أهل الجنة، أو من أهل النار إلا بنصٍّ عن الرسول ﷺ، إلا مَن نصَّ عليه الرسول أو القرآن: كأبي لهبٍ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، هذا مشهودٌ له بالنار.

ومثل العشرة الذين شهد لهم النبيُّ ﷺ بالجنة، ومثل: عبدالله بن سلام فإنه في الجنة، ومثل: عكاشة، نشهد لهم لأنَّ الرسول ﷺ شهد لهم. ومثل: أناس شهد لهم بالنار، فنشهد لهم بالنار.

بعض أهل السنة قالوا أيضًا: يُشهد بالجنة والنار لمن أثنى عليه المسلمون خيرًا؛ لهذا الحديث: أنتم شُهداء الله في الأرض، وبهذا قال أبو ثورٍ وجماعةٌ، قالوا: مَن شهد له المؤمنون بالخير نشهد له بالجنة. كأحمد، ومالك، والثوري، وأشباههم من أهل العلم والإيمان الذين عُرفوا بالخير.

ومَن شُهد لهم بالسوء والشَّر -كالجهمية والمعتزلة وأعيانهم ورؤسائهم- نشهد لهم بالنار؛ لأن المؤمنين أثنوا عليهم شرًّا؛ لهذا الحديث الصحيح.

وهذا قولٌ قويٌّ، وهو جيدٌ، له وجهه، لكن المشهور عند السلف هو الأول، المشهور ألا يُشهد بالتعيين إلا لمن شهد له الرسول ﷺ، كما جزم به شيخُ الإسلام في "الواسطية"، وجزم به غيره من أهل العلم في العقائد.

س: قول الله : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143]؟

ج: يعني: يوم القيامة، تفسيرها أنهم شهداء على الناس، وشهداء في الدنيا بالتزكية والجرح ..... يعد بتزكيتهم وجرحهم في الدنيا، وفي الآخرة يعمل بشهادتهم على الناس.

س: يُؤخذ من هذا تزكية الأموات؟

ج: هذا محل البحث، مثلما في الحديث الصحيح: أن تزكية الأموات تنفعهم، وهي من أسباب دخول الجنة.

س: أنتم شهداء الله في الأرض خاصٌّ بالصحابة؟

ج: عامٌّ، للأمة كلها. نعم.

س: حديث: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، يُثنون عليه؟

ج: هذا حديثٌ صحيحٌ، وهذا قد يكون في الظاهر، وهو من أهل النار: كالمنافقين، وأشباههم، وغيرهم، قد يتظاهر بالعمل الصالح، وقد يُبتلى ثم يرتدّ، نسأل الله العافية، وقد يُظهر الشرَّ ثم يهديه الله عند الموت، هذا واقعٌ. نعم.

س: يُثني عليه الناس؟

ج: على حسب علمهم، ما لم يعلم الله خلافه، نعم، والنبي ﷺ أراد مَن لم يعلم الله خلافه، نعم، فعلم الله فيهم مُقدَّمٌ على علم الناس. نعم.

س: الجنازة الثانية التي أثنوا عليها شرًّا: مؤمن أو منافق؟

ج: ما ذكر في الحديث شيئًا، ما بيَّن في الحديث شيئًا. نعم.

1368- حدثنا عفان بن مسلم: حدثنا داود ابن أبي الفرات، عن عبدالله بن بُريدة، عن أبي الأسود قال: قدمتُ المدينة وقد وقع بها مرضٌ، فجلستُ إلى عمر بن الخطاب ، فمرَّت بهم جنازةٌ، فأُثني على صاحبها خيرًا، فقال عمرُ : "وجبت"، ثم مُرَّ بأخرى، فأُثني على صاحبها خيرًا، فقال عمر : "وجبت"، ثم مُرَّ بالثالثة، فأُثني على صاحبها شرًّا، فقال: "وجبت".

فقال أبو الأسود: فقلتُ: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلتُ كما قال النبي ﷺ: أيما مسلمٍ شهد له أربعةٌ بخيرٍ أدخله الله الجنة، فقلنا: وثلاثةٌ؟ قال: وثلاثةٌ، فقلنا: واثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد.

الشيخ: هذه بُشرى عظيمة، إذا شهد أهل الخير ولو اثنين.

س: هذا يُقيد الحديث السابق؟

ج: إيضاحٌ للسابق، وأنهم اثنان فأكثر. نعم.

س: المرائي بعمله .....؟

ج: المرائي معروفٌ حكمه، عمله باطلٌ، العمل الذي وقع فيه الرياء باطلٌ، أما المنافق فله شأنٌ آخر، نسأل الله العافية.

س: ............؟

ج: الغالب أن المرائي يفتضح، ما يُثنى عليه، يبين ويفتضح، لكن الصادق صاحب الخير يُسهِّل الله له مَن يُثني عليه بالخير، وأما المرائي فينكشف في الغالب، والناس لو أثنوا على أحدٍ بخيرٍ والله سبحانه يعلم أنه ليس بخيرٍ؛ ما نفعه ذلك. نعم، نسأل الله العافية.

وينبغي أن يُفهم في مثل هذا: "وجبت له الجنة، ووجبت له النار" ما لم يكن هناك أمرٌ يُعارض هذه الشهادة يعلمه الله سبحانه وتعالى، هذا هو الظاهر، فيه أسبابٌ، وفيه حثٌّ للإنسان على أن يتظاهر بالخير، ويبتعد عن الشرِّ؛ حتى يُشهد له بالخير، لا بالشرِّ.

هذه الأخبار تحثّ المؤمن على أن يتعاطى الخير، ويجتهد في أعمال الخير، ويتظاهر بالخير، ويبتعد عن أعمال السوء؛ حتى يشهد له إخوانه بالخير.

ولكن ليس معنى هذا أن مَن شُهد له بالخير، أو شُهد له بالشر، والله يعلم منه خلاف ذلك: أنها تنتهي مسألته، وتكون له الجنة، أو تكون له النار، هذه أسباب، والله أعلم بحقائق العباد ، ولا يضيع عليه شيءٌ، لا يضيع عنده عمل عاملٍ، بل إن ما عنده سبحانه من العلم بأحوال عباده هو الذي عليه المعول، وهو الذي عليه النهاية، فهذه أسباب، مثلما أن الصلاة سببٌ، والزكاة سببٌ، وقد تكون هناك أعمالٌ أخرى تمنع نجاته فيدخل النار وهو مُصلٍّ ومُزكٍّ وصائمٌ؛ لأن عنده عملًا آخر أوجب له النار ما درى عنه الناس.

س: الكافر إذا أسلم عند الموت؟

ج: يكون من أهل الجنة، إذا أسلم كفَّر الله خطاياه، إذا أسلم عند الموت، ولو لحظة الموت قبل أن يُغرغر، إذا أسلم وهو يعقل غفر الله له، إذا أسلم إنسانٌ وكان صادقًا، والله يعلم من قلبه الصدق؛ دخل الجنة. نعم.

وإذا كان إسلامه يتضمن إقلاعه عن الذنوب وتوبته منها؛ صار إسلامًا كاملًا يغفر الله به كل شيءٍ، ويدخل به الجنة، يقول جلَّ وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، قال العلماء: هذا في التائبين. أجمعوا على أنها في التائبين، لو تاب عند الموت لحظةً تاب الله عليه وأنجاه من النار.

وهكذا الكافر إذا أسلم إسلامًا صادقًا عن جميع الذنوب والمعاصي دخل الجنة، وإن أسلم عن الشرك ولكنه مُصرٌّ على المعاصي فتحت مشيئة الله.

س: .............؟

ج: يُلقن التوبة والشهادة، وإذا كان يقول: "لا إله إلا الله" يُلقن التوبة، يتوب من ذنوبه .....، أما إذا كان ما يقول: "لا إله إلا الله" كحال قريشٍ وأشباههم، إذا قال: "لا إله إلا الله" فهي توبةٌ.

س: تُعتبر توبةً؟

ج: إذا كان لا يقولها قبل ذلك. نعم.

س: كذلك المرتد؟

ج: إذا رجع عما قدَّمه، إذا كان ارتدَّ بترك الصلاة، وقال: تبتُ إلى الله، وأنا أصلي إن عشتُ. أو كان مُرتدًّا بإنكاره لوجوب الزكاة، أو وجوب الصلاة، وقال: أنا تائبٌ من ذلك، وأؤمن بالصلاة. يعني: إذا رجع عمَّا كفر به، إذا تاب من الشيء الذي كفر به عند الموت.