.............
باب الرِّياء في الصَّدقة
لقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى إلى قوله: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264].
وقال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: صَلْدًا: ليس عليه شيء.
وقال عكرمة: وَابِلٌ: مطر شديد، والطَّل: النَّدى.
باب: لا يقبل اللهُ صدقةً من غلولٍ، ولا يقبل إلا من كسبٍ طيبٍ؛ لقوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:263]
باب: الصَّدقة من كسبٍ طيبٍ؛ لقوله: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:276-277].
1410- حدثنا عبدالله بن منير، سمع أبا النَّضر: حدثنا عبدالرحمن -هو ابن عبدالله بن دينار-، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن تصدّق بعدل تمرةٍ من كسبٍ طيبٍ، ولا يقبل اللهُ إلا الطّيب، وإنَّ الله يتقبّلها بيمينه، ثم يُربّيها لصاحبه.
الشيخ: لصاحبه، أو لصاحبها؟
قارئ المتن: لصاحبه.
طالب: في العيني: لصاحبها.
الشيخ: هذا المعروف في الرواية، يعني: لصاحب التَّمرة، "لصاحبه" يعني: العدل، عدل التَّمرة، نعم. تكلّم عليه الشَّارح؟
قارئ المتن: .........
الشيخ: يُربيه العدل، مذكر، "يُربيها" أي: التَّمرة نفسها، ماشٍ.
كما يُربِّي أحدُكم فلوّه، حتى تكون مثل الجبل.
تابعه سليمان، عن ابن دينار، وقال ورقاء: عن ابن دينار، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرةَ ، عن النبي ﷺ.
ورواه مسلم ابن أبي مريم، وزيد بن أسلم، وسهيل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ.
الشيخ: كلمة مثل الجبل تكلّم عليها بشيءٍ، في الرِّواية الأخرى: أعظم من الجبل.
قوله: حتى تكون مثل الجبل، ولمسلم من طريق سعيد بن يسار، عن أبي هريرة: حتى تكون أعظم من الجبل.
ولابن جرير من وجهٍ آخر، عن القاسم: حتى يُوافى بها يوم القيامة وهي أعظم من أحدٍ يعني: التَّمرة، وهي في رواية القاسم عند الترمذي بلفظ: حتى إنَّ اللّقمة لتصير مثل أحدٍ، قال: وتصديق ذلك في كتاب الله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].
الشيخ: يكفي، نعم، في رواية مسلم: حتى تكون أعظم من الجبل. نعم.
باب الصَّدقة قبل الردِّ
1411- حدثنا آدم: حدثنا شعبة: حدثنا معبد بن خالد، قال: سمعتُ حارثة بن وهب، قال: سمعتُ النبي ﷺ يقول: تصدَّقوا، فإنَّه يأتي عليكم زمانٌ يمشي الرجلُ بصدقته فلا يجد مَن يقبلها، يقول الرجل: لو جئتَ بها بالأمس لقبلتُها، فأمَّا اليوم فلا حاجةَ لي بها.
الشيخ: وهذا معنى قوله: "قبل الردِّ" يعني: قبل أن يردّها الناس، يعني: اغتنام الصَّدقة ما دام يُوجد فُقراء يقبلونها.
فينبغي للمؤمن أن يلتمس الفُقراء، ويُحسن إليهم قبل ألا يجدهم، يأتي على الناس زمانٌ يكون فيه الناسُ أغنياء، يفيض فيهم المال حتى لا يقبله أحدٌ، كما جاء في الحديث الصَّحيح.
ويُشرع للمؤمن وينبغي له أن يحرص على إنفاق المال ما دام يُقبل، ما دام يُوجد مَن يقبله قبل أن يردّ؛ لسعة المال وكثرته وفيضانه، حتى يقول الرجلُ للرجل: لو جئتَ بها بالأمس لقبلتُها، أما اليوم فلا حاجةَ لي بها؛ لكثرة المال، ولقرب القيامة، نعم.
س: بالنسبة للأموال التي يكون فيها غشٌّ، هل إذا تصدّق بها الإنسانُ، أو صلَّى في ثوبٍ من هذا النوع؟ ما حكمه؟
ج: يتبرأ منها إذا كانت من غشٍّ، إذا كان فيها خللٌ، من باب البراءة والحرص على ما تسلم به ذمّته يتصدّق بها ويصرفها في وجوه البرِّ والخير: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
أمَّا الصلاة فلا تضرّ، لو صلَّى في ثوبٍ فيه شُبهة وشكَّ ما يضرّ، صلاته صحيحة، الخلاف إذا صلَّى في ثوبٍ مغصوبٍ، يعني: مُحرّمًا، أو اشتراه بثمنٍ مُحرّمٍ، فهذا محلّ البحث، والصواب أنها تحلّ الصلاة، حتى بذلك تصحّ، لكنَّه يأثم، عليه إثم الغصب، عليه إثم الكسب الخبيث، ولكن الصَّلاة صحيحة ولو كان الثوبُ مغصوبًا، أو اشتراه بثمنٍ من كسبٍ ما هو بطيبٍ؛ لأنَّ النهي ليس من أجل الصلاة، النَّهي من أجل الظلم، من أجل الكسب الخبيث، وليس شيئًا يختصّ بالصلاة، وهذا أمرٌ مُنكر حتى في غير الصلاة، ليس له أن يكسب الكسب الخبيث، وليس له أن يغصب الناس أموالهم: لا ثيابًا، ولا غيرها، نعم.
س: إذا تصدّق بها ..... بنية التَّخلص، أو بنية القُربة؟
ج: إذا كانت من ريبةٍ فالتَّخلص والقُربة جميعًا، وإن كانت من كسبٍ خبيثٍ فالمقصود التَّخلص منه، حتى تبرأ ذمّته مع التوبة.
س: .............؟
ج: له أجر التَّخلص، والرغبة في الخير، والبراءة لدينه وعرضه، وليس له ثواب المتصدقين من كسبٍ طيبٍ.
س: ...............؟
ج: إذا ما وجد أهله فهذا يتصدّق به عن أهله، لكن كسب كسبه من مُخدرات، من خمور، من ربا، فهذا كسبٌ خبيثٌ لا يأكله، لكن يصرفه في وجوه البرِّ؛ ليبرأ منه، يكون هذا من تمام التَّوبة.
س: ..... الذي لا يعرف صاحبه .....؟
ج: هذه صدقة لصاحبه.
س: بنية التَّخلص منه؟
ج: نعم.
س: بعض أصحاب الأموال يحطّون أموالهم في البنوك، ويأخذون عليها مكسبًا، وبعد ذلك يعرف أنَّها حرام، هذا المكسب أيش يُسوِّي فيه؟
ج: عليه التوبة، وإذا قدر يتصدّق به، ويُعطيه بعض الفُقراء، أو المجاهدين، أو في بعض المشاريع الخيرية، مثل: إصلاح الطُّرقات، ومثل: إقامة الرُّبط، إلى غير ذلك، حتى لا يُنفقه في خاصيته، ولكن يتخلص منه في أمرٍ مشروعٍ ينفع الناس، ولكن لا يُعامل بالربا، ليس له أن يُعامل بالربا ويقول: أتصدّق. لا، لا يُعامل بالربا، لكن إذا فُرض أنَّه أخذه ودخل عليه فهذا يُنفقه في الجهات الخيرية، ولا يأكله: لا مطعمه، ولا مشربه، ولا قضاء دَينه، بل يُخرجه إلى جهاتٍ خيريةٍ.
س: هل يُعتبر من ترك الشُّبَه أنَّ الإنسان ما يدع ماله في البنك؟
ج: نعم، لا يُودعه في البنك، إذا تيسّر له مكانٌ آخر لا يُودعه في البنك، ولو بغير ربا؛ لئلا يُعينهم على شيءٍ من أعمال الرِّبا.
1412- حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب: حدثنا أبو الزناد، عن عبدالرحمن، عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: لا تقوم الساعةُ حتى يكثر فيكم المال، فيفيض حتى يهمّ ربّ المال مَن يقبل صدقته، وحتى يعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه: لا أربَ لي.
1413- حدثنا عبدالله بن محمد: حدثنا أبو عاصم النَّبيل: أخبرنا سعيد بن بشر: حدثنا أبو مجاهد: حدثنا محل بن خليفة الطَّائي، قال: سمعتُ عدي بن حاتم يقول: كنتُ عند رسول الله ﷺ، فجاءه رجلان: أحدهما يشكو العيلةَ، والآخر يشكو قطعَ السَّبيل، فقال رسولُ الله ﷺ: أمَّا قطع السَّبيل: فإنَّه لا يأتي عليك إلا قليل حتى تخرج العيرُ إلى مكّة بغير خفيرٍ. وأمَّا العيلة: فإنَّ الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدُكم بصدقته لا يجد مَن يقبلها منه، ثم ليقفنَّ أحدُكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يُترجم له، ثم ليقولنَّ له: ألم أوتِك مالًا؟ فليقولن: بلى. ثم ليقولنَّ: ألم أُرسل إليك رسولًا؟ فليقولن: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النَّار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النَّار، فليتقين أحدُكم النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فإن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ.
الشيخ: أيش قال الشارحُ على حديث عدي؟ حديث عظيم.
الشيخ: وهذا في زمن عيسى واضحٌ كما جاء في الأحاديث الصَّحيحة، نزل عيسى يحكم بهذه الشَّريعة، وفي الحديث: ويفيض المال في زمانه، ولا يقبل إلا الإسلام أو السَّيف.
وهكذا في زمن المهدي يفيض المال أيضًا، وتُملأ الأرض عدلًا، والله جلَّ وعلا قد .....، والله المستعان.
أمَّا يومنا هذا فالمال اليوم محبوبٌ، وكلٌّ يُريده، والله المستعان.
وحديث أبي موسى الآتي بعده مُشعرٌ بذلك أيضًا، وقد أشار عدي بن حاتم كما سيأتي في "علامات النبوة" إلى أنَّ ذلك لم يقع في زمانه، وكانت وفاتُه في خلافة معاوية بعد استقرار أمر الفتوح، فانتفى قول مَن زعم أنَّ ذلك وقع في ذلك الزمان.
قال ابنُ التين: إنما يقع ذلك بعد نزول عيسى، حين تُخرج الأرضُ بركاتها، حتى تُشبع الرّمانةُ أهلَ البيت، ولا يبقى في الأرض كافرٌ، ويأتي الكلامُ على اتِّقاء النار ولو بشقِّ تمرةٍ في الباب الذي يليه.
الشيخ: ويظهر من هذا الكلام أنَّ الله يُكلّم الناس كلّهم: ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلّمه ربُّه، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان، وهذا عامٌّ: للكافر، والمسلم، بخلاف الرؤية؛ فإنَّها تختصّ بأهل الإيمان، وأمَّا المكالمة وقوله: ليس دونه حجاب قد يُؤيد قول مَن قال: في الموقف يوم القيامة يراه الناسُ كلّهم يوم القيامة، كما حكاه أبو العباس من حديث ابن سرح، حديث النزول، وأنَّه يوم القيامة يراه الناسُ كلّهم: مُسلمهم وكافرهم، ولكن في الجنَّة لا يراه إلا المؤمنون.
ولكن قوله جلَّ وعلا: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] يقتضي أنَّهم لا يرونه، وهذا قول جمهور أهل السُّنة: أنَّهم لا يرونه: لا في القيامة ..... حتى في القيامة، وأنَّ قوله: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ يعني: يوم القيامة.
والكلام يعمّ: ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلّمه ربُّه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، في هذا: فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، فيحتمل أنَّ بعضهم كذا، وبعضهم كذا؛ بعضهم النار مُحيطة به، وبعضهم تكون النارُ أمامه، نسأل الله السَّلامة.
فاتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ يعني: فيه الحثُّ على الصَّدقة، وعلى عدم احتقار القليل، ولو بشقِّ تمرةٍ.
وقد ذكرتُ لكم غير مرةٍ في البخاري رحمه الله حديث عائشةَ في المرأة التي جاءت تشحذ ومعها ابنتان لها، فقالت عائشةُ: فلم أجد في البيت إلا ثلاث تمرات، فأعطيتُها إياها، فدفعت إلى كل بنتٍ تمرةً، ورفعت إلى فيها تمرةً، فاستطعمتها ابنتاها التَّمرة الثالثة، فشقَّتها بينهما نصفين، ولم تأكل شيئًا. قالت: فأعجبني شأنها، فأخبرتُ النبي ﷺ لما جاء، فقال: إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنة، ولعله يأتي في الأحاديث الآتية.
المقصود أنَّ شقَّ التَّمرة قد ينفع في بعض الأحيان عند شدّة الحاجة، عند الفقر والمسغبة، إذا أُعطي الفقير تمرةً، والآخر أعطى شقَّ تمرةٍ، والآخر أعطاه؛ تجمّعت له تمرات، نعم.
س: بالنسبة للذين يستخدمون الخدم ..... يجوز أن يُعطوا من صدقة التَّطوع، غير الزكاة؟
ج: مَن هم؟
س: الشَّغالون الذين يشتغلون، الكفَّار؟
ج: إذا لم يكونوا حربًا لنا نعم، يُعطون، .....، أما سمعت الله يقول: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8].
س: قوله جلَّ شأنه: وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ [البقرة:174]؟
ج: يعني: كلام رحمةٍ، وكلام رضا.
س: أليس رفع الحجاب يُعتبر رؤية؟
ج: هذا ظاهر، ويُؤيد قول مَن قال: إنَّ الرؤية تعمّ الموقف. ويحتمل أن يُقال: أنَّ هذا في حقِّ المؤمنين: ما منكم من أحدٍ يعني: من أهل الإيمان، أهل الإسلام، يعني: ليس المراد الكفَّار، نعم.
س: أولئك الذين يأتون بالكفرة هل يجوز لهم هذا الفعل؟
ج: في الجزيرة ما يدخلون، الواجب عدم استقدامهم إلى الجزيرة، النبي ﷺ أوصاهم بإخراجهم منها، فلا يُستقدمون إلا للحاجة: كالرسول –البريد-، وكالذي يبيع الميرة ويرجع، حاجات ما هي بإقامة، أو تدعو الحاجةُ ولي الأمر إلى استقدامه في حاجةٍ عارضةٍ: كطبيبٍ مُختصٍّ، أو شبه ذلك مما قد ينفع الناس.
المقصود أنَّهم يُستقدمون لحاجةٍ خاصَّةٍ لا استمرارَ لها.
س: مَن يستقدم كافرًا بحجة أنَّه يدعوه؟
ج: لا، لا يستقدمه، يدعوه إلى الله في بلاده، يذهب الدُّعاة إليهم ويدعونهم إلى الله هناك، لكن إذا جاءوا لحاجةٍ تستغل الفرصة، مثل حالتهم الآن فرصة للدَّعوة، وقد نفع الله بذلك، .....، وصار له أثرٌ عظيمٌ في إسلام الكثيرين. نعم.
الشيخ: وهذا أبلغ، من الذهب، ما هو بفضة، ولا ورق، من الذهب، يطوف ولا يجد أحدًا يقبله؛ لفيضان المال، واستغناء الناس، وقِلّة الرجال، وكثرة النساء أيضًا، قد يكون هذا بسبب الحروب، أو بسبب الأوبئة، تقضي على الرِّجال، أو بأسبابٍ قضاها الله جلَّ وعلا في الأرحام، قد يكون الغالب أنَّه لا يلد الناسُ إلا النساء، حتى تكثر النساء، ويقلّ الرجال، ما أخبر به ﷺ لا بدَّ أن يقع، نعم.
س: لكن -أحسن الله إليك- كثرة النِّساء وقِلّة الرجال هل لها أثرٌ في عدم قبول الصَّدقة؟
ج: ما هو بظاهر، الظَّاهر تغير الأحوال. نعم.
باب: اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ، والقليل من الصَّدقة
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ الآية، وإلى قوله: مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [البقرة:265-266].
1415- حدثنا عبيدالله بن سعيد: حدثنا أبو النعمان الحكم -هو ابن عبدالله البصري-: حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعودٍ قال: لما نزلت آيةُ الصَّدقة كنا نُحامل، فجاء رجلٌ فتصدّق بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي. وجاء رجلٌ فتصدّق بصاعٍ، فقالوا: إنَّ الله لغنيٌّ عن صاع هذا. فنزلت: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ الآية [التوبة:79].
الشيخ: وهذا من شأن المنافقين، فشرُّهم عظيم، لا يسلم منهم أحد، مَن أنفق مالًا كثيرًا قالوا: مرائي. ومَن أنفق مالًا قليلًا قالوا: الله غنيٌّ عن صدقة هذا. وهذا من عملهم الخبيث، وتثبيطهم عن الخير، والواجب الحذر من أخلاقهم، والتَّشجيع على الصَّدقة ولو بالقليل، نعم.
الشيخ: هذا يدلّ على عِظم رغبة الصَّحابة في الصَّدقة ، وأنَّه يذهب إلى السوق ويحمل على ظهره حاجات الناس؛ حتى يأخذ أجرةً فيتصدّق بها، فيذهب إلى السوق، ويحمل لهذا حاجةً، ولهذا حاجةً، ولهذا حاجةً، ويُعطيه الأجرة: مُدًّا، أو درهمًا، أو أشباه ذلك، فيتصدّق بها، يحمل ليتصدّق، يعمل ويحمل ليتصدّق.
"وإنَّ لبعضهم اليوم لمئة ألف" هذا في زمن أبي مسعود، والآن لبعضهم مئات الملايين ولا يتصدّق، والله المستعان!
1417- حدثنا سليمان بن حرب: حدثنا شُعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعتُ عبدالله بن معقل، قال: سمعتُ عدي بن حاتم ، قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: اتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ.
1418- حدثنا بشر بن محمد، قال: أخبرنا عبدالله: أخبرنا معمر، عن الزهري قال: حدَّثني عبدالله ابن أبي بكر ابن حزم، عن عروةَ، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: دخلت امرأةٌ معها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئًا غير تمرةٍ، فأعطيتُها إياها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبيُّ ﷺ علينا، فأخبرتُه، فقال: مَن ابتُلِيَ من هذه البنات بشيءٍ كنَّ له سترًا من النار.
الشيخ: في الرواية الأخرى: فأحسن إليهنَّ، وفي لفظٍ: مَن ولي بدل مَن ابتُلي، مَن ولي من هذه البنات شيئًا فأحسن إليهنَّ، وهكذا الأخوات: كنَّ له سترًا من النار.
وفي هذا الحثُّ على الإحسان إلى البنات والأخوات والقريبات، من باب صلة الرحم ... في هذه الرواية: تمرة واحدة. وفي روايةٍ أخرى: ثلاث تمرات. الله المستعان، أيش قال الشَّارح؟
س: أحسن الله إليك، قوله: مَن ابتُلي من هذه البنات بشيءٍ ألا يدلّ على أنَّ البنات بذاتهنَّ بلوى، وأنَّ الأولاد أفضل منهنَّ؟
ج: يظهر من الرواية؛ لأنهنَّ خطرٌ، ويحتجن إلى عنايةٍ ورعايةٍ حتى لا تقع الفتنةُ بهنَّ أو منهنَّ، ولكن في الرواية الأخرى: مَن ولي، ورواية ابتُلي تدلّ على أنَّ البنات ابتلاء وامتحان: هل يقوم عليهنَّ؟ هل يصونهنَّ؟ هل يُعلِّمهنَّ؟ هل يُوجِّههنَّ؟ هل يختار لهنَّ الأكفاء من الرجال؟ وهنَّ في ابتلاء.
وهكذا الأخوات: إذا مات أبوه فهو مُبتلى بهذا الشَّيء: هل يجتهد؟ هل يُحسن إليهّنَّ؟ هل يُحسن صُحبتهنَّ؟ هل يُعلِّمهنَّ؟ هل يختار لهنَّ الأزواج الصَّالحين؟ إلى غير هذا من أنواع الابتلاء. نعم.
ثالثها: حديث عائشة، وسيأتي في "الأدب" من وجهٍ آخر عن الزهري بسنده، وفيه التَّقييد بالإحسان، ولفظه: مَن ابتُلِيَ من البنات بشيءٍ فأحسن إليهنَّ كُنَّ له سترًا من النار، وسيأتي الكلام عليه مُستوفًى هناك إن شاء الله تعالى.
ومُناسبته للترجمة من جهة أنَّ الأم المذكورة لما قسمت التَّمرةَ بين ابنتيها صار لكل واحدةٍ منهما شقُّ تمرةٍ، وقد دخلت في عموم خبر الصَّادق: أنَّها ممن ستر من النار؛ لأنَّها ممن ابتُلي بشيءٍ من البنات فأحسن.
ومناسبة فعل عائشة للترجمة من قوله: "والقليل من الصدقة"، وللآية من قوله: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ لقولها في الحديث: "فلم تجد عندي غير تمرةٍ".
وفيه شدّة حرص عائشةَ على الصَّدقة؛ امتثالًا لوصيته ﷺ لها، حيث قال: لا يرجع من عندك سائلٌ ولو بشقِّ تمرةٍ. رواه البزارُ من حديث أبي هريرة.
الشيخ: نعم.
باب فضل صدقة الشَّحيح الصَّحيح
لقول الله تعالى: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المنافقون:10]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ الآية [البقرة:254].
1419- حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا عبدالواحد: حدثنا عمارة بن القعقاع: حدثنا أبو زرعة: حدثنا أبو هريرة ، قال: جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، أيّ الصَّدقة أعظم أجرًا؟ قال: أن تصدّق وأنت صحيحٌ، شحيحٌ، تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تُمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان.
الشيخ: وهذا أفضل ما يكون من الصَّدقة، يعني: بالنسبة إلى حال الإنسان، أفضل الصَّدقة في حاله أن يتصدّق وهو صحيحٌ، شحيحٌ، ليس بمريضٍ، وليس بزاهدٍ في المال لقُرب الأجل، بل هو شحيحٌ بالمال، يُحبّ المال، يرجو الغنى، ويخشى الفقر، هذا هو محلّ الصَّدقات الفُضلى في هذه الحال.
أمَّا من حيث المال: فالصَّدقة من حيث المال كلما كانت من كسبٍ طيبٍ كان أفضل، وكلما كانت ..... فهو أفضل.
أمَّا من جهة ذاته هو: أن يتصدّق وهو صحيحٌ، شحيحٌ، يأمل الغنى، يرجو الغنى، ويخشى الفقر، ولا يُمهل إلى حالة المرض وقُرب الأجل، نعم.
س: .............؟
ج: كونه من كسبٍ طيبٍ، كونه يزيد، كونه يُعطيه، كونه يضعه في محلِّه.
س: كونه عن ظهر غنًى؟
ج: نعم، هذا يرجع إلى ذات المال.
الشيخ: المشهور في هذا أنَّه كان في حقِّ زينب، وأنَّهم ظنوا أنَّ طول اليد الحسيّ، فتبين لهم بعد هذا أنَّ المراد كثرة الإنفاق، وأنَّ اليد الصَّدقة، والمشهور أنَّ التي ماتت أولًا هي زينب في عهد عمر، في آخر عهد عمر، بدل سودة، أيش قال الشَّارحُ؟
قوله: "فكانت سودةُ" زاد ابن سعد، عن عفان، عن أبي عوانة بهذا الإسناد: بنت زمعة بن قيس.
قوله: "أطولهنَّ يدًا" في رواية عفان: "ذراعًا"، وهي تُعين أنهنَّ فهمن من لفظ "اليد" الجارحة.
قوله: "فعلمنا بعد" أي: لما ماتت أول نسائه به لحوقًا.
قوله: "إنما" بالفتح، و"الصدقة" بالرفع، و"طول يدها" بالنصب؛ لأنَّه الخبر.
قوله: "وكانت أسرعنا" كذا وقع في "الصَّحيح" بغير تعيين، ووقع في "التاريخ الصَّغير" للمُصنف عن موسى بن إسماعيل بهذا الإسناد: فكانت سودةُ أسرعنا .. إلخ.
وكذا أخرجه البيهقي في "الدلائل"، وابن حبان في "صحيحه" من طريق العباس الدُّوري، عن موسى.
وكذا في رواية عفان عند أحمد، وابن سعد عنه، قال ابنُ سعد: قال لنا محمد بن عمر –يعني: الواقدي-: هذا الحديث وهل في سودة، وإنما هو في زينب بنت جحش.
مُداخلة: عندنا: "وهم".
الشيخ: يُقال: وهل. ويُقال: وهم. المعنى واحد، يعني: غلط، وهل، ووهم، نعم، يقال: وهِل، ووهم، ووهَل أيضًا، نعم.
فهي أول نسائه به لحوقًا، وتُوفيت في خلافة عمر، وبقيت سودةُ إلى أن تُوفيت في خلافة معاوية في شوال سنة أربعٍ وخمسين.
قال ابنُ بطال: هذا الحديث سقط منه ذكر زينب؛ لاتِّفاق أهل السِّير على أنَّ زينب أول مَن مات من أزواج النبي ﷺ، يعني: أنَّ الصواب: وكانت زينب أسرعنا .. إلخ.
ولكن يُعكر على هذا التَّأويل تلك الروايات المتقدّمة المصرّح فيها بأنَّ الضمير لسودة، وقرأتُ بخط الحافظ أبي علي الصّدفي: ظاهر هذا اللَّفظ أنَّ سودة كانت أسرع، وهو خلاف المعروف عند أهل العلم: أنَّ زينب أول مَن مات من الأزواج.
ثم نقله عن مالك من روايته عن الواقدي، قال: ويُقويه رواية عائشة بنت طلحة.
وقال ابنُ الجوزي: هذا الحديث غلطٌ من بعض الرواة، والعجب من البخاري كيف لم يُنبّه عليه؟! ولا أصحاب التَّعاليق، ولا علم بفساد ذلك الخطابيُّ؛ فإنَّه فسَّره وقال: "لحوق سودة به من أعلام النبوة". وكلّ ذلك وهمٌ، وإنما هي زينب، فإنها كانت أطولهنَّ يدًا بالعطاء كما رواه مسلمٌ من طريق عائشةَ بنت طلحة، عن عائشةَ بلفظ: فكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنَّها كانت تعمل وتتصدّق. انتهى.
وتلقى مغلطاي كلام ابن الجوزي فجزم به، ولم ينسبه له، وقد جمع بعضُهم بين الروايتين: فقال الطّيبي: يمكن أن يُقال فيما رواه البخاري: المراد الحاضرات من أزواجه دون زينب، وكانت سودةُ أولهنَّ موتًا.
قلتُ: وقد وقع نحوه في كلام مغلطاي، لكن يُعكر على هذا أنَّ في رواية يحيى بن حماد عند ابن حبان: أنَّ نساء النبي ﷺ اجتمعن عنده، لم تُغادر منهنَّ واحدة.
ثم هو مع ذلك إنما يتأتى على أحد القولين في وفاة سودة، فقد روى البخاري في "تاريخه" بإسنادٍ صحيحٍ إلى سعيد بن هلال أنَّه قال: ماتت سودةُ في خلافة عمر. وجزم الذَّهبي في "التاريخ الكبير" بأنها ماتت في آخر خلافة عمر. وقال ابنُ سيد الناس: أنَّه المشهور.
وهذا يُخالف ما أطلقه الشيخُ محيي الدِّين حيث قال: أجمع أهلُ السير على أنَّ زينب أول مَن مات من أزواجه. وسبقه إلى نقل الاتِّفاق ابنُ بطال كما تقدّم.
ويمكن الجواب بأنَّ النقل مُقيد بأهل السِّير، فلا يرد نقل قول مَن خالفهم من أهل النَّقل ممن لا يدخل في زُمرة أهل السّير.
وأمَّا على قول الواقدي الذي تقدّم فلا يصحّ، وقد تقدّم عن ابن بطال أنَّ الضمير في قوله: "فكانت" لزينب، وذكرتُ ما يُعكر عليه، لكن يمكن أن يكون تفسيره بسودة من بعض الرواة؛ لكون غيرها لم يتقدّم له ذكرٌ، فلمَّا لم يطلع على قصّة زينب وكونها أول الأزواج لحوقًا به جعل الضَّمائر كلَّها لسودة.
وهذا عندي من أبي عوانة، فقد خالفه في ذلك ابنُ عيينة، عن فراس، كما قرأتُ بخط ابن رشيد: أنَّه قرأه بخط أبي القاسم ابن الورد. ولم أقف إلى الآن على رواية ابن عُيينة هذه، لكن روى يونسُ بن بكير في زيادات "المغازي"، والبيهقي في "الدلائل" بإسناده عنه، عن زكريا ابن أبي زائدة، عن الشَّعبي: التَّصريح بأنَّ ذلك لزينب، لكن قصر زكريا في إسناده، فلم يذكر مسروقًا، ولا عائشة، ولفظه: قلن النِّسوةُ لرسول الله ﷺ: أيّنا أسرع بك لحوقًا؟ قال: أطولكنَّ يدًا، فأخذن يتذارعن أيّتهن أطول يدًا؟ فلمَّا تُوفيت زينب علمن أنَّها كانت أطولهنَّ يدًا في الخير والصَّدقة.
ويُؤيده أيضًا ما روى الحاكمُ في "المناقب" من "مستدركه" من طريق يحيى بن سعيد، عن عمرةَ، عن عائشة قالت: قال رسولُ الله ﷺ لأزواجه: أسرعكنَّ لحوقًا بي أطولكنَّ يدًا، قالت عائشةُ: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله ﷺ نمدّ أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى تُوفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأةً قصيرةً، ولم تكن أطولنا، فعرفنا حينئذٍ أنَّ النبي ﷺ إنما أراد بطول اليد الصَّدقة، وكانت زينبُ امرأة صناعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتصدّق في سبيل الله.
قال الحاكمُ: على شرط مسلم. انتهى.
وهي رواية مُفسرة، مُبينة، مُرجحة لرواية عائشة بنت طلحة في أمر زينب.
الشيخ: يكفي، الفائدة من هذا كلِّه: أنَّ الصَّدقة هي اليد المرادة، سواء كانت سودة، أو زينب: أنَّ الإنفاق في سبيل الله، والحرص على كسب الحلال وإنفاقه من المناقب العظيمة للرجل والمرأة، وأنَّ هذا من مناقب زينب رضي الله عنها: كانت تعمل وتجتهد في الكسب، وتُنفق وتتصدّق وتُحسن.
والمشهور عند العلماء: أنَّ السياق كما قال المؤلف: أنها زينب. حكاه النووي ..... إجماعًا عن أهل السّير: أنها المرادة. وقال آخرون: ..... على ظاهره، وأنها سودة. ولا مُنافاة، الفائدة موجودة، الفائدة: الحثّ على الصَّدقة والإحسان، وأنَّ هذا من المناقب العظيمة لمن وقعت له، سواء رجل أو امرأة.
س: .............؟
ج: لعله ما بلغه ذلك، لم يعلم ذلك الوقت.
س: الوهل هل تُحرّك؟
ج: وَهَل، يهل، وهلًا، وهْلًا بالتَّسكين، مثل: وعد، يعد، وعدًا، وهب، يهب، وهبًا. ويُقال: الظاهر من باب فعل، وفعل، وهل، ووهل. انظر "القاموس": وهل، معنى: وهم، وهل، ووهل معناه: وهم، ووهم.