المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بحضراتكم إلى لقاءٍ مباركٍ في برنامج شرح كتاب "المنتقى من أخبار المصطفى ﷺ".
ضيف اللقاء هو سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية، سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.
مع مطلع هذا اللقاء نرحب بسماحة الشيخ، فأهلًا ومرحبًا يا سماحة الشيخ.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم:
بَابُ الْغُسْلِ لِلْإِحْرَامِ وَلِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَدُخُولِ مَكَّةَ
- عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ﷺ تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ غَسَلَ رَأْسَهُ بِخَطْمِيٍّ وَأُشْنَانٍ، وَدَهَنَهُ بِشَيْءٍ مِنْ زَيْتٍ غَيْرِ كَثِيرٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نُفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِالشَّجَرَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَأْمُرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد.
- وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ.
- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلَّا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ ثُمَّ يَدْخُل مَكَّةَ نَهَارًا، وَيذكرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ فَعَلَهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلِلْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ.
وَلِمَالِكٍ فِي "الْمُوَطَّإِ" عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِدُخُولِ مَكَّةَ، وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث كلها تتعلق بصفة الإحرام والغسل، كان النبيُّ ﷺ يغتسل لإحرامه، كما في حديث زيد بن ثابت: أنَّ النبي ﷺ تجرد لإهلاله واغتسل. وإن كان فيه ضعف، لكن جاء ما يُؤيده ويُعضده من حديثٍ آخر: أنَّ من السنة أن يغتسل المحرمُ لإحرامه، وقد أمر النبيُّ ﷺ أسماء أن تغتسل لإحرامها وهي نُفساء بمحمد بن أبي بكر، وأمر عائشة أن تغتسل لما أرادت أن تُحرم وتُدخل الحجَّ على العمرة.
فالمقصود أنَّ المحرم يُستحب له أن يغتسل عند إحرامه؛ لما فيه من النَّظافة والتنشيط؛ ولأنَّ المدة قد تطول، قد تطول مدةُ إحرامه، فيكون في الغسل نشاط وقوة ونظافة، وإزالة لما قد يقع من بعض الرَّوائح؛ ولهذا شُرع للمُحرم الطيب مع الغسل، فالسنة له أن يتطيب كما كان النبيُّ يفعل: يغتسل ويتطيب حتى يبقى في حال الإحرام في حالة سنةٍ، ورائحة طيبةٍ.
وأما ما ذكرته عائشةُ أنه اغتسل بخطمي وأشنان وشيء من زيتٍ، هذا في صحَّته نظر، والمعروف أنه اغتسل، الثابت أنه كان يغتسل عليه الصلاة والسلام عند إحرامه، هذا هو الثابت، فإذا دعت الحاجةُ إلى خطمي أو أُشنان فلا بأس بذلك لمزيد النظافة.
وكذلك حديث ابن عمر : أنَّ النبي ﷺ اغتسل لإحرامه، وأنَّ ابن عمر كان يغتسل بذي طوى، وكان يُصلي الصبح بذي طوى إذا دخل مكة، ويذكر ذلك عن النبيِّ ﷺ، هذا محفوظٌ عنه ﷺ: أنه لما قدم مكة صلَّى الصبح بذي طوى، ثم دخل مكة نهارًا عليه الصلاة والسلام.
فالمشروع للمؤمن في الإحرام أن يغتسل، وأن يتطيب، وأن يلبس إزارًا ورداءً حال إحرامه هذا الرجل، أما المرأة فإنها تغتسل وتلبس الملابس العادية التي ليس فيها شيء من الفتنة، والطيب يكون طيبًا ليس له رائحة كبيرة، وقد تطيب نساء النبي مع النبيِّ ﷺ في إحرامهن بالمسك، فلا حرج في ذلك، لكن على وجهٍ لا يكون فيه فتنة لغيرهن.
والطيب يكون في بدن المحرم، لا في ثيابه، يكون في رأسه، في لحيته، في بدنه.
أما أثر عليٍّ: أنه ﷺ اغتسل للعيدين والجمعة ويوم عرفة، فالمحفوظ أنه ﷺ إنما اغتسل يوم الجمعة ولإحرامه، أما اغتساله للعيدين واغتساله يوم عرفة فلم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام.
ومحمد بن عليّ بن الحسين لم يسمع من جدِّه عليٍّ، بل هو منقطع، فهو حديث ضعيف، والمحفوظ إنما هو الغسل للجمعة، والغسل للإحرام، أما الغسل للعيدين والغسل لعرفة فليس عليه سنة ثابتة فيما نعلم، فمَن اغتسل فلا حرجَ، ومَن ترك فلا حرج.
س: ما معنى: تجرد لإهلاله؟
الشيخ: يعني: تجرد من المخيط من أجل التَّلبية، الإهلال يعني: التلبية، تجرد من المخيط ولبس الإزار والرداء؛ لأن المحرم لا يلبس المخيط، ولكن يُحرم في الرداء والإزار، ولا يُغطي رأسه بالعمامة ونحوها، معنى "تجرد" يعني: تجرد من المخيط: السَّراويل والقُمص وما يُوضع على الرأس، وارتدى رداءه، ولبس إزاره.
س: الاغتسال للإحرام واجب؟
الشيخ: سنة، ليس بواجبٍ، سنة مستحبة، وهكذا يوم الجمعة هو سنة.
س: ما توجيه سماحتكم لما ذكره صاحب "زاد المستقنع" من استحباب التَّيمم عند الإحرام لمن عدم الماء؟
الشيخ: ما يظهر؛ لأنَّ المقصود من الغسل النَّظافة، والتيمم ما يحصل به المقصود، فالسنة الغسل إذا تيسر ذلك.
بَابُ غُسْلِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ
- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتِ: اسْتُحِيضَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ: اغْتَسِلِي لِكُلِّ صَلَاةٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
- وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو اسْتُحِيضَتْ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا بِالْغُسْلِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا جَهدَهَا ذَلِكَ أَمَرَهَا أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِغُسْلٍ، وبين الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِغُسْلٍ، وَالصُّبْحِ بِغُسْلٍ. رواه أحمد، وأبو داود، وهو حجة في الجمع للمرض.
- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ اسْتُحِيضَتْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَلَمْ تُصَلِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ، لِتَجْلِسْ فِي مِرْكَنٍ، فَإِذَا رَأَتْ صُفْرَةً فَوْقَ الْمَاءِ فَلْتَغْتَسِلْ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ غُسْلًا وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلْ لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ غُسْلًا وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلْ لِلْفَجْرِ غُسْلًا، وَتَتَوَضَّأْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
الشيخ: هذه الأحاديث في شأن المستحاضة، وجاء فيها عدة أحاديث: ومنها ما جاء في حديث حمنة أيضًا، فإن حمنة بنت جحش وزينب بنت جحش وفاطمة بنت أبي حُبيش وأم حبيبة بنت جحش كلهن مُستحاضات، فالنبي ﷺ أمرهن بالغسل في حال الجمع بين الصلاتين، والوضوء لكل صلاةٍ.
وكانت أمُّ حبيبة تغتسل لكل صلاةٍ اجتهادًا منها رضي الله عنها، فالسنة للمُستحاضة أن تتوضأ لكل صلاةٍ؛ لأنَّ معها حدثًا دائمًا، وهكذا مَن كان معه سلس البول أو الريح الدائمة الواجب عليه أن يتوضأ لكل صلاةٍ، إذا دخل الوقتُ توضأ: المستحاضة، وصاحب سلس البول، وصاحب الريح الدائمة، كل هؤلاء الواجب عليهم الوضوء لكل صلاةٍ، كما أمر النبيُّ ﷺ المستحاضات بذلك.
أما الغسل فيُستحب للمُستحاضة إذا جمعت بين الصلاتين، كما أوصى بذلك سهلة بنت سهيل، وحمنة بنت جحش، فإذا جمعت بين الصلاتين استحبّ لها الغسل استحبابًا، أما الغسل الواجب فإنما يجب عند انتهاء الحيضة، عند انتهاء الأيام التي تعتبرها حيضةً يلزمها غسل الحيض، أما الغسل الذي سوى ذلك فهو مستحبّ، ولم يُحفظ عنه ﷺ أنه أمرها بالغسل لكل صلاةٍ، وإنما كانت أمُّ حبيبة اجتهادًا منها تغتسل لكل صلاةٍ، لكن أمر ﷺ حمنة وأم حبيبة إذا جمعت بين الصلاتين أن تغتسل للظهر والعصر غسلًا واحدًا، والمغرب والعشاء غسلًا واحدًا، وهذا على سبيل الأفضلية، وإلا فالغسل الواجب إنما هو غسل نهاية الحيض، عند انتهاء المدة.
وللفجر غسل واحد؛ لأنها بعيدة عن المغرب والعشاء، والأصل أنَّ المستحاضة الواجب عليها أن تعتني بأمرها، فإذا رأت الطَّهارة اغتسلت، وإن لم تر الطهارة واستمر معها الدمُ فإنها توضأ لكل صلاةٍ، وإذا جاءت مدةُ الحيضة جلست، وإذا انتهت مدةُ الحيضة اغتسلت من مدة الحيضة، وفي بقية الأيام تتوضأ لكل صلاةٍ: كصاحب السلس، وصاحب الريح الدائمة.
هذه حال المستحاضة: في حال الحيض الذي تعرفه تدع الصلاة ولا تُصلي، ولا تصوم، ولا تحل لزوجها، فإذا انتهت المدةُ التي تعتبرها حيضًا اغتسلت، ثم توضأ لكل صلاةٍ، ما دام هذا الدمُ مستمرًّا معها تتوضأ لكل صلاةٍ، وهكذا مَن كان يُشبهها: كصاحب سلس البول، والريح الدائمة؛ يتوضأ لكل صلاةٍ، ولا يلزمها الغسل لكل صلاةٍ، وإنما كانت أمُّ حبيبة تغتسل اجتهادًا منها رضي الله عنها، وأمرها النبيُّ ﷺ أن تغتسل عند الجمع بين الصلاتين: بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، من باب النَّظافة والتَّنشيط والتَّشجيع والقوة على العمل.
س: الأمر المجرد من القرينة ألا يدل على الوجوب؟
الشيخ: نعم، هذا هو الأصل، لكن إذا دلَّ دليلٌ آخر على عدم الوجوب صار للاستحباب، فإنه لما أمرها بالأحاديث الأخرى أن تغتسل إذا انتهت من حيضها دلَّ ذلك على أنَّ الغسل الآخر ليس بواجبٍ، وإنما هو مستحب لمزيد التَّنظيف والنَّشاط.
س: الجمع بين الصلاتين استحبابًا أم جوازًا؟
الشيخ: مستحب، إذا شقَّ عليها ذلك استُحب لها أن تجمع للمشقة.
س: يبقى الجمعُ بين الظهر والعشاءين في المطر فيه إشكال عند كثيرٍ من الناس؛ حيث إن بعض الأئمة يجمع ولو كان المطر قليلًا؟
الشيخ: أما المطر فيجمع فيه المغرب والعشاء، إذا كان مطرًا يشقّ على الناس، أو دحض، أما الظهر والعصر فهو محل خلافٍ بين العلماء، والراجح أنه يجوز إذا كان المطر شديدًا، أو دحض شديد؛ يجمع حتى الظهر والعصر، لكن إذا ترك ذلك الإنسانُ خروجًا من الخلاف، وصلَّى الظهر في وقتها، والعصر في وقتها؛ لأنَّ الناس في النهار يسهل عليهم الخروج، ما هو مثل المغرب والعشاء.
والمقصود أنه متى جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في الحضر؛ لشدة المطر، أو لوجود الدحض والزلق، فلا حرج في ذلك، إلا أنه إذا ترك ذلك بين الظهر والعصر من باب الاحتياط والخروج من الخلاف فهذا حسن، وإلا فالأدلة الشرعية ظاهرة بأنه عذر شرعي، إذا صار مطرًا جيدًا ومشقةً، أو دحض في الأسواق؛ جاز الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، كالمريض أيضًا.
بَابُ غُسْلِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَفَاقَ
- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ثَقِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ، قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ، قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، قَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرَتْ إرْسَالَهُ إلَى أَبِي بَكْرٍ، وَتَمَام الْحَدِيثِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الشيخ: هذا يدل على استحباب الغسل لمن أُغمي عليه؛ لأنه غسل ينشطه، وربما دفع عنه الإغماء، فإذا اغتسل فهو مستحب، إذا أُغمي عليه فإنه يُستحب، ولا يجب، إلا إذا خرج منه منيٌّ كالمحتلم، وإلا فالأصل أنه مستحب فقط؛ لأنه ﷺ لما أُغمي عليه اغتسل لينشط ويقوى، فلما لم يتيسر له ذلك أمر الصديقَ أن يُصلي بالناس.
فهذا فيه فوائد:
منها: شرعية الغسل عند الإغماء، وأنه مستحب؛ لما فيه من التنشيط والتَّقوية على العمل.
ومنها: أنه ﷺ أمر الصديقَ أن يُصلي بالناس، فدلَّ على جواز الاستنابة: أن الإمام يستنيب مَن يُصلي بالناس، ودلَّ على فضل الصديق، لما اختاره من بين الصحابة دلَّ على أنه أولى بهذا الأمر، وأولى بالإمامة العظمى، وهي الخلافة؛ ولهذا بايعه الصحابةُ بعد موت النبي ﷺ؛ لأنهم عرفوا من توليته الإمامة بعده أنه هو أولى الناس بالإمامة الكبرى، وهي الخلافة، وهو كذلك؛ فإنه كان أحقَّ الناس ؛ فلهذا بايعه المسلمون خليفةً للمسلمين بعد وفاة النبي ﷺ.
س: هذه القصة -قصة وفاة الرسول ﷺ- فيها دروس وعِبر، وحينما يقرأ الإنسانُ ويسمع هذه السيرة المباركة يحصل له من الرقة والحزن الشيء الكثير، لكن أُولع بعضُ الناس بقراءة كتبٍ لا إسنادَ لها؛ لما فيها من الترقيق والتأثير على العامَّة، نرجو توجيهًا سماحة الشيخ؟
الشيخ: الواجب على القاصِّ والمذكر والواعظ أن يتحرى الأدلة الشرعية، ولا يلتفت إلى الخُرافات والأحاديث الموضوعة، ولكن يعتني بما ثبت عنه ﷺ، وعن الصحابة، ففي ذلك الكفاية والحمد لله، فإذا قصَّ على الناس، أو وعظهم، أو ذكَّرهم فيما يتعلق بسيرة النبيِّ ﷺ، أو وفاته، أو سيرة الصحابة ، فالواجب عليه أن يتحرى ما ثبت في الأدلة الشرعية: في البخاري، ومسلم، وفي السنن الأربع، وفي "مسند أحمد"، وفي "موطإ مالك"، وفي غيرها من الكتب المعتمدة، يتحرى الأدلة، وليس له أن يتحدث بكلِّ ما هبَّ ودبَّ، أو قرأه، أو سمعه من الناس، أو قرأه من الكتب التي تجمع الغثَّ والسَّمين، والموضوع والصحيح، لا، ينبغي له أن يتحرى حتى لا يذكر للناس إلا الشيء المفيد الثابت، هذا هو الواجب على الواعظ والمذكر.
س: ما أحسن كتب السيرة النبوية التي تُرشدون الناس إلى قراءتها؟
الشيخ: هي كتب كثيرة -السيرة- بحمد الله، من أشهرها وأحسنها سيرة ابن إسحاق، واختصرها ابن هشام، فإنه جمع رحمه الله في ذلك شيئًا كثيرًا رحمه الله، وإن كان فيها أشياء قليلة ليس لها إسناد مُعتبر، لكنه اعتنى بالسيرة ابن إسحاق عنايةً طيبةً، واختصرها ابن هشام رحمه الله.
وهناك سيرة النبي ﷺ للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، والشيخ عبدالله بن محمد رحمه الله، وهناك أيضًا كتب أخرى أُلفت في سيرة النبي ﷺ.
والمعول في هذا على ما ثبت في الأسانيد عن الصحابة ، عن النبي ﷺ، فالذي يجمع في السيرة لا بدَّ [أن] يتحرى الأسانيد الصحيحة المخرجة في الكتب المعتمدة.
س: أخيرًا غسل الرسول ﷺ من الإغماء، هل هو من باب التَّشريع والعبادة، أم المراد منه تنشيط الجسم؟
الشيخ: هذا مستحبّ عند الإغماء، يدل على الاستحباب، وأنه يُستحب للمغمى عليه أن يغتسل؛ ليقوى على العبادة، وعلى قضاء حاجاته وحاجات أهله، النبي اغتسل عدة مرات؛ ليقوى على هذا الأمر عليه الصلاة والسلام، فهذا يدلنا على شرعية الغسل عند الإغماء، وأنه إذا أفاق يغتسل؛ حتى ينشط، حتى لا يعود عليه الإغماء، فإن عاد يغتسل مرةً أخرى كذلك؛ ليقوى على العمل، وعلى القيام بحاجة أهله، وإن كان إمامًا يقوى على الصلاة.
بَابُ صِفَةِ الْغُسْلِ
- عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ وَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ؛ حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأَ حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. أَخْرَجَاهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدَيْهِ شَعْرَهُ؛ حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلَابِ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ، فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ أَخَذَ بِكَفَّيْهِ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ. أَخْرَجَاهُ.
قال الخطَّابي: الحِلاب: إناء يسع قدر حلب ناقةٍ.
- وَعَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مَقَامِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ. قَالَتْ: فَأَتَيْتُهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْهَا، وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
332- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ.
333- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: تَذَاكَرْنَا غُسْلَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَآخُذُ مِلْءَ كَفِّي فَأَصُبُّ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ أُفِيضُ بَعْدُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِي رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وفيه مُستدل لمن لم يُوجب الدَّلك ولا المضمضة والاستنشاق.
الشيخ: هذه الأحاديث فيها بيان غسل النبي ﷺ، وهي أحاديث واضحة في بيان غسله ﷺ، والمجمل منها يُفسره المفسر، هذه القاعدة في الأحاديث: ما جاء مجملًا فيه بعض الخفاء تُفسره الأحاديث الموضحة المبينة، فسنة الرسول ﷺ تُبين واضحها، ومُفصلها مجملها، كالآيات القرآنية؛ فالمجمل يُفسر بالمفصل والواضح.
فالواجب على أهل العلم أن يُفسروا ما أشكل من القرآن بما اتَّضح، وبما أشكل من السنة بما اتَّضح، هذا هو الواجب، وهذا هو الذي عليه عمل أهل العلم: يُفسرون المجمل بالمبين، والعام بالخاص، والمجمل بالمفصل؛ حتى لا تبقى شبهة، فالنبي ﷺ كان يغتسل غسلًا كاملًا: فيستنجي أولًا ويغسل مذاكيره -وهو فرجه- ثم يتوضأ وضوء الصلاة: يتمضمض، ويستنشق، ويغسل وجهه، ويغسل يديه مع المرفقين، ويمسح رأسه مع أذنيه، ويغسل رجليه، ثم بعد ذلك يفيض الماء على رأسه ثلاثًا، ويُدخل أصابعه في أصول الشعر؛ حتى إذا ظنَّ أنه قد أروى بشرته أفاض على جسده الماء: على يمينه، ثم يساره.
هذا هو الغسل الكامل، هذا هو الأفضل.
وفي بعض الروايات: ربما أفاض على رأسه وبدنه الماء من دون حاجةٍ إلى التَّخليل. فالتَّخليل سنة، كونه يُخلل شعره بأصابعه هذا سنة مستحبة، ولو أفاض الماء على جسده وعلى رأسه ولم يُخلل أجزأ؛ ولهذا قال لأم سلمة: إنما كان يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشدّ شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة والحيض؟ قال: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء.
فدلَّ على أنه إذا أفاض الإنسانُ على رأسه الماء ثلاثًا -ثلاث مرات- وإن لم ينقضه، والمرأة كذلك أجزأ، لكن كون المرأة والرجل يُخلل بأصابعه الماء، يُخلل رأسه حتى يظنَّ أنه قد أروى بشرته، هذا من باب الاستحباب.
وهكذا الحائض إذا نقضت رأسها هذا هو الأفضل، كما في الأحاديث الأخرى، إن نقضت رأسها، واعتنت بغسله بالماء، هذا من باب الكمال، وإلا فلو عمَّمت الماء على رأسها المفتول، وأفاضت عليه ثلاث مرات، ثم كملت غسلها أجزأها ذلك.
وهكذا الرجل: لو كان له رأس مفتول، وعمَّ عليه الماء، أو غير مفتولٍ ورواه بالماء كفى، لكن كونه يُخلله بأصابعه، أو كونه يُكرر الماء ثلاث مرات، كل هذا من باب الكمال، من باب العناية بالغسل.
فالغسل فيه المجزئ، وفيه الكامل، فالمجزئ أن يعمم الماء بنية الوضوء، والغسل بنية الحدثين، فيُجزئ عنها بعدما يغسل فرجه ويتوضأ وضوء الصلاة، أو ينوهما جميعًا: يغسل فرجه، ثم ينوي الغسل والوضوء جميعًا؛ فيُجزئه عنهما جميعًا إذا استنجى، ولكن الأفضل أن يستنجي، ثم يتوضأ وضوء الصلاة، ثم يفيض الماء على رأسه ثلاث مرات، ثم على بقية بدنه: بدءًا بالشق الأيمن، هذا هو الأكمل، هذا هو الأفضل، لكن إذا اختصر وعمّ الماء على بدنه بنية الحدثين بعد الاستنجاء، ناويًا الحدث الأصغر والأكبر، وعمّ رأسه بالماء، ولم ينقض، ولم يُخلل أجزأه ذلك، كما قاله النبيُّ لأم سلمة: إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين.
فالغسل الكامل يكون معه التَّخليل، ويكون معه نقض الرأس إن كان مفتولًا، ويكون معه العناية بالبدن، ثلاث مرات بالماء عليه، حتى يعمَّ البدن، وفي الرأس يُخلل ثلاث مرات حتى يظنَّ أنه قد أروى بشرته، يعني: يعتني به، هذا هو الكمال: كونه يُخلل رأسه، ويفيض عليه الماء ثلاث مرات حتى يظنَّ أنه قد أروى بشرته، ثم يفيض الماء على بدنه كله، هذا هو الكمال، بعدما يستنجي، وبعدما يتوضأ وضوء الصلاة.
أما إذا كان لا، إنما اغتسل غسلًا مُجزئًا: قد يكون عجل، قد تكون له حاجة فيستنجي ثم يفيض الماء على جسده كله بنية الوضوء والغسل جميعًا ويُجزئه ذلك إذا عمم رأسه وبدنه بالماء، وإن لم ينقض الرأس، وإن لم يُخلل بأصابعه، لكن إذا عمَّم ظاهرهما مثلما قال النبيُّ لأم سلمة؛ عمَّ ظاهره ثلاث مرات، فإنه يُجزئه ذلك، ويُسمَّى هذا: الغسل المجزئ.
أما الغسل الكامل: فهو الذي يكون فيه بعد الاستنجاء الوضوء الشرعي، ثم تخليل الرأس بأصابعه؛ حتى يظنَّ أنه قد روى بشرته، ويفيض عليه الماء ثلاث مرات، ثم يفيض الماء على جسده: بدءًا بالشق الأيمن، هذا من باب الكمال والتَّمام.
المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.