باب قول الله تعالى {لا يسألون الناس إلحافا} [البقرة: 273] وكم الغنى

باب قول الله تعالى: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273] وكم الغنى؟

وقول النبي ﷺ: ولا يجد غِنًى يُغنيه؛ لقول الله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:273].

1476- حدثنا حجاج بن منهال: حدثنا شعبة: أخبرني محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة ، عن النبي ﷺ قال: ليس المسكين الذي تردّه الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس له غنًى ويستحيي، أو لا يسأل الناس إلحافًا.

1477- حدثنا يعقوب بن إبراهيم: حدثنا إسماعيل بن عُلية: حدثنا خالد الحذاء، عن ابن أشوع، عن الشعبي: حدثني كاتب المغيرة بن شعبة، قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أن اكتب إليَّ بشيءٍ سمعته من النبي ﷺ. فكتب إليه: سمعت النبي ﷺ يقول: إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال.

الشيخ: المقصود من هذا أن المسكين يختلف ويتنوع، فأولى المساكين بالعطف والصدقة هو المسكين الذي يتعفف ويستحيي، ولا يسأل الناس، ولا يُفطن له فيُعرف، هذا هو أشد الناس مسكنةً، وأشد فقرًا، وأحوجهم إلى المساعدة والدعم من الزكاة وغيرها، وفي اللفظ الآخر: الذي لا يجد غنًى يُغنيه، ولا يُفطن له فيُتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس؛ يمنعه الحياء من سؤال الناس، وليس عنده ما يسدّ حاجته، ولا يعرفه الناس ويُفطن له حتى يُتصدق عليه.

أما الطَّوَّاف الذي تردّه الأكلة والأكلتان –يعني: اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان- فهذا مسكينٌ فقيرٌ، ولكن ذاك أولى منه، ذاك أشدّ في المسكنة، وإلا فكلاهما فقيرٌ: هذا وهذا، لكن الذي لا يُفطن له، ولا يقوم يسأل الناس، وليس عنده شيءٌ؛ فهذا أولى بأن يُلاحظ ويُعتنى به.

وفي حديثٍ واردٍ عن المغيرة: أنه كتب إلى معاوية، وهذا دليلٌ على أنه ينبغي للمؤمن أن يحذر كثرة السؤال، وأن يسأل بقدر الحاجة، إذا اضطر إلى السؤال فبقدر الحاجة؛ ولهذا كره النبي ﷺ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال.

"قيل وقال" يعني: كون الإنسان يتحدث بكل شيءٍ، يُطلق لسانه في كل شيءٍ، فهذا أمرٌ لا ينبغي، وهو مسخوطٌ لله، لا ينبغي؛ لأن هذا يُوقع في الكذب، ويُوقع في الغيبة والنَّميمة.

فكون الإنسان من ديدنه ومن عادته قيل وقال، فهذا يُبتلى بنقل الأحاديث الضَّارة، ونقل الكلمات الخبيثة، ويُبتلى بالكذب والغيبة والنميمة؛ ولهذا قال النبي ﷺ: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.

فحفظ اللسان من أهم المهمات، حفظ اللسان من أهم المهمات، وهو عضوٌ خطيرٌ، فالواجب حفظه إلا من الخير؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، وقال الله في كتابه العظيم: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114].

وهكذا إضاعة المال أمرٌ منهيٌّ عنه، المال ..... الدين والدنيا، فلا يجوز للمؤمن أن يُضيعه في غير طائلٍ من المعاصي والتَّبذير والإسراف، لا، بل يحفظه حتى يُنفق في النفع المباح المشروع، لا يضيع.

وذكر المؤلف رحمه الله لهذا الحديث -حديث المغيرة- في هذا الباب يدل على أنه حمل السؤال على سؤال الناس والحاجة إليهم.

وفسره آخرون بكثرة السؤال عن العلم بغير نيةٍ صالحةٍ: للمراء، أو لإظهار جودة الفهم، أو لإغلاط المسؤول وإيقاعه في الحرج، وهذا أيضًا مذمومٌ، وإن كان الأول أظهر، لكن هذا أيضًا مذمومٌ: كون الإنسان يسأل لإظهار أنه يفهم، وأنه جيدٌ، أو لمراءاة الناس، وأنه حريصٌ على العلم، ويريد العلم، أو لإيذاء المسؤول لعله يغلط، ولعله يزلّ، فهذا ما ينبغي.

س: ............؟

ج: نعم؛ ولهذا في اللفظ الآخر: يسخط لكم قيل وقال، مُحرَّمٌ، نعم، إضاعة المال من التبذير، ومن الإسراف المحرَّم.

...............

1478- حدثنا محمد بن غرير الزهري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهابٍ قال: أخبرني عامر بن سعد، عن أبيه قال: أعطى رسول الله ﷺ رهطًا وأنا جالسٌ فيهم. قال: فترك رسول الله ﷺ منهم رجلًا لم يُعطه، وهو أعجبهم إليَّ، فقمتُ إلى رسول الله ﷺ فساررته، فقلت: ما لك عن فلانٍ؟! والله إني لأراه مؤمنًا. قال: أو مسلمًا. قال: فسكت قليلًا، ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلانٍ؟! والله إني لأراه مؤمنًا. قال: أو مسلمًا. قال: فسكت قليلًا، ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلانٍ؟! والله إني لأراه مؤمنًا. قال: أو مسلمًا يعني: فقال: إني لأُعطي الرجل وغيره أحبّ إليَّ منه؛ خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه.

وعن أبيه، عن صالح، عن إسماعيل بن محمد أنه قال: سمعت أبي يُحدِّث بهذا، فقال في حديثه: فضرب رسول الله ﷺ بيده، فجمع بين عنقي وكتفي، ثم قال: أقبل أي سعد، إني لأُعطي الرجل.

الشيخ: أقبل، أو قال: أقتالًا؟

قارئ المتن: لا، أقبل.

الشيخ: نعم في روايةٍ، وفي الرواية المشهورة: أقتالًا؟ أيش قال الشارح عليها؟

قوله: "ثم قال" أي: النبي ﷺ.

"أقبل" بفتح الهمزة، أمرٌ من الإقبال، أو بكسر الهمزة وفتح الباء من القبول، حسب الروايتين.

قال التيمي: في بعضها: أقبل، بقطع الألف.

الشيخ: قطع الألف يعني ..... ضد الوصل، أقبل.

كأنه لما قال ذلك تولى ليذهب، فقال له: أقبل لأُبين لك وجه الإعطاء والمنع.

وفي بعضها بوصل الألف، أي: اقبل ما أنا قائلٌ لك، ولا تعترض عليه.

قلت: ويدل عليه باقي رواية مسلم: أقتالًا أي سعد؟ أي: أتُقاتل قتالًا؟ أي: أتُعارضني فيما أقول مرةً بعد مرةٍ كأنك تُقاتل؟! وهذا يُشعر أنه ﷺ كره منه إلحاحه عليه في المسألة.

الشيخ: الحافظ ابن حجر قال شيئًا؟

ثم قال: أقبل أي سعد وقد تقدم الكلام عليه مُستوفًى في كتاب "الإيمان"، وأنه أمر بالإقبال أو بالقبول، ووقع عند مسلمٍ: إقبالًا أي سعد على أنه مصدرٌ، أي: أتُقابلني قبالًا بهذه المعارضة؟!

الشيخ: هذه روايةٌ رابعةٌ: إقبالًا.

وسياقه يُشعر بأنه ﷺ كره منه إلحاحه عليه في المسألة، ويحتمل أن يكون من جهة أن المشفوع له ترك السؤال فمُدِحَ.

الشيخ: كأنها تصحفت على الحافظ المعروف: "أقتالًا؟"، و"إقبالًا" ما ذكرها العيني، ولا أذكر أنها مرت .....، "إقبالًا" كأنها تصحفت على الحافظ: "أقتالًا" .....

والمقصود من هذا فوائد:

منها: أن الإيمان غير الإسلام عند الاقتران، وأن الإيمان أكمل، كما سأل جبرائيل عن الإسلام والإيمان، وكما في قول الأعراب: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، فالإيمان أكمل، وهو أداء الفرائض وترك المحارم، والإسلام أوسع، يُسمّى: مسلمًا وإن كانت عنده بعض المعاصي.

وفيه من الفوائد: أنه يجوز لولي الأمر أن يخص الناس بالعطايا لمصلحةٍ يراها، وإن كان غيره أفضل منه؛ لتأليف قلبه، أو لدفع شرِّه، أو لأسبابٍ أخرى؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إني لأُعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه؛ كراهة أن يكبّه الله على وجهه في النار يعني: المعطى أخشى أني لو تركته لهلك، يعني: لتكلَّم بما لا ينبغي، أو ارتدَّ عن دينه، ومثلما في غزوة حنين حين أعطى جماعةً من كبار العرب على مئةٍ من الإبل، وترك الأنصار، وجاء في أنفسهم ما جاء، فبين لهم ﷺ أنه يُعطي أقوامًا لما في قلوبهم من الحاجة، من الشحِّ، وأدع أقوامًا لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب.

فالإمام وهكذا الإنسان في عطاياه وصدقاته يتخير وينظر ما هو الأصلح؟ فقد يُعطي الإنسان المفضول لعلةٍ: إما لشدة فقره، أو لقرابته، أو خوفًا على دينه من الانحراف، أو لأسبابٍ أخرى، ويدع آخرين لما أعطاهم الله من الإيمان وقوة الصبر وغنى القلوب.

وفيه من الفوائد: تنبيه المفضول للفاضل، وأن المفضول إذا رأى شيئًا يرى أن يُنبه عليه لا مانع أن يُنبه؛ لأن الفاضل قد يخفى عليه ذلك الشيء، أو ينساه، فسعدٌ قام يسار النبي ﷺ ويقول: إني أرى أن فلانًا الذي تركته أفضل من هذا! مؤمنٌ.

وفيه أنها تكون مُسارَّةً، إذا تيسرت المسارَّة فهي أفضل؛ لأن المجاهرة قد تُسبب ما لا تُحمد عُقباه، فإذا كان هذا التَّنبيه من طريق المسارَّة، ولا سيما إذا كان المكان فيه جماعةٌ، فيذهب إليه -أو إليهم- ويُسارّه بما يراه أصلح على حسبٍ، ولا يُلحّ، الفائدة: ألا يُلحّ، يُنبّه ويترك الإلحاح. نعم.

س: يعني: "إقبالًا" مُصحَّفة؟

ج: على الظاهر أنها مُصحفة من "قتالًا" كما ذكر العيني، وكما هو المعروف في الرواية: أقتالًا يا سعد؟، والمجادلة تُسمّى: قتالًا، والمدافعة الشديدة تُسمّى: قتالًا، مثلما في حديث ردِّ المار بين يدي المصلي، فإن أبى فليُقاتله، أي: ليدفعه بقوةٍ.

وعن أبيه، عن صالح، عن إسماعيل بن محمد أنه قال: سمعت أبي يُحدِّث بهذا، فقال في حديثه: فضرب رسول الله ﷺ بيده، فجمع بين عنقي وكتفي، ثم قال: أقبل أي سعد، إني لأُعطي الرجل.

قال أبو عبدالله: فَكُبْكِبُوا [الشعراء:94]: قُلبوا، فكبّوا، مُكِبًّا [الملك:22]: أكبَّ الرجل إذا كان فعله غير واقعٍ على أحدٍ، فإذا وقع الفعل قلت: كبَّه الله لوجهه، وكببتُه أنا.

الشيخ: يعني: "أكبَّ" لازمٌ، و"كبَّ" مُتعدٍّ، ..... يعني: إذا كان لازمًا، أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ [الملك:22].

المقصود أن "مُكبّ" هذا اللازم، و"كبّ" المتعدِّي، كببت الماء مُتعدٍّ، وأكببت ..... يعني: حضنته، أو ضممته إليَّ، أو أقبلتُ عليه.

1479- حدثنا إسماعيل بن عبدالله، قال: حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنًى يُغنيه، ولا يُفطن به فيُتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس.

الشيخ: بالرفع عندك؟

قارئ المتن: نعم بالشكل.

الشيخ: القاعدة بالنصب؛ لأنه جاء في سياق النفي، فاء السببية في هذا المقام؛ لأنها مثل: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر:36]، ففاء السببية يكون ما بعدها منصوبًا .....

قارئ المتن: في لا يجد يعني؟

الشيخ: لا يجد ولا ..؟

قارئ المتن: ولكن المسكين الذي لا يجد غنًى يُغنيه، ولا يُفطن به فيُتصدق عليه ...

الشيخ: ولا هذه لا النافية. نعم.

س: ...............؟

الشيخ: عندك: ولا يُفطن؟

قارئ المتن: به.

الشيخ: ولا يقوم فيسأل الناس أيش قال الشارح عليه؟ "به" أو "له"؟

طالب: في رواية .....

الشيخ: "به" و"له"؟

الطالب: نعم.

الشيخ: ماشٍ.

الطالب: في زيادةٍ قبله -أحسن الله إليك- في هذا الحديث يقول: قال أبو عبدالله: صالح بن كيسان أكبر من الزهري، وهو قد أدرك ابن عمر رضي الله تعالى عنهم.

الشيخ: فائدةٌ من المؤلف، وصالح أكبر من الزهري، ولكن الزهري سبق إلى الرواية لكثرة الجمع، نعم .....، وكلاهما تابعي من أوساط التابعين، أو من صغارهم.

قارئ المتن: أشار إلى هذه الزيادة في الشرح: قوله: "صالح بن كيسان" يعني: المذكور في الإسنادين.

قوله: "أكبر من الزهري" يعني: في السنِّ، ومثل هذا جاء عن أحمد وابن معين.

وقال علي بن المديني: كان أسنَّ من الزهري، فإن مولده سنة خمسين، وقيل بعدها، ومات سنة ثلاثٍ وعشرين ومئة، وقيل: سنة أربعٍ.

وأما صالح بن كيسان فمات سنة أربعين ومئة، وقيل قبلها، وذكر الحاكم في مقدار عمره سنًّا تعقبوه عليه.

الشيخ: المقصود أنه أكبر منه ومع هذا يروي عنه؛ لأن الزهري أكثر من الرواية، وسبق في الرواية، وتحمل قبله؛ فلهذا صار صالح يروي عن الزهري مع كونه أكبر منه، نعم، انظر "التقريب": صالح بن كيسان.

1480- حدثنا عمر بن حفص بن غياث: حدثنا أبي: حدثنا الأعمش: حدثنا أبو صالح، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو -أحسبه قال: إلى الجبل- فيحتطب، فيبيع، فيأكل ويتصدق؛ خيرٌ له من أن يسأل الناس.

الشيخ: تقدم هذا قريبًا مع حديث الزبير بن العوام أيضًا، وهذا فيه الحث على كسب الحلال وطلب الرزق الحلال ولو بالاحتطاب، كونه يأخذ حبلًا ويذهب إلى الجبل، أو إلى الصحراء، ويحتطب، ويحتشّ، ويبيع، ويحمل على ظهره، أو على حماره، أو سيارته، ويبيع؛ خيرًا له من سؤال الناس: أعطوه أو منعوه.

وفي هذا الحث على التعفف عن سؤال الناس، فالناس إذا سُئلوا كرهوا وثقل عليهم السائل إلا مَن شاء الله: ومَن يستغنِ يُغْنِه الله، يذهب ويحتشّ ويحتطب، أو يحمل الحجر، أو يعمل بناءً، أو غير ذلك من الأعمال المباحة؛ خيرٌ له من سؤال الناس: أعطوه أو منعوه. نعم.

الطالب: صالح بن كيسان المدني، أبو محمد، أو أبو الحارث، مؤدب ولد عمر بن عبدالعزيز، ثقةٌ، ثبتٌ، فقيهٌ، من الرابعة، مات بعد سنة ثلاثين، أو بعد الأربعين. ع.

الشيخ: طيب، نعم.

قال أبو عبدالله: صالح بن كيسان أكبر من الزهري، وهو قد أدرك ابن عمر.

باب خرص الثمر

1481- حدثنا سهل بن بكار: حدثنا وهيب، عن عمرو بن يحيى، عن عباسٍ الساعدي، عن أبي حميدٍ الساعدي قال: غزونا مع النبي ﷺ غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى إذا امرأةٌ في حديقةٍ لها، فقال النبي ﷺ لأصحابه: اخرصوا، وخرص رسول الله ﷺ عشرة أوسقٍ، فقال لها: أحصي ما يخرج منها، فلما أتينا تبوك قال: أما إنها ستهبّ الليلة ريحٌ شديدةٌ، فلا يقومنَّ أحدٌ، ومَن كان معه بعيرٌ فليعقله، فعقلناها، وهبت ريحٌ شديدةٌ، فقام رجلٌ، فألقته بجبل طيئ.

وأهدى ملك أيلة للنبي ﷺ بغلةً بيضاء، وكساه بُرْدًا، وكتب له ببحرهم، فلما أتى وادي القرى قال للمرأة: كم جاء حديقتك؟ قالت: عشرة أوسقٍ، خرص رسول الله ﷺ. فقال النبي ﷺ: إني مُتعجلٌ إلى المدينة، فمَن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل، فلما قال ابن بكار كلمةً معناها: أشرف على المدينة قال: هذه طابةٌ، فلما رأى أحدًا قال: هذا جُبيلٌ يُحبنا ونُحبه، ألا أُخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا: بلى. قال: دور بني النجار، ثم دور بني عبد الأشهل، ثم دور بني ساعدة -أو دور بني الحارث بن الخزرج- وفي كل دور الأنصار –يعني: خيرًا.

1482- وقال سليمان بن بلال: حدثني عمرو: ثم دار بني الحارث، ثم بني ساعدة.

وقال سليمان: عن سعد بن سعيد، عن عمارة بن غُزية، عن عباسٍ، عن أبيه، عن النبي ﷺ قال: أحدٌ جبلٌ يُحبنا ونُحبه.

قال أبو عبدالله: كل بستانٍ عليه حائطٌ فهو حديقةٌ، وما لم يكن عليه حائطٌ لم يُقَلْ: حديقةٌ.

الشيخ: أيش قال على ملك أيلة؟

قوله: "وأهدى ملك أيلة" بفتح الهمزة، وسكون التحتانية، بعدها لامٌ مفتوحةٌ، بلدةٌ قديمةٌ بساحل البحر تقدم ذكرها في باب الجمعة في القرى والمدن.

ووقع في رواية سليمان عند مسلمٍ: وجاء رسول ابن العلماء -صاحب أيلة- إلى رسول الله ﷺ بكتابٍ، وأهدى له بغلةً بيضاء.

وفي "مغازي ابن إسحاق": ولما انتهى رسول الله ﷺ إلى تبوك أتاه يوحنا بن روبة -صاحب أيلة- فصالح رسول الله ﷺ وأعطاه الجزية.

وكذا رواه إبراهيم الحربي في "الهدايا" من حديث عليٍّ، فاستفيد من ذلك اسمه واسم أبيه، فلعل العلماء اسم أمه، ويوحنا: بضم التحتانية، وفتح المهملة، وتشديد النون، وروبة: بضم الراء، وسكون الواو، بعدها مُوحدة، واسم البغلة المذكورة: دلدل، هكذا جزم به النووي، ونقل عن العلماء أنه لا يُعرف له بغلةٌ سواها، وتُعقّب بأن الحاكم أخرج في "المستدرك" عن ابن عباسٍ: أن كسرى أهدى للنبي ﷺ بغلةً، فركبها بحبلٍ من شعرٍ، ثم أردفني خلفه. الحديث، وهذه غير دلدل.

ويقال: إن النجاشي أهدى له بغلةً، وأن صاحب دومة الجندل أهدى له بغلةً، وأن دلدل إنما أهداها له المقوقس.

وذكر السهيلي: أن التي كانت تحته يوم حنين تُسمّى: فضة، وكانت شهباء. ووقع عند مسلمٍ في هذه البغلة: أن فروة أهداها له.

قوله: "وكتب له ببحرهم" أي: ببلدهم، أو المراد: بأهل بحرهم؛ لأنهم كانوا سُكَّانًا بساحل البحر، أي: أنه أقرَّه عليهم بما التزموه من الجزية.

وفي بعض الروايات: "ببحرتهم" أي: بلدتهم، وقيل: البحرة: الأرض.

وذكر ابن إسحاق الكتاب، وهو بعد البسملة: هذه أمنةٌ من الله ومحمدٍ النبي رسول الله ليوحنا بن روبة وأهل أيلة: سفنهم وسيارتهم في البرِّ والبحر، لهم ذمَّة الله ومحمدٍ النبي. وساق بقية الكتاب.

الشيخ: "كساه بُرْدًا" تكلم عليه؟ ظاهره أنه مع البغلة.

"كتب له ببحرهم" يعني: أن النبي ﷺ صالحه، ويحتمل أنه كساه بُرْدًا .....

وهذا فيه فوائد: فيه أن بعض الجمادات لها شعورٌ ومحبةٌ لأهل الخير.

وفيه: جبل أحدٍ يُحبنا ونُحبه؛ ولهذا قال: سيروا، هذا جمدان، سبق المفرِّدون.

والمقصود أن بعض الجمادات لها خصوصيةٌ وإحساسٌ، تُوصف بما يُوصف به العُقلاء؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، تسقط خشيةً لله ، وهذا جبل أحدٍ يُحبنا ونُحبه.

وفيه جواز الخرص، وأنه لا بأس به؛ ولهذا أمر بخرص النخيل حتى يتصرف أهلها بثمارها، وكان يخرص على اليهود خيبر؛ لما فيه من المصالح. نعم.

س: ألا يُعدّ قبول الهدية من الكافر ولاءً؟

ج: لا، قبول هدية الكفار ما هي بولاء، الولاء: المحبة والنصرة، هذا ولاءٌ، أما كونه يُعاقده أو يُهاديه، حتى المسلم يُعطي هديةً لملك الكفار لدفع شرِّه، هذا ليس بموالاةٍ، إنما الموالاة: المحبة والنصرة، أما كونه يُهدي إليه، أو يقبل هديته، أو يقبل ضيافته، أو ما أشبه ذلك؛ ليس موالاةً؛ ولهذا شرع الله التأليف في الزكاة .....، وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60] قلوب الكفار وغيرهم، والكافر يُؤلَّف؛ يقول جلَّ وعلا: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8].

فإهداؤنا إليهم وقبولنا هداياهم ليس من الولاء، بل تخضع للمصالح العامة والقصد الحسن. نعم.

س: الخرص .........؟

ج: يعني: ما يؤول إليه إذا كان تمرًا.

............

الشيخ: أعد السند.

1481- حدثنا سهل بن بكار: حدثنا وهيب، عن عمرو بن يحيى، عن عباس الساعدي، عن أبي حميدٍ الساعدي قال: غزونا مع النبي ﷺ غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى إذا امرأةٌ في حديقةٍ لها، فقال النبي ﷺ لأصحابه: اخرصوا، وخرص رسول الله ﷺ عشرة أوسقٍ، فقال لها: أحصي ما يخرج منها، فلما أتينا تبوك قال: أما إنها ستهبّ الليلة ريحٌ شديدةٌ، فلا يقومنَّ أحدٌ، ومَن كان معه بعيرٌ فليعقله.

الشيخ: هذا مما جاءه من الغيب، لما أخبره الله به ، يعني: يُطلع نبيه على ..... أمور الغيب، وهذا منها، أطلعه الله على هذه الريح، فأخبر بها الصحابة ليتحرزوا من ذلك.

فعقلناها، وهبت ريحٌ شديدةٌ، فقام رجلٌ، فألقته بجبل طيئ.

الشيخ: وهذا فيه العقوبة، لما عصى ولم يُبَالِ نقلته الريح إلى جبل طيئ، إلى حائل من تبوك، إلى حائل مسافة طويلة، يعني: نقلته بغير اختياره، دفعته حتى صار إلى هناك؛ لقوتها، نسأل الله السلامة.

وأهدى ملك أيلة للنبي ﷺ بغلةً بيضاء، وكساه بُرْدًا، وكتب له ببحرهم، فلما أتى وادي القرى قال للمرأة: كم جاء حديقتك؟ قالت: عشرة أوسقٍ، خرص رسول الله ﷺ. فقال النبي ﷺ: إني مُتعجلٌ إلى المدينة، فمَن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل.

س: ما هذا التعجل؟

ج: التقدم إلى المدينة، وهذا فيه الدلالة على أنه يُستحبّ التعجل إلى أهل البيت، وإلى البلد عند فراغ المهمة، عند إنهاء المهمة؛ لما في الاجتماع والوصول إليهم من الخير العظيم، والسرور، وراحة القلوب. نعم.

س: .............؟

ج: أيلة بلادٌ نصرانيةٌ على الساحل، معروفةٌ إلى الآن.

..............

فلما قال ابن بكار كلمةً معناها: أشرف على المدينة قال: هذه طابة، فلما رأى أحدًا قال: هذا جبيلٌ يُحبنا ونُحبّه، ألا أُخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا: بلى. قال: دور بني النجار، ثم دور بني عبد الأشهل، ثم دور بني ساعدة -أو دور بني الحارث بن الخزرج- وفي كل دور الأنصار –يعني: خيرًا.

1482- وقال سليمان بن بلال: حدثني عمرو: ثم دار بني الحارث، ثم بني ساعدة.

وقال سليمان: عن سعد بن سعيد، عن عمارة بن غزية، عن عباسٍ، عن أبيه، عن النبي ﷺ قال: أحدٌ جبلٌ يُحبنا ونُحبه.

قال أبو عبدالله: كل بستانٍ عليه حائطٌ فهو حديقةٌ، وما لم يكن عليه حائطٌ لم يُقل: حديقة.

الشيخ: تكلم على: جبلٍ أو جُبيلٍ؟ ما تعرض؟ والعيني ما تعرض؟

الطالب: قوله: يُحبنا ونُحبه يعني: أهل الجبل، وهم الأنصار.

الشيخ: تأويلٌ يعني، لا، غلطٌ، ليس هناك حاجةٌ للتأويل، نفس الجبل، والحافظ ما ذكر شيئًا؟

قارئ المتن: تكلم على الرواية.

الشيخ: ما ذكر: جبيل وجبل، بالتصغير والتكبير.

قارئ المتن: وقال عمارة: عن عباسٍ، عن أبيه: فيحتمل أن يسلك طريق الجمع بأن يكون عباسٌ أخذ القدر المذكور، وهو: أحد جبلٌ يُحبنا ونُحبه عن أبيه، وعن أبي حميدٍ معًا، أو حمل الحديث عنهما معًا، أو كله عن أبي حميدٍ، ومعظمه عن أبيه، وكان يُحدِّث به تارةً عن هذا، وتارةً عن هذا؛ ولذلك كان لا يجمعهما، وقد وقع في رواية ابن إسحاق المذكورة: عباس بن سهل بن سعد، أو عباس، عن سهل.

الشيخ: انظر "القاموس" على "أحد" أيش قال عنده؟ الحاء والدال: "أحد".

.............