باب أفنية الدور والجلوس فيها، والجلوس على الصُّعُدَات
وقالت عائشة: فابتنى أبو بكر مسجدًا بفناء داره يُصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه، والنبي ﷺ يومئذٍ بمكة.
2465- حدثنا معاذ بن فضالة: حدثنا أبو عمر حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيدٍ الخدري ، عن النبي ﷺ قال: إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بُدٌّ، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: فإذا أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطريق حقَّها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، وأمرٌ بالمعروف، ونهيٌ عن المنكر.
الشيخ: هذا الباب بابٌ عظيمٌ يتعلق بالجلوس في الطرقات وفي أفنية البيوت وأشباه ذلك مما يكون محل مرور الناس واطلاعهم على ما يكون فيه.
والحديث يدل على وجوب الحذر من مثل هذه المجالس إلا مَن أدَّى حقها، فالجلوس في الأفنية والطرقات عُرضةٌ لرؤية ما لا ينبغي، وسماع ما لا ينبغي.
فالاجتناب عنها أحوط وأبعد عن الشر؛ ولهذا قال ﷺ: إياكم والجلوس على الطرقات، حذَّرهم منها لما فيها من الخطر، فلما أخبروه أنهم لا بُدَّ لهم من هذه المجالس؛ يتحدثون فيها لشؤونهم، قال: أما إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقَّه، إذا كانت الحاجة ماسَّةً للجلوس، وهناك ما يدعو إلى الجلوس، فلا بد من أداء حقِّ الجلوس.
قالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
فالواجب على مَن كان في الطريق أو في أي فناءٍ يمر به الناس ومحل اختلاط الناس أن يُؤدي هذا الحق إذا كانت عنده قوةٌ، وإلا فلا يجلس: غض البصر عمَّا حرم الله، وكف الأذى، فلا يُؤذي الناس بلسانه أو بغيره، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ومن هذا الباب ما اتخذه الصديقُ من المصلَّى أمام فناء بيته؛ لإظهار الدين، وإسماع الناس القرآن، حتى صار نساء أهل مكة وأبناؤهم يتقصفون عليه ليسمعوا، حتى اشتكى المشركون إلى النبي ﷺ كما تقدم.
المقصود أن الحق على المؤمن أن يتحرى مواضع الخير، ويتباعد عن مواضع الشر، يتحرى إيصال الخير للناس، ويتحرى إبعاد الشر عنهم، وإبعاد نفسه من الشر في كل زمانٍ، وفي كل مكانٍ.
والمسلم من شأنه أن يتحرى الخير أينما كان، ويبتعد عن الشر أينما كان؛ لأن هدفه شيءٌ واحدٌ، وهو: إيصال الخير للناس، وإلى نفسه، والسلامة من إيصال الشر إليه، أو إلى الناس، فهو حريصٌ على أن يحصل على الخير لنفسه أو لإخوانه، وحريصٌ على أن يبتعد عن الشر لنفسه أو لإخوانه.
وفي كتاب الله يقول سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58]، ويقول سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71]، ويقول: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
س: يدخل في هذا الجلوس في الحدائق؟
ج: كذلك الحدائق مجمعٌ للناس، كل مكانٍ فيه .....، إما أن يقوم بالواجب، أو لا يجلس.
س: النظر من الشبابيك، لو نظر من نافذة بيته على الشارع؟
ج: له نصيبه من هذا، نعم.
باب الآبار على الطرق إذا لم يتأذَّ بها
2466- حدثنا عبدالله بن مسلمة، عن مالك، عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح السَّمان، عن أبي هريرة : أن النبي ﷺ قال: بينا رجلٌ بطريقٍ اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلبٌ يلهث، يأكل الثَّرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ خُفَّه ماءً، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرًا؟ فقال: في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجرٌ.
الشيخ: وهذا واضحٌ فيما ترجم به المؤلف، لا بأس بالآبار على الطرقات لمصالح المسلمين، مع صيانتها عمَّا يضرهم، تكون مصونةً، محفوظةً، تنفع المسلمين ولا تضرهم.
وفي هذا فضل الإحسان والرحمة، وأن الرحمة مطلوبةٌ، والإحسان له شأنه حتى في غير المكلَّفين، في البهائم، كما قال ﷺ: مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم، والله يقول جلَّ وعلا: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
فهذا إنسانٌ سقى كلبًا فشكر الله له، فغفر له في كلبٍ سقاه، رآه يأكل الثَّرى من العطش، فهكذا غير الكلب من باب أولى: كالحمار، والبغل، والناقة، والشاة، وغيرها.
المقصود أن المؤمن يتحرى أسباب الخير وطرق الخير في المكلَّفين وغير المكلَّفين، فهذا له وجهٌ، وقتل الكلب العقور والأشياء الأخرى في محلها، هذا في محلِّه، وهذا في محلِّه.
س: والخنزير؟
ج: والخنزير كذلك، الدَّرب واحدٌ.
باب إماطة الأذى
وقال همام: عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ: يُميط الأذى عن الطريق صدقةٌ.
س: قصدهم أن الخنزير يُقتل، أو فيه أجرٌ؟
ج: الظاهر أن مثل هذا فيه أجرٌ، والقتل له شأنٌ آخر.
س: إذا قتله زال إشكال العطش؟
ج: في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ، إذا سقاه رحمة له، والقتل ..... هل يقتله أو ما يقتله .....؟
باب إماطة الأذى
وقال همام: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ: يُميط الأذى عن الطريق صدقةٌ.
باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها
2467- حدثنا عبدالله بن محمد: حدثنا ابن عُيينة، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أشرف النبي ﷺ على أُطُمٍ من آطام المدينة، ثم قال: هل ترون ما أرى؟ إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القَطْر.
2468- حدثنا يحيى بن بُكير: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهابٍ قال: أخبرني عبيدالله بن عبدالله ابن أبي ثور، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي ﷺ اللتين قال الله لهما: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]، فحججتُ معه، فعدل وعدلتُ معه بالإداوة، فتبرز حتى جاء، فسكبتُ على يديه من الإداوة فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، مَن المرأتان من أزواج النبي ﷺ اللتان قال الله لهما: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا؟ فقال: واعجبي لك يا ابن عباس: عائشة وحفصة. ثم استقبل عمرُ الحديث يسوقه، فقال: إني كنتُ وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي ﷺ، فينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلتُ جئتُه من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله، وكنا معشر قريشٍ نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قومٌ تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصِحْتُ على امرأتي، فراجعتني، فأنكرتُ أن تُراجعني، فقالت: ولِمَ تُنكر أن أُراجعك؟! فوالله إن أزواج النبي ﷺ ليُراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. فأفزعني، فقلت: خابت مَن فعل منهن بعظيمٍ. ثم جمعتُ عليَّ ثيابي، فدخلتُ على حفصة، فقلت: أي حفصة، أتُغاضب إحداكن رسول الله ﷺ اليوم حتى الليل؟ فقالت: نعم. فقلت: خابت وخسرت، أفتأمن أن يغضب الله لغضب رسوله ﷺ فتهلكين؟! لا تستكثري على رسول الله ﷺ، ولا تُراجعيه في شيءٍ، ولا تهجريه، واسأليني ما بدا لكِ، ولا يغرنكِ أن كانت جارتُكِ هي أوضأ منك وأحبَّ إلى رسول الله ﷺ، يريد عائشة.
وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النِّعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاءً، فضرب بابي ضربًا شديدًا، وقال: أثمَّ هو؟ ففزعتُ، فخرجتُ إليه، وقال: حدث أمرٌ عظيمٌ.
مداخلة: عندنا: أنائمٌ هو؟
الشيخ: عندك: أثمَّ؟
قارئ المتن: إي نعم.
الشيخ: يمكن أن تكون نسخةً، أيش قال الشارح عليه؟
قارئ الشرح: ما ذكر شيئًا.
الشيخ: والعيني هل قال شيئًا؟
الطالب: ما حضر.
الشيخ: الذي عنده "نائم" يحط نسخة: "أثمَّ هو"، والذي عنده "أثمَّ" يحط نسخة: "أنائم".
مداخلة: من سياق الكلام ألا يكون "أثمَّ" أظهر؟
الشيخ: هو الأظهر، لكن كونه بعد العشاء قد يكون مسوغًا .....؛ لأن وقت العشاء وقت الهجوع، النوم، نعم.
ففزعتُ، فخرجتُ إليه، وقال: حدث أمرٌ عظيمٌ. قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول؛ طلَّق رسول الله ﷺ نساءه. قال: قد خابت حفصةُ وخسرت، كنتُ أظن أن هذا يُوشك أن يكون، فجمعتُ عليَّ ثيابي، فصليتُ صلاة الفجر مع النبي ﷺ، فدخل مَشْرَبَةً له، فاعتزل فيها، فدخلتُ على حفصة، فإذا هي تبكي، قلت: ما يُبكيكِ؟ أولم أكن حذرتُكِ؟! أطلقكنَّ رسول الله ﷺ؟ قالت: لا أدري، هو ذا في المشربة.
فخرجتُ فجئتُ المنبر، فإذا حوله رهطٌ يبكي بعضهم، فجلستُ معهم قليلًا، ثم غلبني ما أجد، فجئتُ المشربة التي هو فيها، فقلتُ لغلامٍ له أسود: استأذن لعمر. فدخل، فكلم النبي ﷺ، ثم خرج فقال: ذكرتُكَ له فصمتَ. فانصرفتُ حتى جلستُ مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئتُ. فذكر مثله، فجلستُ مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئتُ الغلام فقلتُ: استأذن لعمر. فذكر مثله، فلما ولَّيتُ مُنصرفًا فإذا الغلام يدعوني، قال: أذن لك رسولُ الله ﷺ، فدخلتُ عليه، فإذا هو مُضطجعٌ على رمال حصيرٍ ليس بينه وبينه فراشٌ، قد أثَّر الرمال بجنبه، متكئٌ على وسادةٍ من أَدَمٍ، حَشوها لِيفٌ، فسلمتُ عليه، ثم قلتُ وأنا قائمٌ: طلقتَ نساءك؟ فرفع بصره إليَّ، فقال: لا، ثم قلتُ وأنا قائمٌ أستأنس: يا رسول الله، لو رأيتني وكنا معشر قريشٍ نغلب النساء، فلما قدمنا على قومٍ تغلبهم نساؤهم. فذكره، فتبسم النبي ﷺ، ثم قلتُ: لو رأيتني ودخلتُ على حفصة، فقلتُ: لا يغرنكِ أن كانت جارتكِ هي أوضأ منك وأحبَّ إلى النبي ﷺ -يريد عائشة-، فتبسم أخرى، فجلستُ حين رأيته تبسم، ثم رفعتُ بصري في بيته، فوالله ما رأيتُ فيه شيئًا يرد البصر غير أَهَبَةٍ ثلاثةٍ، فقلتُ: ادعُ الله فليُوسع على أمتك، فإن فارس والروم وُسِّعَ عليهم، وأُعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله. وكان مُتكئًا فقال: أوفي شكٍّ أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قومٌ عُجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: يا رسول الله، استغفر لي.
فاعتزل النبي ﷺ من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصةُ إلى عائشة، وكان قد قال: ما أنا بداخلٍ عليهن شهرًا من شدة مَوجِدَته عليهنَّ حين عاتبه الله، فلما مضت تسعٌ وعشرون دخل على عائشة فبدأ بها، فقالت له عائشة: إنك أقسمتَ ألا تدخل علينا شهرًا، وإنا أصبحنا لتسعٍ وعشرين ليلةً أعدُّها عدًّا! فقال النبي ﷺ: الشهر تسعٌ وعشرون، وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين.
قالت عائشة: فأُنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأةٍ، فقال: إني ذاكرٌ لكِ أمرًا، ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويكِ، قالت: قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك. ثم قال: إن الله قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لّأَزْوَاجِكَ ... إلى قوله: عَظِيمًا [الأحزاب:28- 29]، قلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه، فقلن مثلما قالت عائشة.
الشيخ: وهذا خبرٌ عظيمٌ: قصة هجر النبي ﷺ نساءه، فإذا كان النبي ﷺ وهو أفضل الخلق، وسيد ولد آدم، وأفضل خلق الله، ويأتيه الوحي من السماء؛ تقع له مشاكل مع زوجاته حتى تدعوه الحال إلى هجرهن، فكيف يطمع غيره في أن يسلم من هذا؟!
فهذا يُفيد الصبر، وأن الإنسان لا بد أن يصبر، ولا يقل: أنا فلان، أنا العالم الفلاني، أو الملك الفلاني، أو الأمير الفلاني. لا، المشاكل يُبتلى بها الناس، فهذا أفضل الخلق بُلِيَ بذلك مع زوجاته، فلا بد من صبرٍ، ولا بد من حكمةٍ، ولا بد من أخلاقٍ كريمةٍ، كما قال الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال النبي ﷺ: استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن خُلِقْنَ من ضِلَعٍ، وإن أعوج شيءٍ في الضِّلَع أعلاه، فإذا ذهبتَ تُقيمه كسرته، وإن تركتَه لم يزل أعوج، فلا بد من صبرٍ، ومُعاشرةٍ حسنةٍ، ونصيحةٍ، وتوجيهٍ، وتحملٍ لبعض الأذى كما تحمل عليه الصلاة والسلام، وتحمل غيره من الأخيار.
وفيه جواز الهجر، كما قال الله جلَّ وعلا: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، فإذا دعت الحاجةُ إلى الهجر هجر، ولكن قبل ذلك الوعظ، لعله يكفي، فإذا لم يكفِ التذكير والوعظ والنصيحة انتقل إلى الهجر، فإذا لم يكفِ انتقل إلى الضرب المناسب، الضرب الخفيف المناسب، غير المبرح.
والمقصود من هذا أنه لا بد من صبرٍ، فكثيرٌ من الناس ليس عنده صبرٌ، عند أقل شيءٍ يُوقع الطلاق، فهذا من ضعف البصيرة وقلة الثَّبات، فالمشاكل لا بد منها، لكن لا بد من صبرٍ، لا بد من تثبتٍ في الأمور، وعلاجٍ للأوضاع الأهلية بغير الطلاق.
فالمرأة تعرض لها أشياء، والرجل تعرض له أشياء، لا بد من صبرٍ ونظرةٍ للمشاكل وحلّها بالطرق المناسبة، وعلى النساء واجبهن من الصبر أيضًا، وحُسن العشرة، وعدم العجلة في الأمور، وعلى الأولياء أن يُساعدوا في ذلك، كما قال عمر لحفصة وأوصاها، حتى قال: سليني حاجتكِ، لا تُؤذي رسول الله ﷺ.
المقصود أن التعاون ..... بين الزوج والزوجة، وبين الزوج والأقارب، والزوجة والأقارب، حتى يقلّ الطلاق، وتقلّ المشاكل، ولا سيما مع صلاح الزوجين؛ كونها صالحةً، وكونه صالحًا، كل واحدٍ يحرص على بقاء العِشْرة، وهكذا الأقارب يحرصون على بقاء العِشْرة، ويُعينون على البرِّ والتقوى.
أيش قال على: مَوجِدَة؟ هل ضبطها؟ شدة الموجدة التي وجدها عليهنَّ.
الطالب: ما ذكر شيئًا.
الشيخ: "القاموس" عندك؟ "القاموس" حاضر؟
الشيخ: وهذا يدل على جواز الإيلاء، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ [البقرة:226].
المقصود أن الإيلاء لا بأس به، الإيلاء: الحلف، يعني: إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لكن بحدودٍ: تربص أربعة أشهرٍ، والحاجة قد تدعو للإيلاء منهن، ومنها إذا كانت واحدةً للتأديب والتوجيه، فله التربص أربعة أشهرٍ إذا رأى المصلحة في ذلك، له أن ..... عند طلبها، نعم.
س: إذا كانت له زوجتان، فهل له أن يهجر واحدةً دون الثانية؟
ج: نعم، إذا كانت هي المخطئة يهجرها دون الأخرى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، لكن يكون هجرها في البيت، ولا تُهجر إلا في البيت؛ لأنه إذا هجرها خارجًا فقد تكون مشاكل أكثر، إذا كان يأتي هذه، ولا يأتي هذه، بخلاف ما إذا هجرهن جميعًا فلا بأس أن يكون خارج البيت، نعم.
باب مَن عقل بعيره على البلاط أو باب المسجد
2470- حدثنا مسلم: حدثنا أبو عقيل: حدثنا أبو المتوكل الناجي، قال: أتيتُ جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: دخل النبي ﷺ المسجد، فدخلتُ إليه، وعقلتُ الجمل في ناحية البلاط، فقلت: هذا جملك، فخرج، فجعل يطيف بالجمل، قال: الثمن والجمل لك.
الشيخ: قصة الجمل معروفةٌ، اشتراه النبي ﷺ في بعض المغازي، وجعل ظهره لجابرٍ حتى يصل البلد، فلقد أعيا، فضرب النبي ﷺ الجمل حتى سار سيرًا جيدًا، واشتراه منه، واشترط ظهره إلى المدينة، فلما وصل المدينة جاء بالجمل فأناخه عند باب المسجد، فدخل المسجد، وقال له النبي ﷺ: صلِّ ركعتين تحية المسجد، ثم أخبره جابرٌ أنه أحضر الجمل، فأعطاه النبي ﷺ الجمل والثمن: خذ جملك ودراهمك، وزاده أيضًا عليه الصلاة والسلام.
فهذا فيه فوائد:
منها: تأكد الركعتين تحية المسجد، أنها من آكد النوافل.
ومنها: جواز إناخة البعير عند أبواب المساجد والبيوت إذا لم يكن في ذلك ضررٌ، مع مُراعاة عدم الضَّرر، فكون الإنسان ينيخ عند باب المسجد ليسمع الخطبة، أو ليُصلي مع الناس لا بأس، في محلٍّ لا يُؤذي أحدًا.
وفيه الجود والكرم، وأن مَن عليه الدَّين يُوفي ويجود ويُحسن.
وفيه جود النبي ﷺ وكرمه، وحُسن خلقه عليه الصلاة والسلام، فقد تأخر جابرٌ في آخر الناس، فجاء إليه وسأله عن الأسباب، قال: إن الجمل قد أعيا، فضربه النبي ﷺ -ضرب الجمل- حتى سار سيرًا جيدًا.
وفيه أن ولي الأمر والأمير يُراعي الناس، فإذا دعت الحاجةُ إلى أن يسير في آخر الناس سار في آخرهم، وإذا دعت الحاجة إلى أن يُساعد أحدًا ساعده، وإن كان هو الأمير، وهو الرئيس.
وفيه الجود بما تدعو الحاجةُ إليه، فقد أعطاه الجمل، وأعطاه الثمن وزيادةً، نعم.
س: هل ثبت أنه ﷺ كان إذا مشى مع الصحابة يتقدمون ويكون خلفهم؟
ج: الذي يظهر أنه كان تارةً وتارةً: تارةً خلفهم، وتارةً بينهم، على حسب المصلحة، لما خرج في حجة الوداع سار الناس أمامه، وعن يمينه، وعن شماله، وخلفه؛ لكثرتهم.
س: في الباب السابق يقول في الحديث: إني أرى مواقع الفتن، فهل هذا يُفهم منه كراهية .....؟
ج: مُراده أنه سوف تقع فتنٌ، فاحذروا فتن المال، وفتن الشهوات، وفتن الحروب، كلها وقعت بعده عليه الصلاة والسلام، مقصوده تنبيههم ليتهيؤوا لهذا الأمر، وليحذروا، نعم.
..............
باب الوقوف والبول عند سُباطة قومٍ
2471- حدثنا سليمان بن حرب، عن شعبة، عن منصورٍ، عن أبي وائل، عن حُذيفة قال: لقد رأيتُ رسول الله ﷺ. أو قال: لقد أتى النبي ﷺ سُباطة قومٍ فبال قائمًا.
الشيخ: وهذا فيه فوائد:
منها: جواز البول قائمًا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وأمن أن تُرى عورته، فلا بأس أن يبول قائمًا في المحلات التي تدعو الحاجة إليها؛ لأن السباطة مجمع الكناسات، والجلوس فيها قد يتأذى به الجالس، يعني: قد ينحدر عليه بوله أو بعض الأذى منها -من السباطة- أو ما أشبه ذلك، إذا كان المحل مناسبًا للبول قائمًا بال قائمًا، أو كان يحتاج إلى العجلة، أو لأسبابٍ أخرى.
المقصود أنه يدل على جواز البول قائمًا، إذا دعت الحاجة إلى ذلك لا بأس، والأفضل الجلوس كما قالت عائشة: كان النبي يبول جالسًا عليه الصلاة والسلام. يعني: هذا هو الأغلب، وإذا دعت الحاجة إلى البول قائمًا فلا حرج، بشرط عدم تكشف العورة للناس.
وفيه جواز وجود السباطات في الحارات وفي القرى، مجمع الكناسات، تُجمع في محلاتٍ معينةٍ، نعم.
س: قد تُوضع فيها بعض الأطعمة .....؟
ج: يبول في المحل الذي ما فيه طعامٌ، يبول في المحل السليم المناسب.
س: مناسبة الباب في كتاب الغصب؟
ج: لعله -والله أعلم- أن البول على الكناسة وما حولها ليس من الظلم، ولا يدخل في الظلم؛ لأنها محلٌّ مُبتذَلٌ.
باب مَن أخذ الغصن وما يُؤذي الناس في الطريق فرمى به
2472- حدثنا عبدالله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجد غُصْنَ شوكٍ على الطريق، فأخذه، فشكر الله له، فغفر له.
الشيخ: هذا واضحٌ في إزالة الأذى عن الطريق، وأنه أمرٌ مطلوبٌ، وأنه من أسباب المغفرة؛ لما فيه من الإحسان إلى الناس، الإحسان العام، وفي الحديث الصحيح يقول ﷺ: الإيمان بضعٌ وسبعون شعبةً، فأعظمها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فإماطة الأذى عن الطريق من شُعَب الإيمان، وقد أخبر ﷺ أنه وجد ذلك في أجور أمته؛ رأى في ذلك إماطة الأذى عن الطريق، ومن ذلك خضد الشوك أو الحفرة أو الحجر من الطريق، أو العظم، أو ما أشبه ذلك، ومثل هذا لا يحتاج إلى إذنٍ، وليس من الظلم، إذا حصل شوكٌ في الطريق يلويه أو يقطعه؛ حتى لا يُؤذي الناس.
وأن الرب جوادٌ كريمٌ، يجود على العباد بما يتفضل به عليهم من مغفرةٍ وأنواع الخير بأعمالهم الطيبة، حتى ولو كان عملًا خفيفًا: كإزالة غصن الشوك والأذى من الطريق بالمغفرة، وهذا من جوده وكرمه، مثلما غفر للذي سقى الكلب، وللزانية التي سقت الكلب أيضًا، كل هذا من جوده وكرمه.
فالإنسان لا يحتقر العمل الصالح ولو كان قليلًا: اتَّقوا النار ولو بشق تمرةٍ، فالمؤمن يتحرى أعمال الخير، وجود الله أكبر وأعظم ، فيتحرى إزالة الأذى عن الناس، وإيصال الخير إليهم بكل وسيلةٍ يستطيعها مما شرع الله وأباح، وفضل الله واسعٌ، فهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين .
وينبغي التواصي بهذا، فهذا من الحقِّ، والتواصي به بين المسلمين من أعظم المصالح، التواصي بإزالة الأذى عن الطريق ينفع الأمة.
ومن ذلك إذا كان أناسٌ يجتمعون في الطرق ويُؤذون الناس، يتواصى بأسباب إزالتهم من الطريق، وبُعدهم عن الطريق؛ لأن ضررهم أعظم.
وهكذا إذا رأى أناسًا يُريقون المياه في الطرقات، أو النفايات في الطرقات، وتُؤذي الناس، ينصحهم ويُوجههم إلى الخير، ويُبين لهم ما في هذا من الشر، وهكذا في غير ذلك: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، هذا من الولاية: نصيحة إخوانه، وحثّهم على الخير، وتحذيرهم من الشر من الولاية للمؤمنين، ومن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومن النصيحة أيضًا، وداخلٌ في قوله ﷺ: لا يُؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه، نعم.