باب جوار أبي بكر في عهد النبي ﷺ وعقده
حدثنا يحيى بن بُكير: حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها -زوج النبي ﷺ- قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين.
وقال أبو صالح: حدثني عبدالله، عن يونس، عن الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله ﷺ طرفي النهار، بُكرةً وعشيةً، فلما ابتُلي المسلمون خرج أبو بكر مُهاجرًا قبل الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدّغنة، وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي. قال ابن الدّغنة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، وأنا لك جارٌ، فارجع فاعبد ربك ببلادك. فارتحل ابن الدّغنة فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريشٍ، فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتُخرجون رجلًا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلَّ، ويقري الضيف، ويُعين على نوائب الحق؟!
فأنفذت قريش جوار ابن الدّغنة، وأمَّنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدّغنة: مُرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليُصلِّ، وليقرأ ما شاء، ولا يُؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا. قال ذلك ابنُ الدّغنة لأبي بكر.
فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره وبرز، فكان يُصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيتقَصَّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلًا بكَّاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريشٍ من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدّغنة، فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدًا بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فَأْتِهِ، فإن أحبَّ أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يُعلن ذلك، فسله أن يردَّ إليك ذمَّتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مُقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدّغنة أبا بكر، فقال: قد علمتَ الذي عقدتُ لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن تردَّ إليَّ ذمتي، فإني لا أُحبّ أن تسمع العرب أني أُخفرت في رجلٍ عقدتُ له. قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله.
ورسول الله ﷺ يومئذٍ بمكة، فقال رسول الله ﷺ: قد أُريتُ دار هجرتكم، رأيتُ سبخةً ذات نخلٍ بين لابتين، وهما الحرَّتان، فهاجر مَن هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله ﷺ، ورجع إلى المدينة بعض مَن كان هاجر إلى أرض الحبشة، وتجهز أبو بكر مهاجرًا، فقال له رسول الله ﷺ: على رِسْلك، فإني أرجو أن يُؤذن لي، قال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ﷺ ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السّمر أربعة أشهرٍ.
الشيخ: وهذا الواقع والحادث من قصة جوار ابن الدّغنة لأبي بكر الصديق وكفالته إياه ... إلى آخر القصة، هذا من الابتلاء والامتحان الذي ابتُلي به المؤمنون في مكة، فإنهم ابتُلوا من كفار قريشٍ بالتعذيب والإيذاء، حتى هاجر مَن هاجر منهم إلى الحبشة، وبقي مَن بقي في مكة في الأذى، وذهب مَن ذهب إلى قومه خارج مكة.
وتقول عائشة رضي الله عنها: أنها لم تعقل أبويها إلا وهما يدينان الدين. يعني: قد دخلا في الإسلام، فإن إسلام أبي بكرٍ مُتقدمٌ، فهو أول مَن أسلم من الرجال الأحرار كما تقدم، وأول مَن أسلم من الصغار عليٌّ ، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة كما تقدم.
فلما أُوذي الصديق رضي الله عنه وأرضاه خرج من مكة فرارًا من الأذى، فلقيه ابن الدّغنة -وهو من سادات العرب- فقال: مثلك لا يَخرج ولا يُخرج؛ لأنك تُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتُعين على نوائب الحق.
وهذه الصِّفات التي وصف ابن الدّغنة بها أبا بكر هي الصِّفات التي وصفت بها خديجةُ النبيَّ عليه الصلاة والسلام، هكذا الأخيار والأجواد من سادات قريش وغيرهم، هذا شأنهم: حمل الكَلّ، وصدق الحديث، وصلة الرحم، وإكرام الضيف، إلى غير ذلك.
وكان النبي ﷺ في القمة من هذه الخصال العظيمة، وكان الصديق كذلك رضي الله عنه وأرضاه، فأجاره ابن الدّغنة، ورجع به إلى مكة، ونفذت قريش جوار ابن الدّغنة على أن يعبد الصديقُ ربَّه في بيته، ولا يُعلن قراءة القرآن، ولا الصلاة، ولا إسلامه بين الناس، وزعموا أنهم يخافون على نسائهم وأبنائهم، وهذا هو الجهل والبلاء، خافوا عليهم من الحق، خافوا عليهم مما فيه السعادة والخير، مثلما قيل:
ما يبلغ الأعداء من جاهلٍ | ما يبلغ الجاهلُ من نفسه |
وأبلغ من هذا قوله سبحانه: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
فالتزم الصديقُ بما قال ابن الدّغنة، فكان يعبد الله في بيته، ويقرأ القرآن، وكان سريع الدمعة عند قراءة القرآن رضي الله عنه وأرضاه.
ثم إنه بنى مسجدًا في فناء البيت -في خارج البيت- وجعل يُصلي فيه ويقرأ القرآن، وجعل يتقصَّف عليه كثيرٌ من نساء قريش وأبنائهم؛ ليسمعوا ويستفيدوا ويعجبوا مما يقرأ ويتعبد الله رضي الله عنه وأرضاه، حتى طلبت قريشٌ من ابن الدّغنة أن يأمر النبي ﷺ بالالتزام بالبقاء في بيته، أو يردّ عليه جواره، وقالوا: إنا نكره أن نخفرك في جوارك، ولا نرغب في استعلانه بما لديه؛ لما لله في ذلك من الحكمة البالغة: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وَبَلَوْنَاهُم بالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ [الأعراف:168].
وجاء ابن الدّغنة وقال للصديق: إما أن تردّ عليَّ جواري، وإما أن تبقى في بيتك. فقال: بل أردّ عليك جوارك، وأرغب بجوار الله. فردَّ عليه جواره، وبقي على حاله، حتى عزم على الهجرة، وأخبره النبي ﷺ أنه رأى دار هجرته: دارًا سبخةً ذات نخلٍ بين حرَّتين، يعني: المدينة، فقال له النبي ﷺ: على رِسْلك، فإني أرجو أن يُؤذن لي يعني: حتى نخرج جميعًا إلى دار الهجرة، فأذن الله له، وخرج هو والصديقُ مُهاجرين إلى المدينة، ومعهما عامر بن فُهيرة، ومعهما الدليل عبدالله بن أُرَيقط الديلي، أربعة، وحفظهم الله وكلأهم من شرِّ قريش حتى وصلوا المدينة.
المقصود من هذا كله أن العبد يُبتلى في دينه من أعداء الله، فلا بد من الصبر، ولو كان أحدٌ يسلم لسلم الأنبياء وهم أفضل الناس، وهكذا الصديقون بعد الأنبياء هم أفضل الناس، فإذا لم يسلموا فغيرهم من باب أولى.
ولا ينبغي للعاقل أن يجزع مما قد يُصيبه من الأذى في طاعة الله ودين الله، بل عليه أن يتحمل ويكون قويًّا، صبورًا، حكيمًا في أقواله وأعماله، حتى يفتح الله ويُفرج.
والله نبَّه في كتابه، وأوضح في كتابه هذا الأمر فقال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ يعني: يُمتحنون، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2، 3]، قد فُتن الماضون، وظهر صدق الصادقين، وكذب الكاذبين، ويقول سبحانه: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
فهكذا يُمتحن الأنبياء والرسل والمؤمنون في أهليهم، ومن قومهم، ومن أعدائهم، ومن غيرهم.
والواجب الصبر في الثبات على الحق، وتوجيه الأهل إلى الخير، وتوجيه الجيران والإخوان، وتوجيه المجتمع، والصبر في كل حالٍ كما صبر الأخيار، وقال سبحانه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، نعم.
س: هذه كفالةٌ بالبدن؟
ج: كفالة البدن، وكفالة شيءٍ وراء ذلك، وهو ألا يُعلن ما لديه، يعني: أنه يلتزم بما طُلب منه، ويكفله شخصٌ أو أشخاصٌ أنه يلتزم، هذه من كفالة البدن، لكن في ضمن ذلك أشياء تُطلب منه، فإن كفالة البدن أقسامٌ: قد تكون كفالة حضورٍ، يحضر البدن فقط، وقد تكون مع ذلك أنه يلزم محلًّا مُعينًا لا يخرج عنه، أو يلزم سيرةً معينةً لا يخرج عنها، كما في قصة الصديق.
س: ..... بأن التشريع ما نزل حتى الآن، والرسول ﷺ أقرَّه في أول الإسلام، والتشريع ما نزل في مكة؟
ج: نعم، وليس هناك ما ينسخه، أقول: وليس هناك ما ينسخه.
س: أسلم ابن الدّغنة؟
ج: ما عندي علمٌ.
س: هل يُعتبر مسجد أبي بكر الصديق أول مسجدٍ بُني في الإسلام؟
ج: الله أعلم.
باب الدَّين
2298- حدثنا يحيى بن بُكير: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهابٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ كان يُؤتى بالرجل المتوفى عليه الدَّين، فيسأل: هل ترك لدَينه فضلًا؟، فإن حُدِّث أنه ترك لدَينه وفاءً صلَّى، وإلا قال للمسلمين: صلُّوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمَن تُوفي من المؤمنين فترك دَينًا فعليَّ قضاؤه، ومَن ترك مالًا فلورثته.
الشيخ: وهذا فيه الحث على قلة الدَّين، والحرص على قضاء الديون، وأن يحرص المؤمن على عدم الدَّين ما أمكن، ولكن إذا دعت الحاجة فلا بأس؛ ولهذا استدان النبي ﷺ، ومات ودرعه مرهونةٌ في طعامٍ لأهله.
وفيه أن مَن مات وعليه دَينٌ يُصلَّى عليه، ويُقضى دَينه من تركته إن كانت له تركةٌ، أو من بيت المال إن كان يتسع بيت المال لذلك؛ تأسيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام.
أما مَن ترك مالًا فلورثته.
س: أحسن الله إليك، الأربعة الذين هاجروا معًا هم: النبي ﷺ، وأبو بكر، ورجلٌ من بني عبد الأشهل، ومَن هو الرابع؟
ج: النبي ﷺ، والصديق، وعامر بن فُهيرة مولى الصديق -عتيق الصديق-، وعبدالله بن أُريقط الدّيلي -الدليل الذي يدلهم- أربعةٌ.
40- كتاب الوكالة
باب وكالة الشَّريك الشريك في القسمة وغيرها
وقد أشرك النبي ﷺ عليًّا في هديه، ثم أمره بقسمتها.
2299- حدثنا قبيصة: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن عليٍّ قال: أمرني رسول الله ﷺ أن أتصدق بجِلال البدن التي نُحرت وبجلودها.
2300- حدثنا عمرو بن خالد: حدثنا الليث، عن يزيد، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر : أن النبي ﷺ أعطاه غنمًا يقسمها على صحابته، فبقي عتود، فذكره للنبي ﷺ، فقال: ضَحِّ به أنت.
الشيخ: الوكالة جائزةٌ، محل إجماعٍ بين المسلمين، الوكالة جائزةٌ فيما تدخله النيابة، وقد وكل النبي ﷺ، ووكل الصحابة.
المقصود أن الوكالة تدعو لها الحاجة؛ ولهذا أجازها الشرع فيما تدخله النيابة من أمور الدنيا، ومن العبادات: كالحج، والزكاة.
المقصود أنها من رحمة الله، ومن نعمه ؛ ولهذا وكل النبي ﷺ عليًّا في نحر بعض البدن التي أهداها ﷺ، وفي تقسيم لحومها وجلودها وأجِلَّتها، ووكل عقبة في مسألة الضحايا.
العتود: الجذع، قال: ضحِّ به يعني: جذعًا من الضأن.
أما الجذع من الماعز فلا يُضحَّ به، إنما يُضحَّى بالثَّني؛ للحديث الصحيح: لا تذبحوا إلا مُسِنَّةً، إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعةً من الضأن.
س: يقول: العتود: الصغير من المعز إذا قوي، قيل: إذا أتى عليه حوله. وقيل: إذا قدر على .....؟
ج: لا، الضأن، الجذع من الضأن الذي بلغ ستة أشهرٍ فأكثر، وأما المعز فيقال له: جذع، لكن ما يجزي حتى يثني، حتى يُكمل السنة، نعم، ويُسمّى: عتودًا إذا قوي، نعم.
س: الشارح هنا ..... الصغير من المعز؟
ج: قد يُسمّى: عتودًا، ويُسمّى: ثنية أيضًا ..... تسميتان، العتود لقوته، يعني: إذا أكمل السنة.
س: إذا كان من المعز يكون هذا من خصائص عقبة بن عامر؟
ج: لا، لا، هو من الضأن كما في الرواية الأخرى، من الضأن، الخصائص لصاحب العناق الذي ضحَّى قبل الصلاة، ثم قال للنبي ﷺ: عندي عناقٌ. قال: ضَحِّ بها، ولن تُجزئ عن أحدٍ بعدك، هذا خاصٌّ ببردة بن نيار.
س: في الحديث قال: ضَحِّ به أنت، وإذا قيل .....؟
ج: أيش قال عندك؟
الطالب: في "القاموس" -أحسن الله إليك- يقول: والعتود: السدرة، أو الطلحة، والحولي من أولاد المعز.
الشيخ: هذا هو، وقوله: ضَحِّ به ما يقتضي التخصيص، يعني: أنت من الجماعة الآخرين، لما قسم الغنم قال: هذا نصيبك، نعم.
س: قال: ضَحِّ به أنت؟
ج: يعني: الباقي وُزِّع.
باب إذا وكل المسلم حربيًّا في دار الحرب أو في دار الإسلام جاز
2301- حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله، قال: حدثني يوسف بن الماجشون، عن صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جدِّه عبدالرحمن بن عوف قال: كاتبتُ أمية بن خلف كتابًا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة، وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرتُ "الرحمن" قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبتُه: عبد عمرو، فلما كان في يوم بدرٍ خرجتُ إلى جبلٍ لأُحرزه حين نام الناس، فأبصره بلالٌ، فخرج حتى وقف على مجلسٍ من الأنصار، فقال: أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا أمية. فخرج معه فريقٌ من الأنصار في آثارنا، فلما خشيتُ أن يلحقونا خلفتُ لهم ابنه لأشغلهم، فقتلوه.
الشيخ: يعني: علي بن أمية، نعم.
س: أحسن الله إليك، أقرَّه النبي ﷺ على هذا العمل مع أنه من أشد الأعداء؟
ج: أيش قال الشارح عليه؟
قارئ الشرح: قوله: "باب إذا وكل المسلم حربيًّا في دار الحرب أو في دار الإسلام جاز" أي: إذا كان الحربي في دار الإسلام بأمانٍ.
قوله: "عن صالح بن إبراهيم" يأتي تصريحه بالسماع منه آخر الباب.
قوله: "كاتبتُ أمية بن خلف" أي: كتبتُ بيني وبينه كتابًا، وفي رواية الإسماعيلي: "عاهدتُ أمية بن خلف وكاتبتُه".
قوله: "بأن يحفظني في صاغيتي" الصَّاغية -بصاد مُهملةٍ وغينٍ مُعجمةٍ- خاصة الرجل، مأخوذٌ من صغى إليه، إذا مال.
قال الأصمعي: صاغية الرجل: كل مَن يميل إليه، ويُطلق على الأهل والمال.
وقال ابن التين: رواه الداودي: "ظاعنتي" بالظاء المشالة المعجمة، والعين المهملة، بعدها نون، ثم فسَّره بأنه الشيء الذي يُسفر إليه. قال: ولم أرَ هذا لغيره.
قوله: "لا أعرف الرحمن" أي: لا أعترف بتوحيده. وزاد ابن إسحاق في حديثه: أن أمية بن خلف كان يُسميه: عبد الإله.
قوله: "حين نام الناس" أي: رقدوا، وأراد بذلك اغتنام غفلتهم ليصون دمه.
قوله: "فقال: أمية بن خلف" بالنصب على الإغراء، أي: عليكم أمية. وفي رواية أبي ذرٍّ بالرفع على أنه خبر مبتدأ مُضمر، أي: هذا أُمية.
قوله: "خلفت لهم ابنه" هو علي بن أمية، سمَّاه ابن إسحاق في روايته في هذه القصة من وجهٍ آخر، وسيأتي مزيد بسطٍ لهذه القصة في شرح غزوة بدر، ونذكر تسمية مَن باشر قتل أمية، ومَن باشر قتل ابنه علي بن أمية، ومَن أصاب رِجْل عبدالرحمن بالسيف، إن شاء الله تعالى.
ووجه أخذ الترجمة من هذا الحديث: أن عبدالرحمن بن عوف -وهو مسلمٌ في دار الإسلام- فوَّض إلى أمية بن خلف -وهو كافرٌ في دار الحرب- ما يتعلق بأموره، والظاهر اطِّلاع النبي ﷺ عليه، ولم يُنكره.
قال ابن المنذر: توكيل المسلم حربيًّا مُستأمنًا، وتوكيل الحربي المستأمن مسلمًا لا خلافَ في جوازه.
قوله: "وكان رجلًا ثقيلًا" أي: ضخم الجثة.
قوله: "فتجللوه بالسيوف" بالجيم، أي: غشوه. كذا للأصيلي، ولأبي ذرٍّ ولغيرهما بالخاء المعجمة، أي: أدخلوا أسيافهم خلاله حتى وصلوا إليه وطعنوه بها من تحتي، من قولهم: خللته بالرمح، واختللته: إذا طعنته به، وهذا أشبه بسياق الخبر، ووقع في رواية المستملي: فتخلوه، بلامٍ واحدةٍ ثقيلةٍ.
قوله: "سمع يوسف صالحًا وإبراهيم أباه" كذا ثبت لأبي ذرٍّ عن المستملي، وقد وقع في آخر القصة ما يدل على سماع إبراهيم من أبيه، حيث قال في آخر الحديث: فكان عبدالرحمن بن عوف يُرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه.
الشيخ: وجه الإشكال أن فعل عبدالرحمن بن عوف ظاهره تأمين أمية، والحرص على سلامته، والصحابة لم ينفذوا ولم يُوافقوا على ذلك لشدة أذى أمية لمسلمي مكة، فأمية وصفوان وغيرهم من بني أمية كلهم آذوا المسلمين؛ فلهذا حرص بلالٌ على أن يقتله؛ لأنه من جملة مَن أُوذى في مكة.
والنبي ﷺ لم يُذكر هنا أنه أنكر على عبدالرحمن بن عوف، أو أنكر على القاتلين، وقد قال ﷺ: المسلمون يسعى بذمَّتهم أدناهم، وأمَّن من أمَّنته أم هانئ يوم الفتح في الحرب، هذا هو وجه الإشكال، ففي مكة صرَّح بأن مَن دخل داره فهو آمنٌ، وصرَّح عليه الصلاة والسلام بأن المسلمين ذمَّتهم واحدةٌ، يسعى بها أدناهم، ومَن أُمِّن يُؤمَّن حتى يردّ إلى مأمنه.
وهنا الصحابة لم يقبلوا أمان عبدالرحمن بن عوف، ولعل السبب في ذلك -والله أعلم- أن عبدالرحمن ما قال: قد أمَّنته، إنما فعل فعلًا، فقد جذبه إليه، ولم يقل: قد أمَّنته؛ فلهذا قتلوه، لعل هذا هو السبب، وأن كونه جرَّه إليه أو انكبَّ عليه ما يقتضي حكم التأمين اللفظي، والله أعلم.
والموضوع على كل حالٍ محل بحثٍ، إلا أن الأصل عدم التأمين إلا بنصٍّ، وهذا في وقت الحرب، وقت بدر.
س: خرج مُقاتلًا، مُحاربًا؟
ج: نعم.
س: .............؟
ج: قصد الصديق لعله يُسلم، نعم.
باب الوكالة في الصرف والميزان
وقد وكل عمر وابن عمر في الصرف.
2302- حدثنا عبدالله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن عبدالمجيد بن سهيل بن عبدالرحمن بن عوف، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيدٍ الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ استعمل رجلًا على خيبر، فجاءهم بتمرٍ جنيبٍ، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال: لا تفعل، بِعِ الجمع بالدراهم، ثم ابتَعْ بالدراهم جَنِيبًا، وقال في الميزان مثل ذلك.
الشيخ: وهذا واضحٌ في أن بيع التمر بالتمر مُتفاضلًا من الربا، من صريح الربا؛ ولهذا في اللفظ الآخر: أوه! عين الربا، عين الربا، لا تفعل، فإذا كان تمرًا طيبًا وتمرًا رديئًا يبيع التمر الرديء، ثم يشتري الطيب، أما أن يبيع صاعين من التمر الرديء بصاعٍ واحدٍ من التمر الطيب فهذا عين الربا، مثل: الدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين، عين الربا، ما يجوز؛ ولهذا أنكره النبي ﷺ، نعم.
س: تكون وكالة هنا؟
ج: هذا من أدلة الوكالة، نعم، كونه يبيع التمر هذا وكالة، نعم.
باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاةً تموت، أو شيئًا يفسد، ذبح وأصلح ما يخاف عليه الفساد
2304- حدثنا إسحاق بن إبراهيم، سمع المعتمر: أنبأنا عبيدالله، عن نافعٍ: أنه سمع ابن كعب بن مالك يُحدِّث عن أبيه: أنه كانت لهم غنمٌ ترعى بسلع، فأبصرت جاريةٌ لنا بشاةٍ من غنمنا موتًا، فكسرت حجرًا فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي ﷺ، أو أُرسل إلى النبي ﷺ مَن يسأله. وأنه سأل النبي ﷺ عن ذاك، أو أرسل، فأمره بأكلها.
قال عبيدالله: فيُعجبني أنها أمةٌ، وأنها ذبحت. تابعه عبدة، عن عبيدالله.
الشيخ: وهذا فيه فوائد:
منها: أن الوكيل إذا رأى المصلحة في مال الموكل فعل، وأنه ينفذ عمله إذا رأى المصلحة ودفع الخطر، ولو ما صرَّح له الموكل بالإذن الصريح؛ لأن هذا من باب: المسلمون إخوةٌ، فإذا أصلح لموكله: كأن تكون شاةٌ أو بقرةٌ أو بعيرٌ يُخشى موته فذبحه ليُستفاد منه؛ لا بأس بذلك، وعمله ماضٍ، ومأجورٌ بإصلاحه.
وهكذا إذا نمَّى المال لمصلحة الموكل، كما فعل أحد الثلاثة الذين ذكر النبي ﷺ خبرهم، صاحب الأجير الذي نمَّى ماله حتى صار من الإبل والبقر والغنم.
المقصود أن عمل الإنسان في مال غيره للإصلاح وخوف التلف أو للتنمية إذا نجح كله طيبٌ، ولا لومَ عليه في ذلك، وعمله ماضٍ.
ومن الفوائد: أن ذبح المرأة جائزٌ كالرجل، فإذا ذبحت فذبحها جائزٌ، سواءٌ كانت حرَّةً أو أمةً، إذا كانت مسلمةً أو كتابيةً فذبحها جائزٌ.
وكذلك من الفوائد: الذبح بالحجر، ما هو بلزومٍ سكين الحديد، إذا تيسَّر مُحدَّدٌ يذبح به وحصل به المقصود من حجرٍ أو غيره فلا بأس؛ لقوله ﷺ: ما أنهر الدم وذُكر اسم الله فكُلْ، ليس السنّ والظّفر، ما حصل به إنهار الدم وقطع الحلقوم والمريء من حجرٍ أو عصبٍ أو حديدٍ أو غير ذلك حصل به المقصود، كما فعلت الجارية.
س: إذا رأى شاةً تموت وتتألم، فهل يجوز أن يذبحها ويقول: أُريحها؟
ج: يذبحها لعله ينتفع بها مَن يأكلها، أو تستريح من تعبها، لا حرج في ذلك، وإن تركها فلا بأس، لكن إن وجد فيها النفع فذبحها أولى؛ حتى يُستفاد منها، ولو للفقراء.
س: وإن لم يكن وكيلًا؟
ج: وإن لم يكن وكيلًا، نعم، إذا رأى المصلحة في ذلك.
س: وإذا لم يفعل الوكيل؟
ج: ما عليه شيءٌ إن شاء الله، نرجو ألا يكون فيه شيءٌ؛ لأنه قد يخشى أن يُتَّهم.
س: إذا عمل بالمال للمصلحة، ولكن تلف المال، فهل يضمن المال؟
ج: يضمنه، إيه، ما دام أنه ليس وكيلًا يضمن، نعم.
س: حديث عبدالرحمن بن عوف، أين الولاء والبراء فيه؟
ج: هذا دليلٌ على الجواز، وهذا ليس من الموالاة، بل من باب المكافأة، لا من المحبة، إذا أحسن إليه وسعى في سلامته لا بأس، لعله يهتدي، لعله يُسلم ويؤمن، أو وكَّله في بلد الحرب على حاجةٍ له، ما يتضمن هذا الموالاة، البيع والشراء ..... والوكالة والهبة إذا كانت لمصلحة المسلمين، أما المؤمن أو الذي في الذمة فهذا لا بأس أن يُعطى؛ لقوله جلَّ وعلا: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8]، ولو أنهم كفارٌ إذا كان لهم ذمَّةٌ وأمانٌ، مثل: قصة أم أسماء بنت أبي بكر لما جاءت في الهدنة تطلب الرفد وهي كافرةٌ، أمرها النبي ﷺ أن تصل أمها.
المقصود أن مجرد الوكالة أو النفع بشيءٍ ما يتضمن الموالاة، وهكذا الصدقة إذا كان مُستأمنًا أو ذميًّا، وهكذا الحربي في بلاد الحرب إذا وُكِّل شيئًا لمصلحة المسلمين؛ لأنه عرف أنه ينفع الناس، نعم.
س: ما يقال: أنه خطأٌ هذا الفعل، وأن الصحابة لم يُقروه عليه؟
ج: لكن لم يُذكر أن الرسول ﷺ أنكر عليه، لم يبلغ أنه أنكر عليه.
س: ولا أنكر على الصحابة؟
ج: نعم، يدل على جواز هذا وجواز هذا، نعم.
س: كأنه يدل على ..... المصلحة فقط .....؟
ج: هي مصالح من مصالح الدنيا بين الناس، لا يتضمن الولاء والبراء، النبي ﷺ كان يشتري من اليهود، وليس هذا من مُوالاتهم، ومات ودرعه مرهونةٌ عند يهوديٍّ في طعامٍ لأهله، فالبيع والشراء ليس من الموالاة في شيءٍ، أو الوكالة، نعم.