كتاب العتق

49- كتاب العتق

بابٌ في العتق وفضله

وقوله تعالى: فَكُّ رَقَبَةٍ ۝ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۝ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [البلد:13- 15].

2517- حدثنا أحمد بن يونس: حدثنا عاصم بن محمد، قال: حدثني واقد بن محمد، قال: حدثني سعيد بن مرجانة -صاحب علي بن حسين-، قال: قال لي أبو هريرة : قال النبي ﷺ: أيُّما رجلٍ أعتق امرأً مسلمًا استنقذ الله بكل عضوٍ منه عضوًا منه من النار.

قال سعيد بن مرجانة: فانطلقت به إلى علي بن حسين، فعمد علي بن حسين رضي الله عنهما إلى عبدٍ له قد أعطاه به عبدالله بن جعفر عشرة آلاف درهم، أو ألف دينار، فأعتقه.

الشيخ: لا شك أن عتق الرقاب من أفضل القُربات، وقد جعل الله ذلك كفارةً لمواضع عديدةٍ: في الظِّهار، وفي القتل، وفي الجماع في رمضان، وفي الأيام، وما ذاك إلا لعظم شأنه، وعظم فائدته، فإنه في الرقِّ يُشبه الأنعام: يُباع ويُشترى، وليس له الحرية في التصرف، فإذا أعتقه من قيد الرقِّ فقد أعتقه من قيدٍ عظيمٍ وتعبٍ كبيرٍ، فجعل الله في ذلك هذا الخير العظيم، وأن إعتاق الرقاب من أسباب عتق العبد من النار: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ [البلد:11- 13].

ويلتحق بذلك إعتاق الأسارى، فإنه يُرجى فيه الخير العظيم، فإعتاق الأسارى عند الكفار بتسليم ما عليهم من المال حتى يتخلَّصوا من الكفرة قد يكون في بعض الأحيان أعظم من عتق الرقاب؛ لما فيه من إنقاذهم من أسباب الكفر، فإنقاذ الناس من وجودهم بين الكفرة ومن استيلاء الكفرة عليهم فيه خيرٌ عظيمٌ، وفيه فضلٌ كبيرٌ، ومن ذلك دعوتهم إلى الإسلام، وتوجيههم إلى الخير؛ حتى يُنقذهم من الكفر الذي هو أعظم الذنوب وأشرّها.

فإذا كان عتق الرقبة من الرق فيه هذا الخير العظيم، فإعتاق العبد من الشرك إلى الإسلام فيه الخير العظيم أيضًا، يقول ﷺ: لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمر النَّعم.

وهكذا دعوة العاصي، وإعتاقه من المعاصي بالتوبة بسبب وعظك وتذكيرك فيه الخير العظيم، وهكذا إخراجهم من بلاد الكفرة، ودعوتهم إلى الانتقال إلى بلاد المسلمين من أعظم الأسباب في عتق الرقاب من النار: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله، لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمر النَّعم، فدعوة المسلمين إلى الاستقامة، وإلى ترك الشرك، وإلى ترك المعاصي فيه نوعٌ من عتق الرقاب، وفيه خيرٌ عظيمٌ، وقد يفوق في بعض الأحيان عتق الرقاب من الرق؛ لأن الإعتاق من الكفر والضلال والشرك والمعاصي ومن أسباب ذلك فيه الخير العظيم والفوائد الكبيرة للعتيق وللمسلمين جميعًا.

وهكذا السجناء في الديون: إعتاقهم من السجون ليرجعوا إلى أهليهم، وليقوموا بحاجة عوائلهم، ويطلبوا الرزق فيه خيرٌ عظيمٌ أيضًا، وفضلٌ كبيرٌ.

فينبغي احتساب الأجر في إعتاق هذه الرقاب، والسعي في تخليصها، فالسَّجين العاجز في أشد الحاجة إلى مساعدة إخوانه المسلمين، وقد يُسجن بتهمة أنه يقدر، أو ربما لا يعطف عليه أحدٌ، وإلا فالواجب عدم سجنه، إذا كان مُعسرًا لا يُسجن، يقول تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، لكن قد يُسجن لأسبابٍ متعددةٍ، وقد يُتهم بالقدرة، وقد يكون للقاضي وجوهٌ أخرى في سجنه.

فالمقصود أن إعتاق السُّجناء بقضاء ديونهم، أو بالمساعدة فيها والمساهمة فيه فضلٌ كبيرٌ على السجين، وعلى عائلته المضطرة إلى وجوده وقيامه عليها، نسأل الله للجميع التوفيق.

س: مَن جامع المشرك فقد أشرك؟

ج: حديثٌ ضعيفٌ، رواه أبو داود بلفظ: مَن جامع المشرك وسكن معه فهو مثله، لكن سنده ضعيفٌ، لكن فيه تحذيرٌ من الآخر، يقول النبي ﷺ: أنا بريءٌ من كل مسلمٍ يُقيم بين المشركين، فالواجب الحذر؛ لأن الإقامة بينهم -لا سيما من الجاهل- وسيلةٌ إلى الشرك والمعاصي، أما الإقامة بينهم للدعوة إلى الله وإظهار الدين فلا بأس، نعم.

باب: أي الرِّقاب أفضل

2518- حدثنا عبيدالله بن موسى، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي مراوح، عن أبي ذرٍّ قال: سألتُ النبي ﷺ: أي العمل أفضل؟ قال: إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيله، قلتُ: فأي الرِّقاب أفضل؟ قال: أعلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تُعين ضايعًا، أو تصنع لأخرق، قال: فإن لم أفعل؟ قال: تدع الناس من الشر، فإنها صدقةٌ تصدق بها على نفسك.

الشيخ: ضبطها عندكم: ضائعًا، أو صانعًا: تُعين صانعًا؟

القارئ: ضائعًا.

الشيخ: أيش قال الشارح؟

القارئ: قوله: تُعين ضايعًا بالضاد المعجمة، وبعد الألف تحتانية، لجميع الرواة في البخاري، كما جزم به عياض وغيره، وكذا هو في مسلم، إلا في رواية السمرقندي كما قاله عياض أيضًا.

وجزم الدارقطني وغيره بأن هشامًا رواه هكذا دون مَن رواه عن أبيه، وقال أبو علي الصّدفي -ونقلته من خطِّه-: رواه هشام بن عروة بالضاد المعجمة والتحتانية. والصواب بالمهملة والنون كما قال الزهري.

وإذا تقرر هذا فقد خبط مَن قال من شُرَّاح البخاري: إنه رُوي بالصاد المهملة والنون، فإن هذه الرواية لم تقع في شيءٍ من طرقه.

وروى الدارقطني من طريق معمر، عن هشام هذا الحديث بالضاد المعجمة، قال معمر: كان الزهري يقول: صحَّف هشام، وإنما هو بالصاد المهملة والنون. قال الدارقطني: وهو الصواب؛ لمقابلته بالأخرق، وهو الذي ليس بصانعٍ ولا يُحسن العمل.

وقال علي بن المديني: يقولون: إن هشامًا صحَّف فيه. ا.هـ.

ورواية معمر عن الزهري عند مسلمٍ كما تقدم، وهي بالمهملة والنون، وعكس السمرقندي فيها أيضًا كما نقله عياض.

وقد وجهت رواية هشام بأن المراد بالضائع: ذو الضياع من فقرٍ أو عيالٍ، فيرجع إلى معنى الأول، قال أهل اللغة: رجلٌ أخرق: لا صنعةَ له، والجمع: خُرْق، بضم ثم سكون، وامرأة خرقاء كذلك، ورجلٌ صانعٌ وصنع بفتحتين، وامرأة صناع بزيادة ألف.

الشيخ: المقصود أن "صانعًا" أظهر في المعنى، وأن "ضائعًا" تصحيفٌ، هذا هو الأظهر من جهة السياق؛ لأن الأخرق مَن لا يُحسن الصنعة، ما عنده بصيرةٌ، فيُقابله الصانع: تُعين صانعًا يعني: على صنعته، تُعينه حتى يكون كسبُه أكثر، وحتى يستفيد أكثر لحاجته إلى ذلك.

أو تصنع لأخرق ما يُحسن، تُعلِّمه وتُوجِّهه وتصنع له ما يُعينه على كسب العيش.

المقصود أن حديث أبي ذرٍّ هذا حديثٌ عظيمٌ، بيَّن فيه الرسول ﷺ أن أفضل الأعمال: الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والإيمان تدخل فيه جميع الأعمال الصَّالحات؛ لأن الإيمان قولٌ وعملٌ، فأفضل العمل للإنسان إيمانه بالله ورسوله، الذي يشتمل على توحيد الله والإخلاص له، والتصديق لرسوله ﷺ، ويشتمل على أداء الفرائض، وترك المحارم، ومن الفرائض الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كلها داخلةٌ في الإيمان.

فأفضل أعمال الإنسان في هذه الدنيا وأولاها وأحقّها: إيمانه بالله ورسوله، يعني: الإيمان الذي يشتمل على أداء الفرائض، وترك المحارم، والوقوف عند الحدود، والاستقامة على الحقِّ، هذا أفضل العمل، ثم أمور الدنيا وحاجاتها.

قال: فإن لم يستطع؟ قال: تُعين صانعًا، أو تصنع لأخرق، تُعين غيرك، قال: فإن لم أفعل؟ قال: تكفّ شرك عن الناس، فهو صدقةٌ منك على نفسك، يعني: الذي لا يستطيع أن يُعين الناس ولا أن ينفعهم على الأقل يكفّ شرَّه عنهم: إما أن يُعين، وإما أن يكفّ شره عن الناس، وفي بعض الروايات: تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، قال: فإن لم أستطع؟ قال: تكفّ شرك عن الناس.

والمقصود من هذا أن الإنسان يُحاسِب نفسه، وينظر في حفظ وقته بالأعمال الصالحة: بالأمر بالمعروف، وبالنهي عن المنكر، وبالدعوة إلى الله، وإعانة المسلمين والعاملين، تُعينهم على أعمالهم الطيبة، والخرقى تُعينهم على العمل، وتصنع لهم، تُعينهم على ما يقوم بحالهم، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، متفقٌ عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال أيضًا في الحديث الصحيح: والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه أخرجه مسلمٌ في "الصحيح".

فإن كان ما فيه حيلةٌ: لا يُعين، ولا ينفع أحدًا، فأقل شيءٍ يكفّ شرَّه عن الناس، يعني: هذه النهاية، فكفّ شرِّه واجبٌ مطلقًا، ولو كان يعمل الصَّالحات، لكن –يعني: النهاية- إذا كان لا خيرَ فيه للناس فالواجب أن يكفَّ شرَّه عنهم، يكون سلمًا لهم، لا يكون شرًّا عليهم، وهذا واجبٌ عليه، وإن عمل وإن نفع الناس يجب أن يكفَّ شرَّه أيضًا، يُشرع له أن يعمل وينفع الناس، ويجب عليه كفّ شره، فلا يُؤذيهم: لا بالغيبة، ولا بالنميمة، ولا بالسب، ولا بغير هذا من أنواع الأذى، يكفُّ شرَّه عنهم قولًا وعملًا، والله يقول سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، ويقول ﷺ: مَن ضار مسلمًا ضاره الله، ومَن شقَّ على مسلمٍ شقَّ الله عليه، وفي الحديث الصحيح قالوا: يا رسول الله، ما لنا بُدٌّ من مجالسنا. قال: أما إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقَّه، قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، خمسة أشياء في "الصحيحين": غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. هذا حق الطريق، سواء كان جالسًا فيه أو ماشيًا، هذا من حقِّه، نعم.

باب ما يُستحب من العتاقة في الكسوف أو الآيات

2519- حدثنا موسى بن مسعود: حدثنا زائدة بن قدامة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أمر النبي ﷺ بالعتاقة في كسوف الشمس.

الشيخ: وهكذا أمر بالصدقة عند كسوف الشمس، والتكبير، والذكر، والاستغفار، والصلاة، وعند وجود أسباب الخوف، فينبغي للمؤمن أن يجتهد في أسباب الخير وأسباب الأمن عند وجود .....، وعند وجود الخوف، وعند وجود الكسوف؛ لأنه ..... في الكسوف، وعند وجود أسباب الحرب، وأسباب تسليط الأعداء، ووجود المعاصي، وكثرة المعاصي، فالمؤمن يسعى في إطفاء أسباب الشر بالأعمال الصَّالحات: بعتق الرقاب، بالصدقة على الفقراء، بالأمر بالمعروف، بالنهي عن المنكر، بكثرة الذكر والاستغفار، يعني: عند وجود أسباب الخطر، أنت تحرص على أسباب العافية، وأسباب السعادة، وأسباب رضا الله جلَّ وعلا بعتق الرقاب، والإحسان إلى الناس، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكثرة الذكر والاستغفار، نعم.

س: .............؟

ج: عتق الرقاب يعني: عتق العبيد، نعم.

س: ما الحكمة في ذلك؟

ج: مثلما تقدم، الحكمة: أنها من أسباب تفريج الكروب وتيسير الأمور .....؛ لأن الله يُخوِّف عباده بالخسوف .....، يُخوِّف عباده حتى يلجؤوا إليه، وحتى يُسارعوا إلى طاعته، وحتى يُنفقوا مما رزقهم الله، فالذي قدر على إذهاب هذا النور قادرٌ على أن يُنزل بكم بأسًا من عنده يضركم، وقادرٌ على أن يكسف نور القلوب بسبب المعاصي، وقادرٌ على إنزال عقوباتٍ مُتعددةٍ غير الخسوف، نعم.

تابعه علي، عن الدراوردي، عن هشام.

2520- حدثنا محمد بن أبي بكر: حدثنا عثام: حدثنا هشام، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: كنا نُؤمر عند الخسوف بالعتاقة.

باب إذا أعتق عبدًا بين اثنين، أو أمةً بين الشُّركاء

2521- حدثنا علي بن عبدالله: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن سالم، عن أبيه ، عن النبي ﷺ قال: مَن أعتق عبدًا بين اثنين، فإن كان مُوسِرًا قُوِّم عليه ثم يعتق.

الشيخ: تقدم، تقدم، وأن الواجب أن يعتقه كله، لا يبقى مُشقصًا، فإذا أعتق شقصه لزمه عتق الجميع؛ لأن التبعيض يضر العبد، فإذا أعتق نصيبه منه: ربعًا، أو خمسًا، أو أقلّ، أو أكثر، لزمه إعتاقه كله، وذلك بالتقويم، يُقوَّم عليه قيمة عدلٍ، ويُلزم بتسليم القيمة للسيد، فإن عجز قُوِّم العبد قيمة العدل، واستُسعي -كما تقدم- حتى يفكَّ نفسه، نعم.

س: يقول بعض الحفاظ: إن السِّعاية مُدرجةٌ في الخبر؟

ج: لا، الصواب أنها من كلام النبي ﷺ، نعم، الصواب أنها متصلةٌ، نعم.

2522- حدثنا عبدالله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ قال: مَن أعتق شركًا له في عبدٍ، فكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد؛ قُوِّم العبد عليه قيمة عدلٍ، فأعطى شُركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق.

2523- حدثنا عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله ﷺ: مَن أعتق شركًا له في مملوكٍ، فعليه عتقه كله إن كان له مالٌ يبلغ ثمنه، فإن لم يكن له مالٌ يُقوَّم عليه قيمة عدلٍ، فأعتق منه ما أعتق.

حدثنا مسدد: حدثنا بشر، عن عبيدالله. اختصره.

2524- حدثنا أبو النعمان: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: مَن أعتق نصيبًا له في مملوكٍ، أو شركًا له في عبدٍ، وكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل فهو عتيقٌ.

قال نافع: وإلا فقد عتق منه ما عتق.

قال أيوب: لا أدري: أشيءٌ قاله نافع، أو شيءٌ في الحديث؟

2525- حدثنا أحمد بن مقدام: حدثنا الفضيل بن سليمان: حدثنا موسى بن عقبة: أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يُفتي في العبد أو الأمة يكون بين شُركاء، فيعتق أحدُهم نصيبَه منه، يقول: قد وجب عليه عتقه كله، إذا كان للذي أعتق من المال ما يبلغ يُقوَّم من ماله قيمة العدل، ويُدفع إلى الشُّركاء أنصباؤهم، ويُخلى سبيل المعتق. يُخبر ذلك ابن عمر، عن النبي ﷺ.

ورواه الليث، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق، وجويرية، ويحيى بن سعيد، وإسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ مُختصرًا.

باب إذا أعتق نصيبًا في عبدٍ وليس له مالٌ

استُسعي العبد غير مشقوقٍ عليه على نحو الكتابة

2526- حدثنا أحمد ابن أبي رجاء: حدثنا يحيى بن آدم: حدثنا جرير بن حازم: سمعتُ قتادة قال: حدثني النضر بن أنس بن مالك، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: مَن أعتق شقيصًا من عبدٍ.

2527- حدثنا مسدد: حدثنا يزيد بن زريع: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة : أن النبي ﷺ قال: مَن أعتق نصيبًا -أو شقيصًا- في مملوكٍ فخلاصه عليه في ماله، إن كان له مالٌ، وإلا قُوِّم عليه، فاستُسعي به غير مشقوقٍ عليه.

تابعه حجاج بن حجاج، وأبان، وموسى بن خلف، عن قتادة. اختصره شعبة.

الشيخ: قد تقدم الكلام على هذا، وأنه يُستسعى في تسديد قيمة الأشخاص الباقية، فإذا كان بين شخصين أو أكثر، وأعتق أحدهم وهو عاجزٌ، نفذ العتق في نصيبه، وبقيت أنصباء الآخرين رقًّا، فيُقوَّم ويُستسعى، فإذا كان المعتق النصف قُوِّم عليه، واستُسعي بالنصف الباقي، فإذا كانت قيمته عشرة آلاف استُسعي في خمسةٍ، فيُقال لسيده: إما أن تستعمله بأجرةٍ فتستوفي، وإما أن تدعه يطلب الرزق فيعمل ويخدم عند الناس: يعمل بنَّاءً، يعمل حدَّادًا، نجارًا، على حسب صنعته، ويُؤدي إلى سيده على نحو الكتابة، فإذا أدَّى أعتق، وإن عجز بقي عنده كالمكاتَب، نعم.

س: يلزم السيد .....؟

ج: نعم، يلزمه.

باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، ولا عتاقةَ إلا لوجه الله

وقال النبي ﷺ: لكل امرئٍ ما نوى، ولا نيَّة للناسي والمخطئ.

الشيخ: مقصود المؤلف رحمه الله: لو قال: هي طالقٌ إن كلمتُ فلانًا. ونسي وكلَّمه ما يقع؛ لأن هذا لا نيةَ له، والله عفا عن النسيان، أو قال: عبده حرٌّ إن كلَّم فلانًا. فكلَّمه وهو ناسٍ، أو إن دخلتُ بيت فلانٍ، فدخله ناسيًا لا يعتق، أو مُخطئًا، ما درى أنه بيته، أو ما درى أنه هو، اشتبه عليه، فلا: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].

س: وإن كان من قِبَل المطلَّقة؟ قال: إن كلَّمتِ فلانًا؟

ج: كذلك، وهي كذلك إن فعلتْ ناسيةً ما يقع.

2528- حدثنا الحميدي: حدثنا سفيان: حدثنا مسعر، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلم.

الشيخ: وهذا من رحمة الله، فقد يُوسوس في الطلاق، أو في العتق، أو في الإيمان بالجنة، أو في النار، أو في غير هذا من شؤون الدين، فالواجب أن يُحارب ذلك بالقوة، ويُجاهد ذلك، ولا يضره ذلك، لا يسترسل؛ ولهذا في الحديث الصحيح: ما زال الناس يتساءلون فيقولون: هذا الله خلق كل شيءٍ، فمَن خلق الله؟ قال: فمَن وجد ذلك منكم فليقل: آمنتُ بالله ورسله .....، وفي اللفظ الآخر: وليستعذ بالله.

فالشيطان له مجالاتٌ كثيرةٌ في إرضاء الناس والوسوسة، والله سبحانه أرغم أنفه بالتجاوز عمَّا يقع للمسلم من الوساوس في الصدر حتى ينفذ: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم.

والمؤمن يجب عليه الجهاد: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، يجب جهاد العدو، فلا ينفذ ما يقول له ويُملي عليه، وإذا كان في الدين يقول: آمنتُ بالله ورسله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وينتهي، ولا يسترسل مع عدو الله، وإذا كان في صلاته تعوَّذ بالله من الشيطان أيضًا، وتفل عن يساره ثلاث مرات، وقال: أعوذ بالله من الشيطان، كما أوصى النبي ﷺ عثمان بن أبي العاص بذلك، لما قال: يا رسول الله، إن الشيطان قد لبَّس عليَّ صلاتي. فقال له إذا وجد ذلك: فانفث عن يسارك ثلاث مرات، واستعذ بالله من الشيطان، قال: ففعلتُه فذهب عني ما أجد، وهكذا في صومه، وهكذا في طلاقه، وهكذا في غير ذلك يحذر، وهكذا في عائلاته، وهكذا في جميع الأمور.

هذه الوساوس التي يُبتلى بها الإنسان عليه أن يُحاربها بالتعوذ بالله من الشيطان، والشغل، يشتغل بشيءٍ آخر، يشغل نفسه بشيءٍ آخر: بذكر الله، والتسبيح، والتهليل، والاستغفار، والكلام مع أهله في شؤون البيت حتى تذهب عنه هذه الوساوس، وإن كان في الصلاة واسترسل معه نفث عن يساره ثلاث مرات، وقال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ثلاث مرات.

والمقصود أنه عدوٌّ، والله يقول: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200]، فهذه الاستعاذة طاعةٌ لله، وطاعةٌ لرسوله ﷺ، ومن أسباب السلامة لك يا عبدالله من هذا العدو المبين في أهلك، وفي دينك، وفي إخوانك، وفي جميع الأحوال هو عدوك، يحاول أن يضرَّك ما أمكنه ذلك -فهو لا يتأخر- في دينك، أو في أهلك، أو في جيرانك، أو في أصحابك، أو في زملائك، أو في غيرهم، فهو حريصٌ على إدخال الشرور عليك من كل وجهٍ: قليل أو كثير، لكن عليك أن تُحاربه بالاستعاذة بالله من الشيطان، والحذر من وساوسه، ومن أسبابها أيضًا، والبُعد عن مجالس السوء، وعن المعاصي والشُّرور.

يقول ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه -وأظنه ذكره في "الإغاثة" أو في غيرها- أن الشيطان له عقباتٌ يقف على الإنسان فيها، سبع عقباتٍ:

العقبة الأولى: الشرك، فيدعوه إليه، وهو أول شيءٍ، وأهم شيءٍ عنده أن يدعوه إلى الشرك والكفر بالله، فإن عجز ووفق اللهُ العبدَ للسلامة انتقل إلى العقبة الثانية، وهي: البدعة، فيُزين له أنواع البدع لعله يُدركه، فإن سلم من ذلك وعافاه الله من البدع انتقل إلى العقبة الثالثة، وهي: الكبائر -كبائر الذنوب- فيدعوه إلى الكبائر، مثل: الزنا، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والربا، وأنواع الكبائر، فإن عجز انتقل إلى العقبة الرابعة: المعاصي الصغائر التي ليس فيها وعيدٌ، فإن يَئِسَ ولم يتيسر له أن يُوافقه على المعصية انتقل إلى العقبة الخامسة، وهي: الدعوة إلى المكروهات والأشياء التي تُضعفه عن العمل، وتشغله عن العمل الصالح من مكروهات الأعمال والأقوال، فإن فكَّه الله وسلَّمه من هذه الاستجابة وابتعد عن المكروهات انتقل إلى العقبة السادسة، وهي: إشغاله بالمفضول عن الفاضل، فيشغله بالأعمال المفضولة عن الأعمال التي هي أفضل، مثلًا: يقول له: اجلس في بيتك؛ صلِّ وسبِّح وهلل، ولا تطلب العلم، ولا تأمر بالمعروف، ولا تنهى عن المنكر، ابقَ في بيتك؛ سبِّح وهلل فقط. حتى يشغله عن طلب العلم، وعن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعن كسب الرزق، فإذا عجز ووفق اللهُ العبدَ واشتغل بالفرائض، واجتهد في الخيرات، وشمَّر في طلب الفضائل وترك المفضولات، انتقل معه إلى العقبة السابعة، وهي: أن يشغله بأن يُسلط الناس عليه: يُؤذونه، ويُعطلون سيره بأنواع الأذى، فليجتهد في السلامة من ذلك، والعفو والصفح، وعدم الالتفات إلى الناس، والتسامح؛ حتى لا يُشغل بهم.

هذه عقباتٌ واقعةٌ كما ذكرها الحافظ رحمه الله، فينبغي للمؤمن أن يعدَّ لها عُدَّته، وأن يحذر أن يُصيبه عدو الله في شيءٍ منها، والتوفيق بيد الله، لكن يجتهد ويسأل ربَّه الإعانة والتوفيق، نعم.

س: ينفث وهو في الصلاة؟

ج: وهو في الصلاة، نعم.

س: ولا يضره الالتفات؟

ج: ما يضرُّ، الالتفات يسيرًا ما يضرُّ، نعم.

2529- حدثنا محمد بن كثير، عن سفيان: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي قال: سمعتُ عمر بن الخطاب ، عن النبي ﷺ قال: الأعمال بالنية، ولامرئٍ ما نوى، فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدنيا يُصيبها، أو امرأةٍ يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه.

الشيخ: هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، بدأ به المؤلف البخاري كتابه، وذكره في مواضع سبعةٍ، كما ذكره غير واحدٍ في كتابه، وهو حديثٌ عظيمٌ، عليه مدار الأعمال، تدخل فيه أبواب الدين كلها، وهو متفقٌ عليه من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر، وهو غريبٌ من هذا الوجه، لم يثبت إلا من هذا الطريق، ورُوِيَ عن جماعةٍ من الصحابة من طرقٍ أخرى، لكن ضعيفةٌ، فلم يثبت إلا من هذا الطريق، وهو غريبٌ في نهايته، متواترٌ بالنسبة إلى روايته عن يحيى بن سعيد، فعن يحيى بن سعيد انتشر، وروته الأمم الكثيرة من الناس عن يحيى بن سعيد الأنصاري، لكن يحيى انفرد به عن محمد بن إبراهيم، ومحمد بن إبراهيم انفرد به عن علقمة بن وقاص، وعلقمة انفرد به عن عمر، وكلهم ثقاتٌ أئمةٌ، وهو غريبٌ في أساسه، متواترٌ بالنسبة إلى ما بعد يحيى بن سعيد الأنصاري رضي الله عن الجميع ورحمهم.

وهو داخلٌ في عباداتك ومُعاملاتك وسائر تصرفاتك، حتى النوم، فالنوم بنية الخير تُؤجر عليه، والكسب بنية الخير تُؤجر عليه: الأعمال بالنيات، تعود المباحات طاعات بالنية الصالحة، نعم.

س: يكون من قبيل الغرابة النِّسبية؟

ج: بالنسبة إلى يحيى ومَن بعده، وإلا فهو غريبٌ بالنسبة إلى أصله.

باب إذا قال رجلٌ لعبده: هو لله، ونوى عتقه، والإشهاد في العتق

2530- حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير، عن محمد بن بشر، عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي هريرة : أنه لما أقبل يريد الإسلام ومعه غلامه ضلَّ كل واحدٍ منهما من صاحبه، فأقبل بعد ذلك وأبو هريرة جالسٌ مع النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: يا أبا هريرة، هذا غلامك قد أتاك، فقال: أما إني أُشهدك أنه حرٌّ. قال: فهو حين يقول:

يا ليلةً من طولها وعنائها على أنها من دارة الكفر نجَّت

2531- حدثنا عبيدالله بن سعيد: حدثنا أبو أسامة: حدثنا إسماعيل، عن قيس، عن أبي هريرة قال: لما قدمتُ على النبي ﷺ قلتُ في الطريق:

يا ليلةً من طولها وعنائها على أنها من دارة الكفر نجَّت

قال: وأبق مني غلامٌ لي في الطريق. قال: فلما قدمتُ على النبي ﷺ بايعتُه، فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام، فقال لي رسول الله ﷺ: يا أبا هريرة، هذا غلامك، فقلت: هو حرٌّ لوجه الله، فأعتقته.

الشيخ: هذه منقبةٌ لأبي هريرة ، كافأه على الإباق بالعتق، ولم يُعاقبه، بل أعتقه لله، يرجو ما عند الله، فقابل السيئة بالحسنة: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، فهذا من مناقبه وفضله رضي الله عنه وأرضاه.

وفيه دلالةٌ على أنه لو قال: "لوجه الله" يريد العتق فهو عتيقٌ، لكن لا يثبت عليه ذلك إلا بإقراره، أو بالبينة، إذا أقرَّ، أو بشاهدي عدلٍ أنه قال ذلك. نعم.

قال أبو عبدالله: لم يقل أبو كريب، عن أبي أسامة: حرٌّ.

الشيخ: ومعنى "يا ليلة" يعني: يا ليلة عظيمة، تَعِبَ فيها، ولكنها من رحمة الله، نعمة من الله، نجَّته من بلاد الكفر، ويسَّر الله له بها الوصول إلى النبي عليه الصلاة والسلام، نعم.

2532- حدثنا شهاب بن عباد: حدثنا إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل، عن قيس قال: لما أقبل أبو هريرة ومعه غلامه، وهو يطلب الإسلام، فضلَّ أحدهما صاحبه بهذا، وقال: أما إني أُشهدك أنه لله.

س: ..............؟

ج: ما أعظمها من ليلةٍ! أو: يا لها من ليلةٍ عظيمةٍ! يتعجب منها.

س: يعني: ليس المقصود النِّداء؟

ج: لا، لا، المقصود التَّعجب.