باب أول وقت العصر وآخره في الاختيار والضرورة

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ جديدٍ من دروس "المنتقى".

ضيف اللِّقاء هو سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.

مع مطلع هذا اللقاء نُرحب بسماحة الشيخ، فأهلًا ومرحبًا يا سماحة الشيخ.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: وقف بنا الحديثُ سماحة الشيخ حفظكم الله عند باب أول وقت العصر وآخره في الاختيار والضَّرورة، ووقف بنا الحديثُ الحقيقة عند مجموعةٍ من الأسئلة:

س: ما معنى "قرن الشيطان" يا سماحة الشيخ؟

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فقرن الشيطان هو اقترانه مع الشمس إذا طلعت، الرسول ﷺ نهى عن ذلك حتى ترتفع الشمس، ويزول اقترانه لها، فإنها حينئذٍ يتصور في نفسه أنه يُصلي له، والمسلم لا يُصلي إلا لله وحده ، فالمشروع للمؤمن حينئذٍ ألا يتطوع حتى ترتفع الشمسُ قيد رمحٍ، كما جاء به الحديث عن النبي ﷺ: أنه أمر الناس، أمر عمرو بن عبسة وغيره ألا يُصلي حتى ترتفع الشمسُ قيد رمح، ولا عليه الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، هذا الواجب على المؤمن والمؤمنة: ألا يُصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنها تطلع بين قرني شيطان، لكن يُستثنى من هذا ذوات الأسباب على الراجح، فلو دخل في آخر النهار، أو دخل المسجد قبل طلوع الشمس فإنه يُصلي تحية المسجد على الراجح؛ لأنه حينئذٍ صلى لأجل دخول المسجد، لا للتَّشبه بأعداء الله، بل لها سبب دعا إليها، وهو دخول المسجد، وسنة الوضوء كذلك، وسنة الطواف؛ لو طاف بعد العصر هذه غير داخلةٍ في النَّهي.

س: سماحة الشيخ، في وقتنا الحاضر يوجد ساعة اسمها ساعة العصر، تُحدد الأوقات في مدنٍ ودولٍ عديدةٍ، ما رأيكم فيها؟

الشيخ: إذا جربت وعرف أنها مضبوطة لا بأس، المهم التّجارب، إذا عرف أنها مضبوطة، وأنَّ الوقت الذي تحدد باختبارها صحيح؛ لا بأس.

س: ما معنى قول الرسول ﷺ: مَن أدرك ركعةً من العصر فقد أدرك الصلاة؟ وهل هو صحيح؟

الشيخ: نعم، حديث صحيح، مَن أدرك العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها في وقتها، لو أنَّ إنسانًا مثلًا تساهل أو نائم، ولما توضأ واستعدَّ للصلاة وكبَّر أدرك ركعةً فقط، ثم غابت الشمسُ؛ أدركها في وقتها، لكن إن كان مُتساهلًا أَثِمَ، وإن كان عن نومٍ فلا حرج عليه؛ لأنَّ النائم معذور، النبي ﷺ يقول: مَن نام عن الصلاة أو نسيها فليُصلها إذا ذكرها، لا كفَّارةَ لها إلا ذلك، فإن صلَّاها قبل غروب الشمس ولو ركعة واحدة أدرك الوقت، وإن صلاها بعد غروب الشمس لأجل النَّوم أو النِّسيان فلا حرج عليه؛ لأنه معذور: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وقد ثبت عنه ﷺ في عام الخندق أنَّ الكفَّار شغلوه عن صلاة العصر فلم يُصلها إلا بعد المغرب، وفي بعض الأيام شغلوه عن الظهر والعصر فلم يُصلهما إلا بعد المغرب عليه الصلاة والسلام.

س: دلَّت السنةُ على أنَّ وقت صلاة العصر يمتد إلى أن يكون ظلُّ كل شيءٍ مثليه، والحديث السابق الذي مرَّ معنا يدل على أنَّ مَن أدرك ركعةً قبل غروب الشمس فقد أدرك العصرَ، هل هناك تعارض؟

الشيخ: ما في تعارض، ظل كل شيءٍ مثليه، حتى يكون ظلُّ كل شيءٍ مثليه، هذا وقت الاختيار، وفي اللفظ الآخر: "إلا أن تصفرَّ الشمسُ"، هذا وقت الاختيار، وما بعده يُسمَّى: وقت الضَّرورة، فلا يجوز تأخير صلاة العصر إلى أن تصفرَّ الشمسُ، وإلى أن يصير ظل كل شيءٍ مثليه، يُقارب اصفرار الشمس، لا يجوز التأخير إلى ذلك، لكن لو فعل ذلك من غير عمدٍ فقد أدرك الوقت، إذا أدرك ركعةً أو أكثر قبل أن تغيب الشمسُ أدرك وقتها، لكن إن كان تأخيره عن غير عذرٍ أثم، وإن كان عن عذرٍ لم يأثم، كالنَّاسي والنَّائم.

س: أخيرًا سماحة الشيخ، أقول في هذا السؤال: ينام الكثيرُ بعد تناولهم وجبة الغداء إلى قريب المغرب، ومنهم مَن ينامون إلى ما بعد المغرب، وهذا طبعًا شيء يُؤسف له، وليت الأمر يقتصر على ذلك، بل هذا ديدنهم في كل وقتٍ، هل من نصيحةٍ إلى هؤلاء؟

الشيخ: هذا منكر عظيم لا يجوز، ويحذر النوم عن صلاة العصر، أو التَّشاغل عنها بشيءٍ، إذا فرغ من طعامه يُبادر إلى صلاة العصر، وليس له أن ينام عن صلاة العصر، كما أنه ليس له أن ينام عن صلاة الفجر، فالواجب على المؤمن أن يعتني بذلك بوجود الساعة في الفجر، أو إيقاظ أهله له، المقصود لا بدّ [أن] يعتني بأسبابٍ تُعينه على صلاة الفجر في جماعةٍ، وهكذا إذا جاء من عمله بعد الظهر وتناول الطعام لا يستغرق بالنوم، بل يُعالج بقية الوقت في راحةٍ ليس فيها نوم يمنعه من الصلاة، وإذا كان فراغه من أكله عند أذان العصر فالواجب البدار بالصلاة، ثم يكون النومُ بعد العصر، الاستراحة بعد العصر، ولا يجوز التَّساهل في هذا الأمر.

يقول ﷺ: مَن ترك صلاةَ العصر فقد حبط عمله، الأمر عظيم، ويقول ﷺ: مَن فاتته صلاةُ العصر فكأنما وتر أهله وماله، فأمرها عظيم، وهي الصلاة الوسطى.

وهكذا جميع الناس من الرجال والنساء، يجب على الجميع العناية بصلاة العصر، وأن تُصلَّى في وقتها، الرجل يُصليها مع الجماعة في المسجد، يجب عليه أن يخرج إليها، وأن يُصليها مع الجماعة، والمريض والمرأة يُصليانها في الوقت في البيت؛ لأنهما معذوران: المرأة تُصلي في بيتها، والمريض معذور، أما الرجل الذي قد عافاه الله فالواجب عليه أن يُبادر بفعلها في الجماعة، وألا يشغله نومٌ أو غيره، لكن إذا فرغ من طعامه فإنه يتشاغل بالشيء الذي يُعينه على أداء الصلاة في جماعةٍ، ولا يتساهل بأن يأخذه النومُ، بل يستعد لصلاة العصر حتى يُصليها مع المسلمين، ثم تكون راحتُه بعد ذلك، الأمر فيه سعة والحمد لله.

 

بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِهَا وَتَأْكِيدِهِ مَعَ الْغَيْمِ

- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْعَوَالِي، فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.

وَلِلْبُخَارِيِّ: وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ.

وَكَذَلِكَ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد مَعْنَى ذَلِكَ.

- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْعَصْرَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نُرِيدُ أَنْ نَنْحَرَ جَزُورًا لَنَا، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَهَا، قَالَ: نَعَمْ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْنَا مَعَهُ، فَوَجَدْنَا الْجَزُورَ لَمْ تُنْحَرْ، فَنُحِرَتْ، ثُمَّ قُطِّعَتْ، ثُمَّ طُبِخَ مِنْهَا، ثُمَّ أَكَلْنَا قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

- وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ نَنْحَرُ الْجَزُورَ، فَنَقْسِمُ عَشْرَ قِسَمٍ، ثُمَّ نَطْبُخُ فَنَأْكُلُ لَحْمَهُ نَضِيجًا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

- وَعَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ الْغَيْمِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَاتَهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها تدل على شرعية العناية بالعصر والتبكير بها، وأنه ﷺ كان يُصليها والشمس بيضاء نقية، فالسنة للأئمة ولمن يُصلي في بيته لمرضه أو للنساء التَّبكير لصلاة العصر، كما كان النبيُّ ﷺ يُصلي العصر والشَّمس بيضاء نقية.

وذكر في الأحاديث أنه تُذبح الجزور بعد الصلاة، وتُقسم، ثم يُطبخ منها ما يُطبخ، ثم يأكلون لحمًا نضيجًا، وهكذا مَن كان يُصلي في بيته لمرضه، وهكذا النساء في البيت، السنة التَّبكير بالعصر والشمس بيضاء نقية، بعد الأذان بيسيرٍ: كربع ساعة، أو ثلث ساعة، ونحو ذلك، تُصلى صلاة العصر، كما كان النبيُّ يفعل عليه الصلاة والسلام: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وحتى يتيسر لمن يستريح وقت طيب؛ لأن أيام نهار الصيف طويلة، ولياليه قصيرة، فالناس قد يحتاجون للراحة بعد العصر، فمن رحمة الله جلَّ وعلا أن شرع لهم التَّبكير بالعصر؛ حتى يتسع لهم الوقت فيما بين العصر والمغرب ليستريحوا، أو يقوموا بأعمال مهمة فيما بين ذلك.

س: يدل الحديثُ على فضل المبادرة لصلاة العصر، ولكن ما مقدار المبادرة في السَّاعات الحديثة؟

الشيخ: بعد الأذان بربع ساعة، ثلث ساعة، هذا هو المعروف، لا يحبس الناس في المسجد، بعد الأذان: ربع ساعة، ثلث ساعة، هذا هو المناسب في التَّعجيل؛ حتى يأتي المصلون فيُصلوا تحية المسجد، أو يُصلوا قبل العصر أربع ركعات كما في الحديث: رحم الله امرأً صلَّى أربعًا قبل العصر، يُستحب أن يُصلي قبلها أربعًا، فالإمام يتحرى مجيء الناس بعد الأذان وأداءهم الركعات المشروعة، فإذا مضى ربع ساعة وثلث ساعة هذا مناسب، أو ما يُقاربه.

بَابُ بَيَانِ أَنَّهَا الْوُسْطَى وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا

- عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ.

- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنَّا نَرَاهَا الْفَجْرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ يَعْنِي: صَلَاةَ الْوُسْطَى. رَوَاهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زياداته على مُسْنَدِ أَبِيهِ.

- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّت الشَّمْسُ أَو اصْفَرَّتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، أَوْ حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ.

- وَعَنْ عبدالله بنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَسَمَّاهَا لَنَا أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ.

437- وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّه، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّه، فَنَزَلَتْ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَالَ رَجُلٌ: هِيَ إذًا صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَقَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ، وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

الشيخ: كل هذه الأحاديث تدل على أنَّ الوسطى هي صلاة العصر؛ لقوله جلَّ وعلا: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]؛ لأنَّ قبلها صلاتين نهاريتين: الفجر والظهر، وبعدها صلاتان ليليتان: المغرب والعشاء. وقيل: معنى الوسطى يعني: الفُضلى في الفضل.

وبكل حالٍ فهي أفضل الصَّلوات، وهي الوسطى، وهي صلاة العصر، فالواجب العناية بالصلوات كلها، مع العناية بالصلاة الوسطى؛ لأنَّ الله قال: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فوجب على المكلفين الحفاظ على الصَّلوات كلها، والعناية بها، والحذر من إضاعتها والتَّثاقل عنها؛ حذرًا من مُشابهة المنافقين، قال الله في المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]، فالله جلَّ وعلا حذَّر من صفاتهم وأخلاقهم.

فالواجب على المسلم أن يُحافظ على الصَّلوات كلها، وأن يُواظب عليها في أوقاتها، وأن يخص العصر بمزيد عنايةٍ؛ لقوله ﷺ: مَن فاتته صلاةُ العصر فكأنما وتر أهله وماله، وفي اللفظ الآخر: مَن ترك صلاة العصر حبط عمله.

ولما شغله المشركون يوم الأحزاب -في غزوة الأحزاب- سنة خمسٍ من الهجرة حين حاصر الكفارُ المدينة، واشتد الأمرُ على المسلمين، وطال الحصارُ بينهم وبين أعداء الله، شغلوه في بعض الأيام عن صلاة العصر، فقال: ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارًا؛ شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، حتى غابت الشمسُ، فصلاها بعد المغرب، ثم صلى بعدها المغرب.

فهذا يدل على جواز الدُّعاء على الكفَّار إذا آذوا المسلمين، كما دعا عليهم ﷺ قال: ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارًا، ودليل على فضل صلاة العصر، وأن شأنها عظيم، ويدلنا أيضًا على أن مَن شُغل عنها بنومٍ أو غيره فإنه يقضيها بعد المغرب، وهكذا بقية الصَّلوات؛ مَن شُغل عن الفجر صلَّاها بعد طلوع الشمس، ومَن شُغل عن الظهر صلاها في وقت العصر، وهكذا، لكن الواجب أن يُحافظ عليها، وأن يتَّقي الله فيها، وألا يُشغل عنها بنومٍ ولا غيره، هذا هو الواجب على جميع المكلفين: أن تُصلى في الوقت، لكن مَن نام عنها أو نسيها فالله جلَّ وعلا أرأف بعباده وأرحم، فإنه يُصليها متى ذكرها، أو متى استيقظ، والمريض له الجمع بين الصَّلاتين: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وهكذا المسافر، هذا من رحمة الله جلَّ وعلا وتيسيره .

- فروى عبدالله بن عمر: أنَّ رسول الله ﷺ قال: الذي تفوته صلاةُ العصر فكأنما وتر أهله وماله رواه الجماعة.

- وَعَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا، فَقَالَتْ: إذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا، فَأَمْلَتْ عَلَيَّ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ.

- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنْهَا، فَنَزَلَتْ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَقَالَ: إنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْن،ِ وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْنِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى قَالَ: هِيَ الظُّهْرُ؛ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَجِيرِ، وَلَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إلَّا الصَّفُّ وَالصَّفَّانِ، وَالنَّاسُ فِي قَائِلَتِهِمْ، وَفِي تِجَارَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وقد احتجَّ بهما مَن يرى تعجيل الظهر في شدة الحرِّ.

الشيخ: هذه الأحاديث تدل على أنَّ صلاة العصر هي الصلاة الوسطى، وأما القول بأنها الظهر فهو قول ضعيف، والصواب أنها صلاة العصر؛ ولهذا أملت عائشةُ على كاتبها: "وصلاة العصر" من باب الإيضاح أنها سمعت النبيَّ يقرأها كذلك: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، صلاة العصر، من باب الإيضاح والبيان، ثم إنَّ الصحابة لما دوَّنوا المصحف على العرضة الأخيرة ذكروا الآية هكذا: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ، فكان ذكرُ صلاة العصر من باب التَّفسير والإيضاح، والعرضة الأخيرة في رمضان في السنة الأخيرة، فدلَّ ذلك على أنَّ المقروء هو الصلاة الوسطى، وأنَّ صلاة العصر من باب الإيضاح، ومن باب التفسير، ثم نسخ الله لفظها وبقي حكمها، وأنَّ المراد بالصلاة الوسطى هي صلاة العصر؛ لأنَّ قبلها صلاتين نهاريتين: الظهر والفجر، وبعدها صلاتان ليليتان: المغرب والعشاء، والواجب على المؤمن الحفاظ على الجميع، على الصلاة كلها، والحرص عليها، وعدم التَّشاغل بما يشغله عنها، هذا هو الواجب على جميع المسلمين، رجالًا ونساءً.

س: ذكر الشارحُ رحمه الله تعالى سبعة عشر قولًا في تحديد الصلاة الوسطى، مع أنَّ الحديث نصَّ على أنها العصر؟

الشيخ: الأمر واضح، والأقوال التي غيره ليست بشيءٍ، والصواب أنها صلاةُ العصر.

س: إذا حبس العدو المسلمين عن الصلاة كيف يُصلونها؟

الشيخ: يُصلونها على حسب حالهم، حسب الطاقة، مثلما صلَّاها النبيُّ لما وقف المشركون، يجعلهم جماعتين، ويُصلي بطائفةٍ، ثم تذهب تحرس، ثم يُصلي بالطائفة الأخرى، وأما إن كانوا في جهة القبلة صلَّى بهم جميعًا، وركع بهم جميعًا، ثم إذا سجد يسجد معه الصفُّ الأول، ويبقى الصفُّ الثاني يحرس واقفًا، فإذا قام الصفُّ الأول سجد الصفُّ المؤخر، إذا دعت الحاجةُ إلى هذا، وإن لم يستطيعوا أخَّروا الصلاة لا بأس، لا بأس أن يُؤخروها كما فعل يوم الأحزاب، إذا هاجمهم العدو ولم يستطيعوا أن يُصلوا بدأوا بالقتال، ولو أخَّروا الصلاة عن وقتها عذر، هذا هو الصواب.

فلو هاجمهم العدو وشغلهم عن العصر أخَّروها إلى المغرب، ولا حرج في ذلك، أو هاجمهم في الظهر أخَّروها إلى العصر.

المقصود أنهم إذا استطاعوا صلّوها في الوقت على حسب الطاقة: جماعة أو جماعتين، أما إذا لم يستطيعوا؛ لشدة القتال وهجوم العدو وعدم تمكينه للمسلمين من الصلاة؛ فإنهم يُؤخرونها ويُقابلون العدو؛ حتى لا يتغلب عليهم العدو؛ ولهذا لما اشتدَّ القتالُ يوم الأحزاب أخَّرها النبيُّ ﷺ، أخَّر العصر حتى صلَّاها بعد المغرب.

س: معنى ذلك أنه يدل على جواز تأخير الصلاة عن وقتها في يوم الأحزاب؟

الشيخ: نعم، هذا هو الصواب.

س: الحكمة من النَّسخ في القرآن والسنة؟

الشيخ: الحكمة رحمة الله لعباده، وأنَّ الله جلَّ وعلا هو الرؤوف الرحيم، والحكيم العليم، وهو ينسخ ما يشاء: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]، وهو الحكيم العليم ينسخ ما يشاء، ويُبقي ما يشاء جلَّ وعلا، له الحكمة البالغة .

بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ

- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ إذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ.

- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ -أَوْ عَلَى الْفِطْرَةِ- مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ حَتَّى تَشْتَبِكَ النُّجُومُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

- وَعَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ فِيهَا بِطُولَى الطُّولَيينِ؟! رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَزَادَ عَنْ عُرْوَةَ: بِطُولَى الطُّولَيينِ الْأَعْرَافِ.

وَلِلنَّسَائِيِّ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ فِيهَا بِطُولَى الطُّولَيينِ: المص.

وقد سبق في بيان امتداد وقتها إلى غروب الشَّفق في أحاديث عدة.

الشيخ: وهذا كله يدل على أنَّ السنة التَّبكير بالمغرب، وهذا هو السنة، إذا غابت الشمسُ فالسنة التَّبكير بها، كان النبي ﷺ إذا غابت الشمسُ صلَّى مُبكرًا، وكان الصحابةُ يُصلون ركعتين بعد الأذان، ثم يُقيم النبيُّ ﷺ الصلاة بعد صلاة الركعتين، فالمعنى أنه يُؤخرها قليلًا بعد الأذان، ثم يُقيم الصلاة، وربما قرأ فيها بالسور الطويلة: قرأ مرة بالمص، وهي طولى الطوليين؛ لأنَّ الطوليين: الأعراف والأنعام، وهي أطول من الأنعام.

وهذا لعله قرأ بها مرة، كما قال زيد، وكان الغالبُ عليه الصلاة والسلام أن يقرأ في هذا قصار المفصل، هذا هو الغالب؛ لأنه وقت ضيق، العشاء منها قريب، فالغالب: كان يقرأ بقصار المفصل، وربما قرأ فيها بطوال المفصل، وقرأ فيها مرة بالطور وكتاب مسطور، كما في رواية جبير بن مطعم، ومرة قرأ فيها بالمرسلات، تقول أم هشام: أنها كانت تسمع النبيَّ ﷺ يقرأ في المغرب في آخر حياته بالمرسلات، فدلَّ على أنه لا بأس أن يقرأ في المغرب بالمرسلات والطور وعم، وما أشبه ذلك، ولكن الأغلب يكون بالقصار: كالقارعة والعاديات والشمس وضحاها والليل إذا يغشى، هذا هو الأكثر.

س: قراءة سورة الأعراف كاملة قد تشقّ؟

الشيخ: يقرأها في الركعتين، قسمها في ركعتين عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا نادر، الظاهر أنه لم يحفظ عنه إلا مرة واحدة عليه الصلاة والسلام؛ لبيان الجواز.

س: المراد بقصار المفصل؟

الشيخ: ما كان من السور القصيرة في جزء عم.

س: بعض الأئمة في صلاة المغرب بمجرد أن ينتهي المؤذنُ من الأذان يأمره بالإقامة؟

الشيخ: لا، الأفضل ألا يعجل؛ حتى يُصلي الناس ركعتين ويتلاحق الناس، عشر دقائق أو حولها؛ حتى يتلاحق الناس؛ ولهذا كان الصحابةُ يُصلون بعد الأذان ركعتين، والرسول يقول: بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، لمن شاء، ويقول ﷺ: صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم يقول في الثالثة: لمن شاء، فدلَّ على أنها تُؤخر بعض الشيء حتى يُصلي الناسُ ما تيسر، وإذا صلَّى ركعتين حسن وكفى والحمد لله.

المقدم: شكر الله لكم يا سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.