تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ..}

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 103].

يقول تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ أي: الرسل المتقدّم ذكرهم: كنوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب -صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين- مُوسَى بِآيَاتِنَا أي: بحُججنا ودلائلنا البينة إِلَى فِرْعَوْنَ، وهو ملك مصر في زمن موسى، وَمَلَئِهِ أي: قومه، فَظَلَمُوا بِهَا أي: جحدوا وكفروا بها، ظلمًا منهم وعنادًا، وكقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل:14] أي: الذين صدّوا عن سبيل الله وكذَّبوا رسله، أي: انظر يا محمد كيف فعلنا بهم؟ أغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه.

الشيخ: والمقصود من هذا العِظة للباقين والآتين بعدهم: أنَّ هذا الملك الطَّاغي مع قوته وكثرة جنده أغرقه الله وجنده في لحظةٍ واحدةٍ بعد الإملاء الكثير والإمهال الطويل، أمهلهم الله وأملى لهم فاستمرُّوا في طُغيانهم وكفرهم وعنادهم، فأخذهم الله أخذ عزيزٍ مُقتدرٍ.

أمر اللهُ موسى فخرج ببني إسرائيل إلى الشام، وتبعهم فرعون بجنوده لقتالهم، فلمَّا وصل البحر فلق اللهُ البحرَ لموسى، وجعله اثني عشر طريقًا يبسًا، فدخله موسى وجنوده من بني إسرائيل، فلمَّا انتهوا من البحر خارجين إذا فرعون وجنوده قد تكاملوا في البحر داخلين لاحقين موسى وأصحابه لقتالهم، فأطبق اللهُ عليهم البحر، هؤلاء قد دخلوا كلّهم، وأشرف أوَّلهم على الخروج، وقوم موسى قد خرجوا جميعًا ونجوا، وأطبق اللهُ البحرَ على فرعون وجنده، وهلكوا عن آخرهم في لحظةٍ.

هذه من آيات الله العظيمة: بحر قائمٌ يجعله الله اثني عشر طريقًا، فالماء قائمٌ كأنَّه جبلٌ، والأرض يبس، حتى سلك هؤلاء، ودخل هؤلاء، هذه من آيات الله العظيمة: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، نسأل الله العافية من قسوة القلوب وانحرافها والطَّبع عليها، فما زادتهم البينات والحجج إلا عتوًّا واستمرارًا في الباطل، وجحدًا للحقِّ، وهكذا اليهود، وهكذا عُلماء السُّوء في كل زمانٍ، وفي كل مكانٍ، وإنما تزيدهم الحجج والبينات عتوًّا ونفورًا واستكبارًا؛ لأنَّ غرضَهم اتِّباع الهوى، وتحصيل أغراضهم الدَّنيئة؛ ولهذا لا يرعوون، ولا يستجيبون لداعي الحقِّ، نسأل الله العافية.

وهذا أبلغ في النَّكال بفرعون وقومه، وأشفى لقلوب أولياء الله: موسى وقومه من المؤمنين به.

وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ۝ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف:104-106].

يُخبر تعالى عن مُناظرة موسى لفرعون، وإلجامه إياه بالحجّة، وإظهاره الآيات البيّنات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر، فقال تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أي: أرسلني الذي هو خالق كل شيءٍ وربّه ومليكه، حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فقال بعضُهم: معناه: حقيقٌ بأن لا أقول على الله إلا الحقّ، أي: جديرٌ بذلك وحريٌّ به.

قالوا: والباء وعلى يتعاقبان، يقال: رميت بالقوس، وعلى القوس، وجاء على حالٍ حسنةٍ، وبحالٍ حسنةٍ.

وقال بعضُ المفسّرين: معناه: حريصٌ على أن لا أقول على الله إلا الحقّ.

وقرأ آخرون من أهل المدينة: حَقِيقٌ عَلَيَّ بمعنى: واجبٌ وحقٌّ عليَّ ذلك؛ أن لا أُخبر عنه إلا بما هو حقٌّ وصدقٌ، لما أعلم من عزّ جلاله وعظيم شأنه.

قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي: بحُجَّةٍ قاطعةٍ من الله أعطانيها دليلًا على صدقي فيما جئتُكم به.

فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أي: أطلقهم من أسرك وقهرك، ودعهم وعبادة ربّك وربّهم، فإنَّهم من سلالة نبي كريم: إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، خليل الرحمن.

قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي: قال فرعون: لستُ بمُصدّقك فيما قلتَ، ولا بمُطيعك فيما طلبتَ، فإن كانت معك حُجّة فأظهرها لنراها إن كنت صادقًا فيما ادّعيتَ.

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ۝ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف:107-108].

قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في قوله: ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الحيّة الذَّكر. وكذا قال السّدي والضَّحاك.

وفي حديث الفتون من رواية يزيد بن هارون، عن الأصبع.

الشيخ: كذا عندكم بالعين، أو أصبغ بالغين؟

الطالب: بالغين.

الشيخ: أيش عندك: بالعين أو بالغين؟

الطالب: بالعين.

الشيخ: انظر "التقريب".

عن الأصبع بن زيد، عن القاسم ابن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ قال: فألقى عصاه فتحوّلت حيّة عظيمة، فاغرة فاها، مُسرعة إلى فرعون، فلمَّا رآها فرعون أنَّها قاصدة إليه اقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفّها عنه، ففعل.

وقال قتادة: تحوّلت حيّة عظيمة مثل المدينة.

وقال السّدي في قوله: فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ: الثُّعبان الذكر من الحيّات، فاتحة فاها، واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والآخر على سور القصر، ثم توجّهت نحو فرعون لتأخذه، فلمَّا رآها ذعر منها.

الشيخ: المقصود أنَّها ثعبان عظيم، واضح، بيّن، مُخيف، أمَّا كونها كذا، وكونها كذا، فهذا من أخبار بني إسرائيل، يُقال فيها: الله أعلم، لكنَّها مثلما قال ربُّنا: ثُعْبَانٌ مُبِينٌ يعني: حيّة عظيمة، نسأل الله العافية، ومع هذا ما زاده ذلك إلا نفورًا، نسأل الله العافية.

س: قصّة موسى ما الحكمة من تكرارها في القرآن؟

ج: لإقامة الحجّة، وبيان تأييد الله لنبيِّه، وخذلانه لعدوه، مثل غيرها من القصص: قصة ثمود، وقصة هود، وقصة شعيب، وقصة لوط، كلّها لإقامة الحجج والتَّذكير بآيات الله وحُججه على أعدائه: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111]، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2]، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف:3]، في القصص عِبَرٌ، كلما تكررت صارت أحلى وأعظم في إقامة الحجّة.

الطالب: أصبغ -آخره مُعجمة- بن زيد بن علي، الجهني، الورَّاق، أبو عبدالله الواسطي، كاتب المصاحف، صدوق يُغرب، من السادسة، مات سنة سبعٍ وخمسين (ت، س، ق).

الشيخ: مَن شيخ الأصبغ، الذي بعد الأصبغ؟ القاسم؟

الطالب: إيه، عن القاسم ابن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير.

الشيخ: انظر القاسم ابن أبي أيوب.

مداخلة: .........

الشيخ: مُطابق لما هنا.

الطالب: القاسم ابن أبي أيوب، الأسدي، الأعرج، الواسطي، أصبهاني الأصل، ثقة، من السادسة، وزعم أبو نعيم أنَّه القاسم بن بهرام، وفرّق بينهما ابنُ حبان، فذكر ابن بهرام في الضُّعفاء، وهو الصواب. (س، فق).

الشيخ: أعد السَّند.

وفي حديث الفتون من رواية يزيد بن هارون، عن الأصبغ بن زيد، عن القاسم ابن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ قال: فألقى عصاه فتحوّلت حيّة عظيمة، فاغرة فاها، مُسرعة إلى فرعون.

الشيخ: هذا مما تلقّاه ابنُ عباسٍ عن بني إسرائيل، ما رفعه إلى النبي ﷺ.

فلمَّا رآها ذعر منها، ووثب، وأحدث، ولم يكن يُحدث قبل ذلك.

الشيخ: وهذا من الغريب، هذا من أباطيل بني إسرائيل، ما هناك آدمي ما يُحدث، كل آدمي يُحْدِث بولًا وغائطًا وغيره، ما هناك آدمي إلا ويُحدث، ولا هناك حيوان إلا ويُحدث، والله المستعان.

س: يعني: كأنَّه أحدث في نفس المجلس أمام الناس؟

ج: لا، هذا ظاهره، ما أحد عاقل يُحدِث أمام الناس، ما هناك عاقل يُحدث أمام الناس.

وصاح: يا موسى، خذها وأنا أُؤمن بك، وأُرسل معك بني إسرائيل. فأخذها موسى فعادت عصًا.

ورُوِيَ عن عكرمة، عن ابن عباسٍ نحو هذا.

وقال وهب بن مُنبه: لما دخل موسى على فرعون قال له فرعون: أعرفك. قال: نعم، قال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا [الشعراء:18]، قال: فردّ إليه موسى الذي ردّ، فقال فرعون: خذوه، فبادر موسى: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ [الشعراء:32]، فحملت على الناس، فانهزموا منها، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا، قتل بعضُهم بعضًا، وقام فرعون مُنهزمًا حتى دخل البيت.

رواه ابنُ جرير، والإمام أحمد في كتابه "الزهد"، وابنُ أبي حاتم، وفيه غرابة في سياقه، والله أعلم.

وقوله: وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف:108] أي: أخرج يدَه من درعه بعدما أدخلها فيه، فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير برصٍ ولا مرضٍ، كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ الآية [النمل:12].

وقال ابنُ عباسٍ في حديث الفتون: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني: من غير برصٍ، ثم أعادها إلى كمِّه فعادت إلى لونها الأول. وكذا قال مجاهد وغير واحدٍ.

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ۝ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [الأعراف:109-110].

أي: قال الملأ -وهم الجمهور والسَّادة من قوم فرعون- مُوافقين لقول فرعون فيه بعدما رجع إليه روعه واستقرّ على سرير مملكته بعد ذلك: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء:34]، فوافقوا وقالوا كمقالته، وتشاوروا في أمره: كيف يصنعون في أمره؟ وكيف تكون حيلتُهم في إطفاء نوره، وإخماد كلمته، وظهور كذبه وافترائه؟ وتخوَّفوا أن يستميل الناس بسحره فيما يعتقدون، فيكون ذلك سببًا لظهوره عليهم، وإخراجه إياهم من أرضهم، والذي خافوا منه وقعوا فيه، كما قال تعالى: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:6]، فلمَّا تشاوروا في شأنه، وائتمروا بما فيه اتَّفق رأيُهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ۝ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [الأعراف:111-112].

قال ابنُ عباسٍ: أَرْجِهْ أخّره. وقال قتادة: احبسه.

وَأَرْسِلْ أي: ابعث فِي الْمَدَائِنِ أي: في الأقاليم ومدائن ملكك، حَاشِرِينَ أي: مَن يحشر لك السَّحرة من سائر البلاد ويجمعهم، وقت كان السحرُ في زمانهم غالبًا، كثيرًا، ظاهرًا، واعتقد مَن اعتقد منهم، وأوهم مَن أوهم منهم أنَّ ما جاء به موسى  من قبيل ما تشعبذه سحرتهم؛ فلهذا جمعوا له السَّحرة ليُعارضوه بنظير ما أراهم من البينات، كما أخبر تعالى عن فرعون: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ۝ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ۝ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ۝ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [طه:57-60].

وقال تعالى هاهنا: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ۝ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف:113-114].

يُخبر تعالى عمَّا تشارط عليه فرعون والسَّحرة الذين استدعاهم لمعارضة موسى إن غلبوا موسى؛ ليثيبنَّهم وليُعطينَّهم عطاءً جزيلًا، فوعدهم ومنَّاهم أن يُعطيهم ما أرادوا، ويجعلهم من جُلسائه والمقرّبين عنده، فلمَّا توثَّقوا من فرعون -لعنه الله.

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ۝ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:115-116].

هذه مُبارزة من السّحرة لموسى في قولهم: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ أي: قبلك، كما قال في الآية الأخرى: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [طه:65]، فقال لهم موسى : أَلْقُوا أي: أنتم أولًا.

قيل: الحكمة في هذا -والله أعلم- ليرى الناس صنيعهم، ويتأمّلوا، فإذا فرغوا من بهرجهم ومحالهم جاءهم الحقُّ الواضح الجلي بعد التَّطلب له والانتظار منهم لمجيئه، فيكون أوقع في النفوس، وكذا كان؛ ولهذا قال تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي: خيّلوا إلى الأبصار أنَّ ما فعلوا له حقيقة في الخارج، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، كما قال تعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ۝ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ۝ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ۝ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:66-69].

قال سفيان بن عُيينة: حدَّثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ: ألقوا حبالًا غِلاظًا وخشبًا طِوالًا. قال: فأقبلت يُخيل إليه من سحرهم أنَّها تسعى.

وقال محمد بن إسحاق: صفّ خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحرٍ حباله وعصيّه، وخرج موسى معه أخوه، يتّكئ على عصاه، حتى أتى الجمع، وفرعون في مجلسه مع أشراف أهل مملكته، ثم قال السَّحرةُ: يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ۝ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ [طه:65-66]، فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى، وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كل رجلٍ منهم ما في يده من الحبال والعصي، فإذا حيّات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي، يركب بعضُها بعضًا.

وقال السّدي: كانوا بضعةً وثلاثين ألف رجلٍ، وليس رجلٌ منهم إلا ومعه حبل وعصا: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ يقول: فرَّقوهم، أي: من الفرق.

وقال ابنُ جرير: حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم: حدَّثنا ابنُ عُلية، عن هشام الدّستوائي: حدَّثنا القاسم ابن أبي بزّة قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحرٍ، فألقوا سبعين ألف حبلٍ، وسبعين ألف عصا، حتى جعل يُخيل إليه من سحرهم أنَّها تسعى؛ ولهذا قال تعالى: وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ.

الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله العافية، والله المستعان.

السحر سحران: شيء يكون خيالًا، مثل: سحر آل فرعون، خُيِّل إليه أنَّ العصيّ والحبال حيّات. وهناك سحرٌ آخر يكون له أثرٌ في نفس الإنسان؛ منه ما يُمرض، ومنه ما يقتل، ومنه ما يُفرّق بين الزوج وأهله.

فهو نوعان، السحر نوعان: نوع تخييل، وهو سحر آل فرعون. ونوع يكون له أثرٌ في قلب الإنسان، وفي عينه، وفي أذنه، وفي بدنه، كما قال -جلَّ وعلا-: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [البقرة:102]، نسأل الله العافية.

س: يبلغ إلى أن يقلب الأعيان؟

ج: قلب الأعيان خيال، ما يقلب الأعيان، قلب الأعيان خيال، مثلما يفعل بعضُ السُّفهاء في عصرنا هذا؛ يُظهرون للناس أنَّهم يُخرجون من بطونهم دجاجًا وبيضًا، وهو تخييل.

س: لا يكون حقيقةً؟

ج: لا، لا، تخييل، وإلا ضرر يضرّ الناس، أمَّا أنَّه يقلب الأعيان؛ ما يقلب الأعيان.

س: السّحر له علاقة بالجنِّ؟

ج: مثلما قال -جلَّ وعلا-: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]، هم الواسطة، نسأل الله العافية.

س: شيء من الأفلام يُعرض على الناس يُسمّى: السيرك، يأتي بقبعةٍ ويُخرج أرانب؟

ج: هذا من السّحر، هذا يجب أن يُقتل؛ لأنَّه سحر.

س: ومُشاهدتها؟

ج: لا تجوز مُشاهدتها، بل يجب الإنكار، وعلى الدولة إذا وُجد هذا أن يُقتل، السَّاحر الصَّواب فيه أنَّه يُقتل، ولا يُستتاب، كما فعل عمر.

س: ............؟

ج: نعم، بواسطة الشياطين.

س: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ هل هما ملكان؟

ج: مثلما قال الله -جلَّ وعلا- ملكان، هذا الصواب؛ ابتلاءً وامتحانًا.

وفي قوله: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف:116] تبيين للتَّخييل، قال: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، وهنا قال: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ؛ لأنَّ السحر ما له حقيقة: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ يعني: خافوهم، وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116] تخييلي، الناس يرون حيّات تقلب في الأرض، هذا الذي رأوه؛ ولهذا استرهبوا الناس: انحاشوا، هربوا.