قال الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156].
يقول تعالى مُجيبًا لموسى في قوله: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ... الآية [الأعراف:155]، قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أي: أفعل ما أشاء، وأحكم ما أُريد، ولي الحكمة والعدل في كلِّ ذلك، سبحانه، لا إله إلا هو.
وقوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ آية عظيمة الشُّمول والعموم، كقوله تعالى إخبارًا عن حملة العرش ومَن حوله أنَّهم يقولون: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7].
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عبدالصمد: حدَّثنا أبي: حدَّثنا الجريري، عن أبي عبدالله الجشمي: حدَّثنا جندب -هو ابن عبدالله البجلي - قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته، ثم علَّقها، ثم صلَّى خلف رسول الله ﷺ، فلمَّا صلَّى رسولُ الله ﷺ أتى راحلته، فأطلق عقالها، ثم ركبها، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا تُشرك في رحمتنا أحدًا. فقال رسولُ الله ﷺ: أتقولون: هذا أضلّ أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟ قالوا: بلى، قال: لقد حظرتَ رحمةً واسعةً.
الشيخ: وفي اللَّفظ الآخر: لقد تحجّرتَ واسعًا، يعني: هذا من جهله، "ولا ترحم معنا أحدًا" من جهل الأعراب؛ مُبالغةً لما رأى منه ﷺ من الحفاوة به، والرِّفق به، والتَّوجيه إلى الخير، قال هذا الكلام، وهذا ما يُناسب، كلام جاهل، والمسلم يقول: اللهم ارحمني وارحم المسلمين جميعًا، وارحم عبادك جميعًا. نعم.
إنَّ الله خلق مئة رحمة، فأنزل رحمةً يتعاطف بها الخلقُ: جنّها، وإنسها، وبهائمها، وأخَّر عنده تسعًا وتسعين رحمةً، أتقولون: هو أضلّ أم بعيره؟ رواه أحمد وأبو داود، عن علي بن نصر، عن عبدالصّمد بن عبدالوارث، به.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدَّثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان، عن أبي عثمان، عن سلمان، عن النبي ﷺ قال: إنَّ لله مئة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخّر تسعةً وتسعين إلى يوم القيامة، تفرّد بإخراجه مسلم، فرواه من حديث سليمان، هو ابن طرخان، وداود ابن أبي هند.
الشيخ: يعني: سليمان التَّيمي المعروف.
كلاهما عن أبي عثمان، واسمه: عبدالرحمن بن ملّ، عن سلمان -هو الفارسي-، عن النبي ﷺ به.
الشيخ: وهذا يدلّ على أنَّ الله -جلَّ وعلا- له رحمتان: رحمة هي وصفه القائم به -جلَّ وعلا-، كما قال -جلَّ وعلا-: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، هذه وصفه القائم به: أنَّه رحمن رحيم، رحم كل شيءٍ، ووسع كل شيءٍ رحمةً وعلمًا -جلَّ وعلا-.
وهناك رحمات مخلوقة يرحم بها عباده أيضًا، ومنها ما جعله اللهُ في نفوس بني آدم، والوحوش، والطيور، تعطف بها على أولادها، حتى إنَّ الدَّابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تُصيبه، هذا أمرٌ معلومٌ، وهكذا الطيور تأتي بالطَّعام تحقنه في حلوق أولادها؛ رحمةً، تسعى هاهنا وهاهنا وهاهنا، ثم تأتي تحقنه هذا الحبّ الحواصل لأولادها، وهكذا بقية البهائم كلّها تعطف على أولادها، كلّ هذا من رحمته المخلوقة التي بثَّها بين عباده، مخلوقة في مخلوقٍ.
وهناك تسعة وتسعون رحمةً مخلوقةً أيضًا يرحم بها عباده يوم القيامة من شدّة الهول وحاجة الناس إلى الرحمة، كلٌّ يتمنّى أن تكون له حسنة، والله يرحم بها عباده يوم القيامة، ولا يهلك على الله إلا هالك؛ ولهذا لا يبقى في النار ولا يخلد فيها إلا الكفَّار، أمَّا العُصاة وإن دخلوا النار، وإن عُذِّبوا، فكثيرٌ منهم يدخل النار، وبعضهم يُعفى عنه، كما قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، منهم مَن يُعفى عنه بشفاعة الشُّفعاء، ومنهم مَن يُعفى عنه بأعمال صالحة كثيرة قدَّمها، رجحت على سيئاته، ومنهم مَن يرحمه سبحانه برحمته من دون شفاعة أحدٍ؛ ولهذا جاء في الحديث: يقول الله -جلَّ وعلا-: شفع النَّبيون، وشفعت الملائكة، وشفع المؤمنون، ولم يبقَ إلا رحمة أرحم الراحمين، فيُخرج الله أقوامًا من النار لم يعملوا خيرًا قط، إلا أنَّهم يقولون: لا إله إلا الله، يعني: لأنَّهم مُوحِّدون، دخلوا في الإسلام، ولكن عندهم قبائح وسيئات دخلوا بها النار، فهؤلاء آخر مَن يخرج من النار من العُصاة، آخر مَن يخرج من النار بعد شفاعة الشُّفعاء أناس بقوا في النار بمعاصيهم، فيُخرجهم اللهُ من النار إلى نهر الحياة بإسلامهم وتوحيدهم الذي ماتوا عليه، لكن لهم سيئات ومعاصٍ عُذِّبوا عليها، نسأل الله العافية.
س: صفة الرحمة تُعتبر من الصِّفات الذاتية أم الفعلية؟
ج: الرحمة فعلية، مشيئة، تتعلق بالمشيئة، قاعدة عند أهل العلم: ما كان يتعلق بمشيئته يُسمّى: فعلي؛ كالرحمة، والعطاء، والمنع، والإحياء، والإماتة، والخلق، والرزق، والتَّدبير، كلّها بمشيئته -جلَّ وعلا-: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ [العنكبوت:21] ، بخلاف الذَّات، صفة الذَّات التي لا تعلّق لها بالمشيئة: كالسمع، والبصر، واليد، والقدم، ونحو ذلك من صفات الذات، نعم.
س: أليست ذاتيةً باعتبارٍ، وفعليةً باعتبارٍ، مثل: الكلام؟
ج: إذا قلنا: أنَّ الفعلية تتعلق بالمشيئة عمَّت الرحمة، والخلق، والرزق، والتَّدبير، والإحياء، والإماتة، والنزول، والكلام، نعم.
س: إذا كان قوله ..... في الإيمان قولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، فهل له مفهوم قوله ﷺ: لم يعملوا خيرًا قطّ؟
ج: لم يعملوا خيرًا قطّ سوى التوحيد، يعني: سوى التوحيد الذي دخلوا به في الإسلام.
س: إذا لم يُصلّوا؟
ج: الصلاة محلّ خلافٍ؛ بعض أهل العلم يرى أنَّ مَن تركها كفر، وإن لم يجحد وجوبها، وبعض أهل العلم يرى أنَّها كالزكاة؛ فهو مُعرّض للوعيد والخطر إذا لم يجحد وجوبها، ولكن لا يخلد في النار، والأصحّ أنَّه كافرٌ كفرًا أكبر إذا تركها؛ لقوله ﷺ: بين الرجل وبين الكفر والشِّرك ترك الصَّلاة، وقال ﷺ: العهد الذي بيننا وبينهم الصَّلاة، فمَن تركها فقد كفر، نسأل الله العافية.
س: حتى لو صلَّى بعضًا وترك بعضًا؟
ج: ولو مطلقًا.
س: ما ورد في حديث الشَّفاعة: إنَّ ربي قد غضب اليوم غضبًا .....؟
ج: لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله ما يُنافي ما ثبت في النُّصوص، الغضب لا يلزم منه ألا يبقى في النَّار .....
س: حديث الدَّواوين الثلاثة في "المسند": لما قال النبي ﷺ: والديوان تحت المشيئة ذكر الصَّلاة ومَن تركها، أو صوم يومٍ تركه؟
ج: يحتاج إلى نظرٍ في سنده وألفاظه.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عفان: حدَّثنا حماد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: إنَّ لله مئة رحمة، عنده تسعة وتسعون، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين الجنِّ والإنس، وبين الخلق، فإذا كان يوم القيامة ضمَّها إليه، تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدَّثنا عفان: حدَّثنا عبدالواحد: حدَّثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: لله مئة رحمة، فقسم منها جزءًا واحدًا بين الخلق، به يتراحم الناس والوحش والطَّير.
ورواه ابنُ ماجه من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، به.
وقال الحافظ أبو القاسم الطّبراني: حدَّثنا محمد بن عثمان ابن أبي شيبة: حدَّثنا أحمد بن يونس: حدَّثنا سعد أبو غيلان الشّيباني، عن حماد ابن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن صلة بن زفر، عن حُذيفة بن اليمان قال: قال رسولُ الله ﷺ: والذي نفسي بيده، ليدخلنَّ الجنةَ الفاجر في دينه، الأحمق في معيشته، والذي نفسي بيده، ليدخلنَّ الجنة الذي قد محشته النار بذنبه، والذي نفسي بيده، ليغفرنَّ الله يوم القيامة مغفرةً يتطاول لها إبليسُ رجاء أن تُصيبه، هذا حديثٌ غريبٌ جدًّا، وسعد هذا لا أعرفه.
وقوله: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية [الأعراف:156]، يعني: فسأوجب حصول رحمتي منةً مني وإحسانًا إليهم، كما قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54].
وقوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي: سأجعلها للمُتَّصفين بهذه الصِّفات، وهم أمّة محمدٍ ﷺ الذين يتَّقون أي: الشّرك والعظائم من الذنوب.
قوله: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [الأعراف:156]، قيل: زكاة النفوس. وقيل: الأموال. ويحتمل أن تكون عامَّة لهما؛ فإنَّ الآية مكية.
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156] أي: يُصدِّقون.
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وهذه صفة محمدٍ ﷺ في كتب الأنبياء؛ بشَّروا أممهم ببعثه، وأمروهم بمُتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم، يعرفها علماؤهم وأحبارهم.
كما روى الإمامُ أحمد: حدَّثنا إسماعيل، عن الجريري، عن أبي صخر العقيلي: حدَّثني رجلٌ من الأعراب قال: جلبتُ حلوبةً إلى المدينة في حياة رسول الله ﷺ، فلمَّا فرغتُ من بيعي قلتُ: لألقينَّ هذا الرجل، فلأسمعنَّ منه. قال: فتلقَّاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم حتى أتوا على رجلٍ من اليهود ناشرًا التوراة يقرؤها؛ يُعزِّي بها نفسَه عن ابنٍ له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها، فقال رسولُ الله ﷺ: أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي، فقال برأسه هكذا، أي: لا، فقال ابنُه: إي والذي أنزل التوراة، إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّك رسول الله. فقال: أقيموا اليهودي عن أخيكم، ثم تولَّى كفنه والصّلاة عليه. هذا حديثٌ جيدٌ قويٌّ، له شاهدٌ في الصَّحيح عن أنسٍ.
الشيخ: يعني: الطفل المريض هو الذي شهد شهادةَ الحقِّ، وأمر النبي ﷺ بقبره وتوليه، وأبوه جحد، الله المستعان، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
وهذا فيه شاهد لقصة الغلام الذي كان يخدم النبيَّ من اليهود، فزاره النبي ﷺ وهو مريض، فقال له النبيُّ ﷺ: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله؟ فنظر الغلامُ إلى أبيه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم. خيرًا من أبيه هذا الذي مرَّ عليه النبي ﷺ: أطع أبا القاسم. فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله. فقال النبي: الحمد لله الذي أخرجه بي من النار.
س: .........؟
ج: أعد، أعد، حدَّثنا أيش؟
الشيخ: هذا ..... أنطقه الله، هذا صحابي، الرجل هذا صحابي ..... صحابة، ولو ما سُمّوا "عدولًا"، مَن سُمّي ومَن لم يُسمّ.
س: عندنا: "جلبت جلوبة"، ليس "حلوبة"؟
ج: محتمل، حطّ: نسخة "جلوبة" بدل "حلوبة".
س: قوله: "لألقينَّ هذا الرجل"؟
ج: يعني: النبي.
س: الصَّحابي يقول في حقِّ النبي هكذا؟!
ج: يمكن أنَّه ذاك الوقت ما بعد آمن .....، لكن ظاهره أنَّه صحابي، وأنَّه انتفع بها ..... المشهد فقال: هذا حديثٌ؟
الشيخ: في قصّة الغلام الذي خدم النبيّ.
الشيخ: انظر "التقريب".
الطالب: شرحبيل بن مسلم بن حامد، الخولاني، الشامي، صدوق، فيه لين، من الثالثة. (د، ت، ق).
الشيخ: قف على قصّة .....