تفسير قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ..}

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ۝ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:148-149].

يُخبر تعالى عن ضلال مَن ضلَّ من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتّخذه لهم السَّامري من حُلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم، فشكّل لهم منه عجلًا، ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل ، فصار عجلًا جسدًا له خوار، والخوار: صوت البقر، وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربِّه تعالى، فأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور، حيث يقول تعالى إخبارًا عن نفسه الكريمة قال: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه:85].

وقد اختلف المفسّرون في هذا العجل: هل صار لحمًا ودمًا له خوار، أو استمرّ على كونه من ذهبٍ، إلا أنَّه يدخل فيه الهواء فيُصوّت كالبقر؟ على قولين، والله أعلم.

ويُقال: إنَّهم لما صوّت لهم العجل رقصوا حوله، وافتتنوا به: فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، قال الله تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا [طه:89].

وقال في هذه الآية الكريمة: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا يُنكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل، وذهولهم عن خالق السَّماوات والأرض وربِّ كل شيءٍ ومليكه أن عبدوا معه عجلًا جسدًا له خوار، لا يُكلّمهم، ولا يُرشدهم إلى خيرٍ، ولكن غطَّى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضَّلال كما تقدّم من رواية الإمام أحمد وأبي داود، عن أبي الدَّرداء قال: قال رسولُ الله ﷺ: حُبُّك الشَّيء يُعْمِي ويُصمّ.

وقوله: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي: ندموا على ما فعلوا، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا، وقرأ بعضُهم: لئن لم ترحمنا بالتاء المثناة من فوق ربنا منادى.

الشيخ: يعني: يا ربنا.

وتغفر لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

الشيخ: المعنى أنَّها قراءة ثانية، والقراءة المشهورة: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ، والقراءة الأخرى: لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا لنكوننَّ.

س: أحسن الله إليك، حديث: حبُّك الشَّيء يُعمي ويُصمّ؟

ج: يحتاج إلى مراجعة سنده، والمعنى صحيح: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50].

الطالب: موجود، أحسن الله إليك.

الشيخ: معك؟

الطالب: نعم، قال أبو داود في "السنن": باب في الهوى، حدَّثنا حيوة بن شريح: أخبرنا بقية، عن أبي بكر ابن أبي مريم، عن خالد بن محمد الثَّقفي، عن بلال ابن أبي الدَّرداء، عن أبي الدَّرداء ، عن النبي ﷺ: حبُّك الشَّيء يُعمي ويُصمّ.

الشيخ: هذا المعنى صحيح، لكن السَّند ضعيف؛ لأنَّ أبا بكر ابن أبي مريم هذا لا يُحتجّ به، وبقية أيضًا مُدلّس، وقد عنعن، إن كان ما له سندٌ آخر.

الطالب: قال في الشرح: والحديث الذي أورده المؤلف في الباب هذا أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظُ سراج الدين ابن القزويني على "المصابيح"، وزعم أنَّه موضوعٌ، وقال الحافظُ ابن حجر فيما ردَّه عليه: أمَّا بلال فهو ثقة، من كبار التَّابعين، وأمَّا خالد فوثَّقه أبو حاتم الرازي، وأمَّا أبو بكر فهو ضعيفٌ عندهم من قِبَل حفظه، وكان مُستقيم الأمر في حديثه، فطرقه لصوص، فتغيّر عقله وصار يأتي بالغرائب التي لا توجد إلا عنده، فعدُّوه فيمَن اختلط ولم يتميّز. انتهى.

قال الحافظ صلاح الدين العلائي: هذا الحديث .......

الشيخ: وهذه عِلّة ثانية، وهي أنَّ بقية رواه بالعنعنة أيضًا.

الطالب: قال الحافظُ صلاح الدِّين العلائي: هذا الحديث ضعيف، لا ينتهي إلى درجة الحُسن أصلًا، ولا يُقال فيه: موضوع. انتهى.

وقال البيهقي في "شعب الإيمان" بعد ذكره: ورواه البخاري في "التاريخ" موقوفًا على أبي الدَّرداء.

قال البيهقي: وسُئل علي بن عبدالرحمن عن الفرق بين الحبِّ والعشق، فقال: الحبّ لذّة تُعمي عن رؤية غير محبوبة، فإذا تناهى سُمِّي عشقًا، وهو قوله ﷺ: حبُّك الشَّيء يُعمي ويُصمّ. انتهى. وسيجيء .....، وقد روينا هذا الحديث في "الأربعين" للشيخ ولي الله المحدّث الدَّهلوي من رواية علي بن أبي طالب ، والله أعلم.

قال المنذري: في إسناده بقية بن الوليد، وأبو بكر ابن عبدالله ابن أبي مريم، الغسّاني، الشّامي، وفي كل واحدٍ منهما مقال.

ورُوي عن بلال، عن أبيه قوله، ولم يرفعه، وقيل: إنَّه أشبه بالصّواب. ويُروى من حديث معاوية بن أبي سفيان، ولا يثبت، وسُئل ..... عن معناه، فقال: يُعْمِي العين عن النَّظر إلى مساويك، ويصمّ الأذن عن إسماع العدل فيك.

الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله العافية.

س: السَّامري شاهد جبريل؟

ج: ظاهر القرآن الكريم ابتلاء وامتحان، أقول: ابتلاء وامتحان، ألقى الشيطان في روعه هذا الشَّيء، ولله الحكمة: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [النحل:93]، ابتلاء وامتحان، نسأل الله العافية.

س: .............؟

ج: كأنَّه نعم.

أي: من الهالكين، وهذا اعترافٌ منهم بذنبهم، والتجاء إلى الله .

س: ضعيف الحديث؟

ج: ضعيف نعم.

والمقصود من هذا كلِّه التَّحذير من اتِّباع الهوى، والتَّحذير أيضًا من طاعة مَن يدعو إلى خلاف الحقِّ، فالهوى يُعمي ويصمّ، وطاعة مَن لا وجهَ لطاعته كذلك، فالواجب على المكلّف العاقل ألا ينقاد إلا عند ظهور الرُّشد، عند ظهور المصلحة، ما ينقاد لكل أحدٍ كالبهيمة، لا، لا بدَّ أن يتبين ويتثبّت، فإن كان ما دعا إليه الدَّاعي مصلحة ظاهرة ورُشد قبل، وإلا فلا، لا بدَّ أن يكون عنده ثبات وعناية بما يُدعا إليه وتفكير، حتى يظهر الرشد وعدمه، ولا يُسارع بالانقياد على غير بصيرةٍ.

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:150-151].

يُخبر تعالى أنَّ موسى لما رجع إلى قومه من مُناجاة ربِّه تعالى وهو غضبان أسف، قال أبو الدَّرداء: الأسف أشدّ الغضب.

قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي يقول: بئس ما صنعتم في عبادة العجل بعد أن ذهبتُ وتركتُكم.

وقوله: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يقول: استعجلتم مجيئي إليكم، وهو مُقدّر من الله تعالى.

وقوله: وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قيل: كانت الألواح من زمرد. وقيل: من ياقوت. وقيل: من برد. وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث: ليس الخبرُ كالمعاينة.

الشيخ: يعني: أنَّ المعاينة أشدّ من الخبر، لما بلغ موسى الخبر غير لما رآهم على الحالة السّيئة، فإنَّه غضب لما رآهم وألقى الألواح من شدّة الغضب، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه من شدّة غضبه عليهم، ليس الخبرُ كالعيان هذا رواه الإمام أحمد في "المسند"، وفي سنده بعض النَّظر، ولكن لا شكَّ أنَّ الخبر غير كونه يُشاهد الباطل، هذا أشدّ في الغضب من الخبر.

ثم ظاهر السياق أنَّه إنما ألقى الألواح غضبًا على قومه، وهذا قول جمهور العلماء سلفًا وخلفًا.

وروى ابنُ جرير عن قتادة في هذا قولًا غريبًا لا يصحّ إسناده إلى حكاية قتادة، وقد ردَّه ابنُ عطية وغير واحدٍ من العلماء، وهو جديرٌ بالردِّ، وكأنَّه تلقَّاه قتادة عن بعض أهل الكتاب، وفيهم كذَّابون ووضَّاعون وأفَّاكون وزنادقة.

وقوله: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ خوفًا أن يكون قد قصّر في نهيهم، كما قال في الآية الأخرى: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ۝ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ۝ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:92-94]، وقال هاهنا: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: لا تسوقني سياقهم وتجعلني معهم، وإنما قال: "ابن أمّ" ليكون أرقّ وأنجع عنده، وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمّه، فلمَّا تحقق موسى براءة ساحة هارون .

الشيخ: "ساحة" يعني: جانبه، الساحة: جانبه.

كما قال تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي [طه:90]، فعند ذلك قال موسى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا الحسن بن محمد بن الصّباح: حدَّثنا عفان: حدَّثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: يرحم اللهُ موسى، ليس المعاينُ كالمخبر، أخبره ربُّه أنَّ قومه فُتنوا بعده، فلم يُلْقِ الألواح، فلمَّا رآهم وعاينهم ألقى الألواح.

الشيخ: هذا سندٌ جيدٌ ظاهرٌ، السَّند جيد، رواية ابن أبي حاتم هذه ظاهرة، جيدة.

مداخلة: ............

الشيخ: ظاهر السَّند جيد، أعد سنده.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا الحسن بن محمد بن الصّباح: حدَّثنا عفان: حدَّثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ.

الشيخ: ما يظهر لي فيه عِلّة، ..... أبو بشر إن كان فيه كلام، والبقية مشهورون، أبو بشر.

والقصّة هذه لا شكَّ أنها تُفيد العاقل الحذر، قومٌ على إسلامهم، وعلى إيمانهم، ونبيّهم ذهب ..... ربّه، يأتيهم مَن يصنع لهم عجلًا، ويعبد العجلَ معهم، كيف تكون هذه؟ كيف هذه النفوس وهذه العقول؟ هذا الأمر عجيبٌ جدًّا؛ ولهذا اشتدَّ غضب موسى -عليه الصلاة والسلام- من هذا الأمر الجلل، نسأل الله العافية.

الطالب: ترجمة أبي بشر، قال: جعفر بن إياس اليشكري، أبو بشر، البصري، ثم الواسطي، عن عباد بن شرحبيل –صحابي-، وعن سعيد بن جبير، والشَّعبي، وعطاء، ونافع، وعنه الأعمش، وشعبة، وهشيم، وخالد، وعبدالله. قال أبو حاتم: ثقة. وقال ابنُ عدي: أرجو أنَّه لا بأس به. ضعّفه شُعبة في حبيب بن سالم ومجاهد. قلت: في الجمع حديثه عن مجاهد في البخاري ومسلم، قال يزيد بن هارون: مات سنة خمسٍ وعشرين ومئة، خرَّج له الجماعة.

الشيخ: لا بأس به، السَّند لا بأس به.

الطالب: ترجمته في "التقريب": جعفر بن إياس، أبو بشر ابن أبي وحشية -بفتح الواو، وسكون المهملة، وكسر المعجمة، وتثقيل التَّحتانية-، ثقة، من أثبت الناس في سعيد بن جبير، وضعّفه شعبة في حبيب بن سالم، وفي مجاهد، من الخامسة، مات سنة خمسٍ. وقيل: ستٍّ وعشرين. الجماعة.

الشيخ: زين، طيّب.

..........