وقوله: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143] فيه أبو سعيد وأبو هريرة، عن النبي ﷺ، فأمَّا حديث أبي سعيدٍ فأسنده البخاري في "صحيحه" هاهنا فقال: حدثنا محمد بن يوسف: حدثنا سفيان، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ الخدري قال: جاء رجلٌ من اليهود إلى النبي ﷺ قد لُطِمَ وجهه، وقال: يا محمد، إنَّ رجلًا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي. قال: ادعوه، فدعوه، قال: لِمَ لطمت وجهه؟ قال: يا رسول الله، إني مررتُ باليهودي فسمعتُه يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، قال: وعلى محمدٍ. قال: فقلتُ: وعلى محمدٍ؟! وأخذتني غضبةٌ فلطمتُه، فقال: لا تُخيروني من بين الأنبياء، فإنَّ الناس يُصعقون يوم القيامة، فأكون أول مَن يفيق، فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمةٍ من قوائم العرش، فلا أدري: أفاق قبلي أم جُوزي بصعقة الطور؟.
وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من "صحيحه"، ومسلم في أحاديث الأنبياء، وأبو داود في كتاب "السنة" من "سننه" من طرقٍ عن عمرو بن يحيى بن عمارة ابن أبي الحسن، المازني، الأنصاري، المدني، عن أبيه، عن أبي سعيد ابن مالك بن سنان الخدري، به.
وأمَّا حديث أبي هريرة: فقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا أبو كامل: حدثنا إبراهيم بن سعد: حدثنا ابن شهاب، عن أبي سلمة ابن عبدالرحمن، وعبدالرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: استبَّ رجلان: رجلٌ من المسلمين، ورجلٌ من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين. فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين. فغضب المسلم على اليهودي فلطمه، فأتى اليهوديُّ رسولَ الله ﷺ فسأله، فأخبره، فدعاه رسولُ الله ﷺ فاعترف بذلك، فقال رسولُ الله ﷺ: لا تُخيروني على موسى، فإنَّ الناس يُصعقون يوم القيامة، فأكون أول مَن يفيق، فإذا موسى ممسكٌ بجانب العرش، فلا أدري: أكان ممن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله ؟ أخرجاه في "الصحيحين" من حديث الزهري، به.
وقد روى الحافظ أبو بكر ابن أبي الدنيا -رحمه الله- أنَّ الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصّديق ، ولكن تقدّم في "الصحيحين" أنَّه رجلٌ من الأنصار، وهذا هو أصحّ وأصرح، والله أعلم.
والكلام في قوله : لا تُخيروني على موسى، كالكلام على قوله: لا تُفضلوني على الأنبياء، ولا على يونس بن متى، قيل: من باب التواضع. وقيل: قبل أن يعلم بذلك. وقيل: نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتَّعصب. وقيل: على وجه القول بمجرد الرأي والتَّشهي، والله أعلم.
الشيخ: المقصود أنَّه قد استقرَّ وثبت أنَّ محمدًا -عليه الصلاة والسلام- هو أفضل الناس، وهو أفضل الأنبياء، وهو خاتمهم، كما قال -عليه الصلاة والسلام: أنا سيد ولد آدم، ولا فخر، فهو خاتم الأنبياء، وهو سيد ولد آدم؛ ولهذا أشكل قوله: لا تُخيروني على الأنبياء لا تُفضّلوني على الأنبياء، فقيل: إنَّه قال هذا على سبيل التواضع والهضم للنفس. وقيل: إنَّ ذلك قبل أن يعلم أنَّه أفضل الأنبياء، وأنَّه خير الناس، قال هذا قبل أن يعلم، ثم علم وأخبر الناس أنَّه سيد ولد آدم. وقيل: نهى عن هذا إذا كان على سبيل التَّعصب والمفاضلة بحظِّ النفس، لا على سبيل الإنصاف وبيان الحقِّ، وإنما هو على سبيل التَّعصب، هذا يتعصَّب لهذا، وهذا يتعصَّب لهذا.
والجواب هو أحد الجوابين الأولين، الصواب أنَّه قال ذلك على سبيل الهضم والتواضع، أو على أنَّه كان قبل أن يعلم أنَّه أفضل الأنبياء وخير الناس -عليه الصلاة والسلام-.
وفيه فضل موسى -عليه الصلاة والسلام- وأنَّه حين أفاق ﷺ يوم القيامة رآه باطشًا بقائمة العرش قد أفاق، قال: فلا أدري: هل جُوزي بصعقة الطور -التي في الدنيا- أم أنَّه أفاق قبلي؟ هذه منقبة لموسى؛ كونه لما أفاق ﷺ في يوم القيامة وجده لم يُصعق؛ لأنَّ الناس يُصعقون يوم القيامة في الموقف غير صعق البعث، وغير صعق الموت، هذه صعقة أخرى والناس في المحشر، والناس في موقف القيامة يُصعقون.
والظاهر -والله أعلم- أنَّه عند مجيء الله -جلَّ وعلا- لفصل القضاء، كما جاء في بعض الروايات: أنَّ مجيء الله لفصل القضاء يُصعق فيه الناس من شدّة الهول، فيكون ﷺأول مَن يفيق من تلك الصّعقة العظيمة، فإذا هو يرى موسى آخذٌ بقائمة العرش قد وعى، فلا يدري هل كان صعق وأفاق قبله، أو أنه جُوزي بالصَّعقة التي وقعت في الدنيا؟ فيصعق مع الناس يوم القيامة بالموقف.
وموسى -عليه الصلاة والسلام- امتُحن وأوذي من آل فرعون، واصطفاه الله برسالاته وبكلامه، وهو من أولي العزم من الرسل، وقد كلّمه ، وهو كليم الرحمن: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فهو من الخمسة أولي العزم، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-، هم أفضل الرسل كما قال -جلَّ وعلا-: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى [الأحزاب:7]، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى:13].
فالمقصود أنَّه -عليه الصلاة والسلام- له المزية العظيمة بالنسبة لجميع الرسل والأنبياء، فهو أفضلهم، وهو إمامهم، وهو خاتمهم، ويوم القيامة يفزع الناسُ، يفزع المؤمنون إلى آدم؛ ليشفع لهم حتى يريحهم من كرب الموقف، فيعتذر ويُحيلهم إلى نوح، ثم يُحيلهم نوح إلى إبراهيم، ثم إبراهيم إلى موسى، ثم موسى إلى عيسى، كلّهم يعتذرون، ويُحيلهم عيسى إلى محمد ﷺ فيقول: أنا لها، ويتقدّم ويشفع في الناس -عليه الصلاة والسلام-.
يقول -جلَّ وعلا-: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، هؤلاء هم أولو العزم، وهم المذكورون في قوله -جلَّ وعلا-: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ في سورة الأحزاب، وأفضلهم محمد ﷺ، ثم إبراهيم -عليهم الصَّلاة والسلام جميعًا-.
س: هل يجوز الاقتصاص من المسلم للكافر؟
ج: هذا لم يقتص له النبي ﷺ، وإنما بيّن له الحكم -عليه الصلاة والسلام-، والأنصاري له شُبهة؛ لما غضب غضب لله، فلعلّ هذا هو السبب في كون النبي ﷺ أعرض عنه. نعم.
س: قول الله تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [المائدة:8] هل فيه مُعارضة بين الآية والحديث؟
ج: ما فيه معارضة، لا يُقتل المسلمُ بالكافر بالنص، ولكن يُعطى الدّية فقط.
س: لكن دون القتل، سلمك الله؟
ج: ممكن أن يُؤدّب بدون قصاصٍ، يُؤدّب بأقلّ، نعم.
س: .............؟
ج: الأقرب -والله أعلم- محمد، ثم إبراهيم، ثم موسى، أمَّا التفاضل بين عيسى ونوح، فالله أعلم.
س: قول النبي ﷺ: فلا أدري: أكان ممن أفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله ؟.
ج: في رواية: أنَّه ممن استثنى الله، وفي روايةٍ: أجوزي بصعقة الطور. نعم.
الشيخ: وهذا هو الصواب، هذه الصعقة صعقة يوم القيامة في الموقف، أمَّا الصعقتان المذكورتان في القرآن فهما صعقة الموت، والثانية صعقة البعث والنُّشور، نعم.
وقد يكون ذلك إذا جاء الربُّ -تبارك وتعالى- لفصل القضاء، وتجلّى للخلائق الملك الدّيان، كما صعق موسى من تجلّي الرب -تبارك وتعالى-؛ ولهذا قال : فلا أدري: أفاق قبلي، أم جُوزي بصعقة الطور؟.
وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه "الشفاء" بسنده عن محمد بن محمد بن مرزوق: حدثنا همام: حدثنا الحسن، عن قتادة، عن يحيى بن وثاب، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: لما تجلّى الله لموسى كان يُبصر النَّملة على الصّفا في الليلة الظَّلماء مسيرة عشرة فراسخ، ثم قال: ولا يبعد على هذا أن يختصّ نبينا بما ذكرناه من هذا الباب بعد الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربِّه الكبرى. انتهى ما قاله، وكأنَّه صحح هذا الحديث، وفي صحّته نظر، ولا تخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يُعرفون، ومثل هذا إنما يُقبل من رواية العدل الضَّابط عن مثله حتى ينتهي إلى مُنتهاه، والله أعلم.
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:144-145].
يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنَّه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه، ولا شكّ أنَّ محمدًا ﷺ سيد ولد آدم من الأولين والآخرين؛ ولهذا اختصّه الله تعالى بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي تستمر شريعته إلى قيام الساعة، وأتباعه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلّهم، وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل ثم موسى بن عمران كليم الرحمن ؛ ولهذا قال الله تعالى له: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ أي: من الكلام والمناجاة، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي: على ذلك، ولا تطلب ما لا طاقةَ لك به.
ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيءٍ موعظةً وتفصيلًا لكل شيءٍ، قيل: كانت الألواح من جوهر، وأنَّ الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكامًا مُفصّلةً مُبينةً للحلال والحرام، وكانت هذه الألواح مُشتملة على التوراة التي قال الله تعالى فيها: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ [القصص:43]. وقيل: الألواح أُعطيها موسى قبل التّوراة، والله أعلم.
وعلى كل تقديرٍ فكانت كالتَّعويض له عمَّا سأل من الرؤية ومُنع منها، والله أعلم.
س: أحسن الله إليك، الألواح نزلت من السَّماء؟
ج: الله أعلم، ولا مانع من أن تكون التوراة، كتب له في الألواح من جملة التوراة التي أنزلت، وقد تكون أيضًا كتابة تابعة للتوراة فيها تفصيل مثلما قال الله -جلَّ وعلا-، وأمَّا كونها من جواهر ومن كذا فالله أعلم، الحكم عليها لا بدَّ أن يكون من نصٍّ، ما يُحكم على الشيء إلا بنصٍّ ودليلٍ، نعم.
س: التوراة كتبها الله بيده، ثبت؟
ج: جاءت أحاديث ..... أنه كتبها له: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً، أقول: ما يكون هناك مانع أن يكون كذلك كتب له في الألواح بيده، المقصود أنَّه خصَّه بأشياء -عليه الصلاة والسلام-: التوراة، والكلام، وهذه الألواح، وما جرى عليه من المنحة من فرعون، ثم خلّصه الله من فرعون، وأنجاه الله وبني إسرائيل بهذه الآية العظيمة الخارقة: أنَّ الله -جلَّ وعلا- جعل له اثنا عشر طريقًا في البحر يبسًا، حتى نجا هو وقومه في آيةٍ عظيمةٍ، هذا البحر جعله الله اثنا عشر طريقًا، صار بين كل طريقٍ وطريقٍ مثل الجبل من الماء واقف، من آيات الله العظيمة. نعم.
وقوله: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ أي: بعزمٍ على الطاعة.
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا قال سفيان بن عيينة: حدَّثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ قال: أمر موسى أن يأخذ بأشدّ ما أمر قومه.
وقوله: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ أي: سترون عاقبة مَن خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك والدّمار والتّباب؟
قال ابنُ جرير: وإنما قال: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ كما يقول القائل لمن يُخاطبه: سأُريك غدًا إلى ما يصير إليه حال مَن خالف أمري، على وجه التَّهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره. ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد والحسن البصري.
وقيل: معناه: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ أي: من أهل الشام، وأُعطيكم إياها.
وقيل: منازل قوم فرعون.
والأول أولى -والله أعلم-؛ لأنَّ هذا بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه، والله أعلم.
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:146-147].
يقول تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي، ويتكبرون على الناس بغير حقٍّ، أي: كما استكبروا بغير حقٍّ أذلّهم الله بالجهل، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110]، وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وقال بعضُ السلف: لا ينال العلم حيي ولا مُستكبر.
الشيخ: وهذا جاء معناه عن مجاهد: "لا ينال العلم مُسْتَحٍ ولا مُستكبر"، يعني: ينبغي للمؤمن أن يجتهد في طلب العلم بالتواضع، أمَّا مَن تأخّر في الحياء فاته العلم، أو تكبّر أن يحضر مجالس العلم أو يسأل فاته العلم، فلا بدَّ من التواضع والسؤال وحضور مجالس العلم، ولا بدَّ من إقدام وعدم حياء؛ ولهذا قالت أمُّ سليم: يا رسول الله، إنَّ الله لا يستحيي من الحقِّ، فهل على المرأة من غسلٍ إذا هي احتلمت؟
فطالب العلم يجتهد ويحضر حلقات العلم، ويحرص على السؤال، وعلى مراجعة الكتب حتى يستفيد، ولا يمنعه ذلك من كونه جلس مع الفُقراء، أو بعد عليه الطريق، أو ما أشبه ذلك، نعم.
س: ترتيب الأنبياء يكون على حسب ما أتوا من الفضل والمعجزات يا شيخ؟
ج: الله أعلم.
وقال آخر: مَن لم يصبر على ذلِّ التَّعلم ساعةً بقي في ذلك الجهل أبدًا.
وقال سفيان بن عيينة في قوله: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قال: أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي.
الشيخ: وهذه عقوبات، من باب العقوبة بسبب التَّكبر يُصرفون عن العلم، وعن فهم القرآن والسُّنة عقوبةً عاجلةً، نسأل الله العافية.
قال ابنُ جرير: وهذا يدلّ على أنَّ هذا الخطاب لهذه الأمّة.
قلتُ: ليس هذا بلازمٍ؛ لأنَّ ابن عيينة إنما أراد أن هذا مُطرد في حقِّ كل أُمَّةٍ، ولا فرقَ بين أحدٍ وأحدٍ في هذا، والله أعلم.
وقوله: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس:96-97].
وقوله: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي: وإن ظهر لهم سبيلُ الرشد، أي: طريق النَّجاة لا يسلكوها، وإن ظهر لهم طريقُ الهلاك والضَّلال يتّخذوه سبيلًا.
ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أي: كذبت بها قلوبهم، وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ أي: لا يعلمون شيئًا مما فيها.
وقوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ أي: مَن فعل منهم ذلك واستمرّ عليه إلى الممات حبط عمله.
وقوله: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: إنما نُجازيهم بحسب أعمالهم التي أسلفوها: إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرٌّ، وكما تدين تُدان.
الشيخ: كل هذا فيه تذكيرنا بما جرى لغيرنا، والواجب على هذه الأمّة أن تتعظ وتأخذ حذرها مما أصاب غيرها وجرى من غيرها، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.