تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ..}

وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الآية [النساء:124]، لما ذكر الجزاء على السّيئات، وأنه لا بدَّ أن يأخذ مُستحقّها من العبد: إما في الدنيا -وهو الأجود له-، وإمَّا في الآخرة، والعياذ بالله من ذلك، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة، والصّفح والعفو والمسامحة؛ شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصَّالحة من عباده: ذكرانهم وإناثهم، بشرط الإيمان، وأنَّه سيُدخلهم الجنة، ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النَّقير، وهو النّقرة التي في ظهر نواة التَّمرة.

الشيخ: وهذا من فضله -جل وعلا- ومن عدله أيضًا، وهو سبحانه وعد مَن أساء الجزاء، ووعد مَن أحسن الجزاء: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7]، وهو سبحانه العفو، الجواد، الكريم، مع وعده لمن أساء بالجزاء، وهو سبحانه الغفور الرحيم لمن تاب إليه وأحسن في العمل، ولمن جاهد نفسه في الله.

وقال سبحانه: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء:123] يعني: إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وإما فيهما جميعًا، قد يُجزى بالسّيئات في الدنيا والآخرة؛ لكفره وضلاله وأعماله القبيحة، وقد يُعجل له الجزاء في الدنيا، وهو المؤمن إذا أساء يُجازى في الدنيا، ثم يُفضي إلى الآخرة وقد طهر من سيئاته؛ فيكون إلى الجنَّة، أمَّا مَن عمل الصَّالحات عن إيمانٍ وصدقٍ فالله يُدخله الجنة، ويُنجيه من النار: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124]، النَّقير لا يُساوي شيئًا، مقدار النّقرة التي في النّواة، يعني: ولا الشيء اليسير.

وفي الآية الأخرى يقول -جلَّ وعلا-: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40]، وفي الآية الثالثة يقول : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]، ويقول في الآية الأخرى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].

فهذا يُوجب للمؤمن الحذر، وألا يحتقر السّيئة، وألا يزهد في الحسنة، يحذر السيئة وإن دقّت، وإن قلّت، ويجتهد في الحسنة وإن صغرت؛ ولهذا يقول ﷺ: اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ.

فأنت يا عبدالله عليك أن تحذر السّيئات: دقيقها وجليلها، وعليك أن ..... الحسنات: صغيرها وكبيرها، قليلها وكبيرها: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، وفي هذا يقول -جلَّ وعلا-: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا، لكن بشرط: عن إيمانٍ؛ أن تكون الأعمالُ الصالحة صادرةً عن إيمانٍ بالله، وتوحيدٍ له، وإخلاصٍ له، أمَّا مع الشرك فلا عملَ، الأعمال حابطة: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، لكن مع الإيمان بالله ورسوله، ومع التوحيد والإخلاص، مع مُتابعة الرسول ﷺ تنفع الأعمال، ينفع قليلها وكثيرها.

كما أن السّيئات يجب الحذر منها؛ من دقيقها وجليلها، وألا تحتقر، بل يجب الحذر منها كلّها: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ. نعم.

وقد تقدّم الكلام على الفتيل، وهو الخيط في شقِّ النواة، وهذا النَّقير، وهما في نواة التَّمرة، وكذا القطمير، وهو اللّفافة التي على نواة التَّمرة، والثلاثة في القرآن.

الشيخ: وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:49] .....، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ۝ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ [فاطر:13-14].

ثم قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أخلص العمل لربه فعمل إيمانًا واحتسابًا، وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125] أي: اتّبع في عمله ما شرعه اللهُ له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحقِّ.

وهذان الشَّرطان لا يصحّ عمل عاملٍ بدونهما، أي: يكون خالصًا، صوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون مُتابعًا للشَّريعة، فيصحّ ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص.

فمتى فقد العملُ أحد هذين الشرطين فسد، فمتى فقد الإخلاصَ كان منافقًا، وهم الذين يُراؤون الناس، ومَن فقد المتابعةَ كان ضالًّا، جاهلًا، ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين يتقبّل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم.

الشيخ: وهذا معنى قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ يعني: أخلص لله، وأحسن في العمل في متابعة الشريعة، وهكذا قوله: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112] يعني: أسلم وجهه لله، أخلص لله في العمل، وَهُوَ مُحْسِنٌ لموافقة الشَّريعة، فلا بدَّ من هذا وهذا؛ فشرط العمل أن يكون خالصًا لله، ومُوافقًا للشريعة، فإن كان لله ولم يُوافق الشَّريعة صار بدعةً، وإن وافق الشَّريعة وفي الباطن ليس بمخلصٍ بطل أيضًا؛ كأعمال المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام وهم يعملون لغير الله، فلا بدَّ من اجتماع الشَّرطين: الإخلاص لله والإيمان به، ومُوافقة الشَّريعة. نعم.

ولهذا قال تعالى: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النساء:125] وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ [آل عمران:68]، وقال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123]، والحنيف: هو المائل عن الشرك قصدًا، أي: تاركًا له عن بصيرةٍ، ومقبل على الحقِّ بكُليته، لا يصدّه عنه صادٌّ، ولا يردّه عنه رادٌّ.

وقوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125] وهذا من باب الترغيب في اتِّباعه؛ لأنَّه إمامٌ يُقتدى به، حيث وصل إلى غاية ما يتقرّب به العبادُ له، فإنَّه انتهى إلى درجة الخُلّة التي هي أرفع مقامات المحبّة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربِّه، كما وصفه به في قوله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37]، قال كثيرٌ من علماء السَّلف: أي: قام بجميع ما أمر به في كل مقامٍ من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمرٌ جليلٌ عن حقيرٍ، ولا كبيرٌ عن صغيرٍ.

وقال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124]، وقال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120]، والآية بعدها.

وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب: حدثنا شعبة، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون قال: إنَّ معاذًا لما قدم اليمن صلَّى بهم الصبح، فقرأ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، فقال رجلٌ من القوم: لقد قرّت عينُ أم إبراهيم.

وقد ذكر ابنُ جرير في "تفسيره" عن بعضهم: أنَّه إنما سمَّاه الله "خليلًا" من أجل أنَّه أصاب أهل ناحيته جدبٌ، فارتحل إلى خليلٍ له من أهل الموصل -وقال بعضهم: من أهل مصر-؛ ليمتار طعامًا لأهله من قبله، فلم يُصب عنده حاجته، فلمَّا قرب من أهله قرَّ بمفازةٍ ذات رملٍ، فقال: لو ملأتُ غرائري من هذا الرمل؛ لئلا يغتمّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرةٍ، وليظنوا أني أتيتهم بما يُحبّون. ففعل ذلك، فتحول ما في الغرائر من الرمل دقيقًا، فلمَّا صار إلى منزله نام، وقام أهله ففتحوا الغرائر.

س: غرائر؟

ج: نعم، الأمتعة التي فيها الطعام، غرائر بالراء، نعم.

فوجدوا دقيقًا، فعجنوا منه وخبزوا، فاستيقظ، فسألهم عن الدَّقيق الذي خبزوا، فقالوا: من الدَّقيق الذي جئتَ به من عند خليلك. فقال: نعم، هو من عند خليلي الله. فسمَّاه الله "خليلًا".

وفي صحّة هذا ووقوعه نظر، وغايته أن يكون خبرًا إسرائيليًّا لا يُصدّق ولا يُكذّب.

وإنما سُمّي "خليل الله" لشدّة محبّته لربه .

الشيخ: هذا المعتمد: أنه خليل الله؛ لكمال محبّته، وكمال صدقه، وكمال إخلاصه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ بقيامه بحقِّ ربه، واجتهاده في طاعته، وحرصه على كلِّ ما يُرضيه -جلَّ وعلا- سمَّاه الله "خليلًا".

وهكذا محمد ﷺ سمَّاه الله "خليلًا"، فهما خليلان: إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام-، نعم: إنَّ الله قد اتّخذني خليلًا كما اتّخذ إبراهيم خليلًا، عليهما الصلاة والسلام.

وإنما سُمي "خليل الله" لشدّة محبّته لربه ﷺ، ولما قام له به من الطَّاعة التي يُحبّها ويرضاها؛ ولهذا ثبت في "الصحيحين" من رواية أبي سعيدٍ الخدري: أنَّ رسول الله ﷺ لما خطبهم في آخر خطبةٍ خطبها قال: أما بعد، أيّها الناس، فلو كنتُ مُتَّخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتّخذت أبا بكر ابن أبي قحافة خليلًا، ولكن صاحبَكم خليل الله.

وجاء من طريق جندب بن عبدالله البجلي، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعبدالله بن مسعود، عن النبي ﷺ قال: إنَّ الله اتّخذني خليلًا كما اتّخذ إبراهيم خليلًا.

وقال أبو بكر ابن مردويه: حدَّثنا عبدالرحيم بن محمد بن مسلم: حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد: حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكّة: حدَّثنا عبدالله الحنفي.

مُداخلة: في نسخة (الشعب): حدَّثنا عبيدالله، بالتَّصغير.

الشيخ: لعلها أصوب: عبيدالله بن عبدالمجيد الحنفي، عبيدالله بالتَّصغير، نعم.

حدَّثنا عبيدالله الحنفي: حدثنا زمعة أبو صالح.

الشيخ: زمعة بن صالح أو أبو صالح؟

الطالب: أبو.

الشيخ: وأيش عندك؟

طالب آخر: زمعة بن صالح.

الشيخ: المعروف بالنسبة "ابن"، وهو ضعيف.

حدثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهران، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ قال: جلس ناسٌ من أصحاب رسول الله ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: عجبًا! إنَّ الله اتّخذ من خلقه خليلًا! فإبراهيم خليله. وقال آخر: ماذا بأعجب من أنَّ الله كلَّم موسى تكليمًا! وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته! وقال آخر: آدم اصطفاه الله! فخرج عليهم فسلّم، وقال: قد سمعتُ كلامَكم وتعجبكم أنَّ إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك، وكذلك محمد ﷺ، قال: ألا وإني حبيب الله، ولا فخر، وأنا أول شافعٍ، وأول مُشفعٍ، ولا فخر، وأنا أول مَن يُحرّك حلقةَ الجنة فيفتح اللهُ ويُدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين، ولا فخر، وأنا أكرم الأوَّلين والآخرين يوم القيامة، ولا فخر.

وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها.

الشيخ: هو ضعيفٌ بهذا السند؛ لأنَّ زمعة بن صالح لا يُحتجّ به، وقوله: أنا حبيب الله، الخُلّة فوق المحبّة، فالأحاديث الصحيحة دلّت على أنَّه خليل الله، وأنَّ الخُلّة أخصّ من المحبة، فالمؤمنون كلّهم أحباء الله، المؤمنون والرسل جميعًا كلّهم أحباء الله، لكن الخُلّة أخصّ من ذلك، وهي أعلى المحبّة وكمالها، وهي للخليلين: إبراهيم ومحمد.

ثم هو أيضًا كليم الله كما كلّم موسى؛ فإنَّ الله كلّمه حين عرج به إلى السَّماء، كلّمه سبحانه وفرض عليه الصّلوات الخمس، وهو كليم الله، وهو خليله -عليه الصلاة والسلام-، وهو أول شافعٍ، وأول مُشفعٍ -عليه الصلاة والسلام-؛ ولهذا تنتهي الخلائق إليه يوم القيامة: يعتذر آدمُ في الشَّفاعة، ويعتذر نوح، ويعتذر إبراهيم، ويعتذر موسى، وهكذا عيسى يعتذر ويقول: اذهبوا إلى محمدٍ -عليه الصلاة والسلام- عبدٌ غفر اللهُ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فيأتون إليه، فيقول: أنا لها -عليه الصلاة والسلام-، ويتقدّم إلى ربِّه، ويسجد بين يديه، ويحمده بالمحامد العظيمة، يفتحها اللهُ عليه، ثم يُقال له: ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسَلْ تُعطه، واشفع تُشفّع، فهو أفضلهم -عليه الصلاة والسلام- وخاتمهم، يسجد بين يدي ربِّه تحت العرش يوم القيامة، حتى يُقال له: ارفع رأسك.

المقصود ..... الصواب أنَّ الخلّة هي أعلى وأفضل.

س: "روح الله" ما معناه؟

ج: من جملة الأرواح التي خلقها، مثل: ناقة الله، وبيت الله، ومثل: رسول الله، يعني: من جملة الأرواح التي خلقها وأوجدها، إضافة تشريفٍ وتكريمٍ.

س: التَّسمية بروح الله؟

ج: لا، ما يُسمّى بها إلا عيسى -عليه الصلاة والسلام-، يُسمّى عيسى فقط.

س: هل لأحدٍ من الخلق أن يتّخذ خليلًا؟

ج: الخُلّة أعلى المحبّة، يجب أن تكون لله وحده؛ ولهذا قال ﷺ: لو كنتُ مُتَّخذًا من أُمَّتي خليلًا لاتّخذتُ أبا بكر، ولكن صاحبكم خليلُ الله، يجب أن تكون الخلّة -أعلى المحبّة- لله وحده، ولرسله وأنبيائه، ومحمد ﷺ، قال ﷺ: لا يُؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، وقال عمر: يا رسول الله، أنت أحبّ إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي. قال: لا يا عمر، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك، فقال عمر : فأنت أحبّ إليَّ من كل شيءٍ حتى من نفسي. قال: الآن يا عمر، فيجب أن تكون محبةُ الله ورسوله فوق محبّة الأهل والأولاد والنَّفس وغيرها، نعم.

س: وآية: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ [الزخرف:67] هل هي مأخوذة من الخلّة؟

ج: يعني: الأحبّاء عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، الأخلاء فيما بينهم: الأحبّة.

س: اتخاذ أبي هريرة للنبي ﷺ خليلًا؟

ج: ............

س: هل لله أن يتّخذ خليلًا من البشر دون الأنبياء؟

ج: ما أعرف له أصلًا، ما أعرف لهذا أصلًا.

وقال قتادة: عن عكرمة، عن ابن عباسٍ أنَّه قال: أتعجبون من أن تكون الخُلّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمدٍ -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.

رواه الحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيحٌ على شرط البخاري، ولم يُخرجاه. وكذا رُوِيَ عن أنس بن مالك وغير واحدٍ من الصحابة والتابعين والأئمّة من السلف والخلف.

الشيخ: وهذا ليس بجيدٍ، خطأ؛ فإنَّ الخُلّة لإبراهيم ومحمد جميعًا، والكلام أيضًا لموسى ومحمدٍ؛ فمحمد كلّمه الله، فليست الخُلّة خاصّة بإبراهيم، وليس الكلامُ خاصًّا بموسى.

وهذا لعله لا يثبت عن ابن عباسٍ؛ فإنَّ ابن عباسٍ أجلّ وأعلم من أن يخفى عليه هذا، وقتادة مُدلّس، والمقصود أنَّ هذا المقام لا يخفى على ابن عباسٍ.

أمَّا الرؤية فقد رُوي عن ابن عباسٍ ..... رؤية الرسول لربه، والصواب أنَّه لم يره، وأنه لا يرى أحدٌ ربَّه في الدنيا أبدًا، الرؤية في الآخرة؛ ولهذا يقول ﷺ فيما رواه مسلم في "الصحيح": واعلموا أنَّه لن يرى أحدٌ منكم ربَّه حتى يموت، فلم يرَ أحدٌ ربَّه: لا موسى، ولا إبراهيم، ولا محمد، ولا غيرهم، إنما الرؤية في الآخرة يوم القيامة، وفي الجنة.

ولما سُئل رسول الله، قيل: يا رسول الله، أرأيتَ ربك؟ قال: نورٌ أنَّى أراه؟، وفي اللَّفظ الآخر قال: رأيتُ نورًا أخرجه مسلم من حديث أبي ذرٍّ.

وقال ﷺ أيضًا: واعلموا أنَّه لن يرى أحدٌ منكم ربَّه حتى يموت هكذا رواه مسلم في "الصحيح"، لا محمد، ولا غيره، ولما طلب موسى الرؤية قال الله -جلَّ وعلا- له: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143] يعني: لن تراني في الدنيا.

مداخلة: في تعليق على هذا يقول: رواه ابنُ خزيمة في كتاب "التوحيد" من طرقٍ، وسند بعضها رجاله رجال الصحيح، وقد ذكره الحافظ ابن كثير بسند النسائي في سورة النجم.

الشيخ: على كل حالٍ، هو غلط، حتى لو صحَّ عن ابن عباسٍ غلط؛ لأنَّ الرسول ﷺ بيّن أنه لم يرَ ربَّه، وحمل بعضُهم ما يُروى عن ابن عباسٍ على أنها رؤية القلب، رؤية الفؤاد، يعني: رآه بفؤاده، كما جاء في رواية ابن عباسٍ.

أما رؤية البصر فلم يرَ أحدٌ ربَّه في الدنيا، بل هذا مختصٌّ في الآخرة: لا محمد، ولا غيره، والنبي أخبر عن نفسه قال: رأيتُ نورًا، أنَّى أراه؟ وقال: واعلموا أنَّه لن يرى أحدٌ منكم ربَّه حتى يموت، ولما طلب موسى الرُّؤية قال الله له: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، فلو صحَّ عن ابن عباسٍ فمحمولٌ على رؤية القلب، رؤية الفؤاد، نعم.

س: هل تجوز الرؤية في النوم؟

ج: رؤية النوم أمرها أوسع، نعم.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا يحيى بن عبدك القزويني: حدثنا محمد –يعني: سعيد بن سابق-: حدَّثنا عمرو –يعني: ابن أبي قيس-، عن عاصم، عن أبي راشد، عن عبيد بن عمير قال: كان إبراهيمُ -عليه السلام- يضيف الناس.

الشيخ: هذا من الإسرائيليات؛ عبيد بن عمير يروي الإسرائيليات.

فخرج يومًا يلتمس أحدًا يضيفه، فلم يجد أحدًا يضيفه.

الشيخ: يلتمس أحدًا، يعني: يقريه، يعني: يُطعمه، يعني: إبراهيم يُطعم الناس، يُطعم الأضياف، خرج يلتمس إنسانًا يجلبه إلى بيته ويُطعمه، هو الذي يُطعم: إبراهيم.

فرجع إلى داره فوجد فيها رجلًا قائمًا، فقال: يا عبدالله، ما أدخلك داري بغير إذني؟ قال: دخلتُها بإذن ربِّها. قال: ومَن أنت؟ قال: أنا ملك الموت، أرسلني ربي إلى عبدٍ من عباده أُبشّره بأنَّ الله قد اتّخذه خليلًا، قال: مَن هو؟ فوالله إن أخبرتني به، ثم كان بأقصى البلاد لآتينَّه، ثم لا أبرح له جارًا حتى يُفرّق بيننا الموت. قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا؟! قال: نعم. قال: فيمَ اتّخذني ربي خليلًا؟! قال: إنَّك تُعطي الناس ولا تسألهم.

وحدَّثنا أبي: حدثنا محمود بن خالد السّلمي: حدَّثنا الوليد، عن إسحاق بن يسار قال: لما اتّخذ اللهُ إبراهيم خليلًا ألقى في قلبه الوجل، حتى أن خفقان قلبه ليُسمع من بعيدٍ كما يُسمع خفقان الطير في الهواء.

وهكذا جاء في صفة رسول الله ﷺ أنَّه كان يُسمع لصدره أزيزٌ كأزيز المرجل إذا اشتدَّ غليانها من البُكاء.

الشيخ: وهذا في الصّلاة، ما هو بدائم، هذا في الصلاة، كما في حديث عبدالله بن الشّخير: أنه دخل على النبي ﷺ وهو يُصلي، قال: ولصدره أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء. وقت صلاته؛ لخشوعه في صلاته -عليه الصلاة والسلام-.

س: أيّهما أخصّ: صفة الخُلّة، أم صفة المحبّة؟

ج: الخُلّة أخصّ، المحبّة عامّة للمؤمنين جميعًا، وللرسل جميعًا، والخُلّة خاصّة بمحمدٍ وإبراهيم.

س: الرسول يقول: وأنا حبيب الله؟

ج: هذا ضعيفٌ، الصواب الخُلّة أعلى، وهي للخليلين: محمد وإبراهيم، وأمَّا المحبة فعامّة للمؤمنين جميعًا؛ الله يُحبّ المؤمنين، ويُحبّ المحسنين -جلَّ وعلا-، ويُحبّ المتقين، ويُحبّ التوابين، ويُحبّ المتطهرين، سبحانه وبحمده.

وقوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [النساء:126] أي: الجميع ملكه وعبيده وخلقه، وهو المتصرف في جميع ذلك، لا رادَّ لما قضى، ولا مُعقّب لما حكم، ولا يُسأل عمَّا يفعل؛ لعظمته، وقُدرته، وعدله، وحكمته، ولطفه، ورحمته.

وقوله: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126] أي: علمه نافذ في جميع ذلك، لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماوات، ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر، ولا تخفى عليه ذرّة لما تراءى للنَّاظرين وما توارى.

الشيخ: غدًا في استسقاء، يوم الاثنين، نسأل الله أن يغيث العباد غيثًا مباركًا، وأن يُصلح القلوب والأعمال، وأن يرزقنا وإياكم الاستقامة والثَّبات على الحقِّ.

ومن أسباب الغيث: التوبة إلى الله -جلَّ وعلا- وكثرة الاستغفار، والوصية للجميع بالتوبة إلى الله، ومحاسبة النفس، والاستغفار، فإنَّ الله -جلَّ وعلا- هو الغفور الرحيم، ومَن تاب إليه وأناب إليه فهو جديرٌ بأن يُرحم ويُحسن إليه، نسأل الله أن يمنَّ على الجميع بالمغفرة والرحمة.

وكذلك الصّدقة للفُقراء والمساكين والإحسان من أسباب الرحمة: "ارحموا تُرحموا"، "مَن لا يَرحم لا يُرحم"، فالصّدقة للمساكين، والإحسان إليهم، والاستغفار، والتوبة، والإنابة، كلّها من أسباب الرزق، ومن أسباب الخير، ومن أسباب التوفيق، ومن أسباب الهداية، ومن أسباب الرحمة.

............

س: هل ورد في الصّدقة بمناسبة الاستسقاء نصٌّ خاصٌّ؟

ج: ما أتذكر، أقول: ما أتذكر.