صلاة الخوف أنواع كثيرة، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صوبها، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة تكون ثلاثية كالمغرب، وتارة تكون ثنائية كالصبح، وصلاة السفر، ثم تارة يصلون جماعة، وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، ورجالًا، وركبانًا، ولهم أن يمشوا، والحالة هذه، ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة.
ومن العلماء من قال: يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم، وبه قال أحمد بن حنبل. قال المنذري في الحواشي: وبه قال عطاء، وجابر، والحسن، ومجاهد، والحكم، وقتادة، وحماد، وإليه ذهب طاوس، والضحاك، وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي: أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف، وإليه ذهب ابن حزم أيضًا.
وقال إسحاق بن راهويه: أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة لأنها ذكر الله. وقال آخرون: تكفي تكبيرة واحدة، فلعله أراد ركعة، واحدة، كما قاله الإمام أحمد بن حنبل، وأصحابه، وبه قال جابر بن عبدالله، وعبدالله بن عمر، وكعب، وغير واحد من الصحابة، والسدي، ورواه ابن جرير، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة، كما هو مذهب إسحاق ابن راهويه، وإليه ذهب الأمير عبدالوهاب بن بخت المكي حتى قال: فإن لم يقدر على التكبيرة فلا يتركها في نفسه يعني بالنية. رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عياش، عن شعيب بن دينار عنه، فالله أعلم.
ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال، والمناجزة، كما أخر النبي ﷺ يوم الأحزاب الظهر والعصر، فصلاهما بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب، ثم العشاء، وكما قال بعدها يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فقال منهم قائلون: لم يرد منا رسول الله ﷺ إلا تعجيل المسير، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق، وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب، ولم يعنف رسول الله ﷺ أحدًا من الفريقين، وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة، وبينا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر، وإن كان الآخرون معذورين أيضا، والحجة هاهنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد، والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة اليهود.
وأما الجمهور فقالوا: هذا كله منسوخ بصلاة الخوف، فإنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك، وهذا أبين في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعي رحمه الله، وأهل السنن.
ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاري في صحيحه حيث قال: [باب الصلاة عند مناهضة الحصون، ولقاء العدو] قال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة، صلوا إيماء كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء، أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة، وسجدتين، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير، ويؤخرونها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول.
وقال أنس بن مالك: حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها، ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا، قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها، انتهى ما ذكره، ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب، ثم بحديث أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، وكأنه كالمختار لذلك، والله أعلم.الشيخ: وهذا هو الصواب فإن الأصل عدم النسخ، الأصل في الأحكام عدم النسخ، ولا يصار إلى النسخ إلا بدليل واضح. وعلم التاريخ وتعذر الجمع شرطان، بل ثلاث: أن يكون كل من النصين ثابتًا، والثاني: أن يعلم التاريخ، تاريخ المتأخر من المتقدم، الثالث: أن يتعذر الجمع، فيصار إلى النسخ، أما هنا فلم يتعذر الجمع، وفي تأخر غزوة ذات الرقاع عن الخندق نظر أيضًا وخلاف، فالتاريخ فيه خلاف، والجمع غير متعذر، فإذا تلاقى الصفان واشتد القتال فالصلاة حينئذ غير منضبطة، والناس مشغولون بالقتال، ومختلطون فالأولى حينئذ التأخير أن تؤخر، ولهذا لما اشتد القتال يوم الأحزاب بين النبي ﷺ وبين أهل مكة أخر الظهر والعصر، ولم يصلهما إلا بعد المغرب، وفي رواية أخرى: أخر العصر حتى صلاها بعد المغرب، وقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم، وقبورهم نارًا، فلم يصلها في حال الشدة بل أخرها، فهذا هو الأفضل، والأظهر أنه إذا اشتد القتال بينه وبين أعداء الله ولم يتيسر لهم أداء الصلاة على الوجه المطلوب فإنهم يؤخرونها إلى ما بعد، ولو كانت لا تجمع، ولو أخروها إلى صلاة لا تجمع إليها كالعصر إلى المغرب، والصبح إلى ما بعد طلوع الشمس، كما في قصة تستر في حربهم للفرس مع أبي موسى ، حاصروا تستر ليلة فاشتد القتال عند طلوع الفجر، وصار بعض الناس على الحيطان فوق على السور، وصار بعضهم مشغولاً بأبواب المدينة، والقتال عند الباب لفتحه، وصار البعض قد نزل في المدينة فاشتد القتال، وعظم الأمر فأخروا الصلاة حتى صلوها ضحى بعدما اشتد الضحى بعدما فتح الله عليهم، ولم يصلوها في الوقت؛ لأن الصلاة ذاك الوقت غير متيسرة، وغير ممكنة، حتى للأفراد، كل مشغول بنفسه، ومشغول بعدوه، قال أنس : ما يسرني أن لي بها الدنيا كلها، يعني: ما يسرني أن لي بدل هذه الصلاة المتأخرة الدنيا وما عليها؛ لأنها أخرت في ذات الله، وفي سبيل الله، وفي جهاد أعدائه.
س: يعني هذا لا يكون إلا إذا ما تيسرت الصلاة؟
الشيخ: نعم عند عدم تيسر الصلاة، أما إذا أمكن الجمع فلا بأس، الجمع لا محذور فيه، كجمع الظهر والعصر، أو ضم المغرب إلى العشاء فلا بأس، لكن قد يقع القتال في أوقات ما فيها جمع، وهي عند الفجر، وعند العصر.
ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج بصنيع أبي موسى، وأصحابه يوم فتح تستر، فإنه يشتهر غالبًا، ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب، ولم ينقل أنه أنكر عليهم، ولا أحد من الصحابة، والله أعلم.
قال هؤلاء: وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق؛ لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير، والمغازي. وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق، وموسى بن عقبة، والواقدي، ومحمد بن سعد كاتبه، وخليفة بن الخياط، وغيرهم. وقال البخاري، وغيره: كانت ذات الرقاع بعد الخندق لحديث أبي موسى، وما قدم إلا في خيبر، والله أعلم.
والعجب كل العجب أن المزني، وأبا يوسف القاضي، وإبراهيم بن إسماعيل بن علية، ذهبوا إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره عليه الصلاة والسلام الصلاة يوم الخندق، وهذا غريب جدًا، وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف، وحمل تأخير الصلاة يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى، وأقرب، والله أعلم.
فقوله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ أي إذا صليت بهم إمامًا في صلاة الخوف، وهذه حالة غير الأولى، فإن تلك قصرها إلى ركعة كما دل عليه الحديث فرادى، ورجالًا، وركبانًا مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، ثم ذكر حال الاجتماع، والائتمام بإمام واحد، وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك.
وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي ﷺ لقوله: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فبعده تفوت هذه الصفة، فإنه استدلال ضعيف، ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة الذين احتجوا بقوله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] قالوا: فنحن لا ندفع زكاتنا بعده ﷺ إلى أحد، بل نخرجها نحن بأيدينا على من نراه، ولا ندفعها إلا إلى من صلاته أي دعاؤه سكن لنا، ومع هذا رد عليهم الصحابة، وأبوا عليهم هذا الاستدلال، وأجبروهم على أداء الزكاة، وقتلوا من منعها منهم.
ولنذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة أولا قبل ذكر صفتها.الشيخ: وهذا الذي قال: إنها صلاة الخوف في عهد النبي ﷺ هذا ما يكفي أن يقال فيه ضعيف، بل هو قول باطل لا وجه له، والقول بأن صلاة الخوف خاصة بعهده ﷺ هذا قول باطل، ولا يكفي مجرد الضعف؛ لأنه مخالف للسنة الصحيحة التي درج عليها المسلمون بعده ﷺ، وفي حياته ﷺ، ثم أوامر القرآن الكثيرة موجه إليه، والمقصود هو وأمته، ليس المقصود وقت وجوده، فالأوامر الكثيرة موجهة إليه عليه الصلاة والسلام وهي له ولأمته جميعا، مثل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، ومثل: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78]، وغير هذا من الأوامر الموجهة إليه عليه الصلاة والسلام، وليس خاصًا به بل هو له وللأمة عليه الصلاة والسلام، هذا محل إجماع، ومحل وفاق ليس محل نزاع.
س: هل قال بهذا القول أحد؟
الشيخ: ما بلغني هذا.
س: إذا تيسر لهم أن يصلوا صلاة الخوف هل يشرع لهم أن يؤخرونها؟
الشيخ: إذا اشتبك القتال نعم ....... ويأتي بيان أحاديث صلاة الخوف في الدرس الآتي.
ولنذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة أولًا قبل ذكر صفتها:
قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثني إسحاق، حدثنا عبدالله بن هاشم، أنبأنا سيف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي ، قال: سأل قوم من بني النجار رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله ، وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول، غزا النبي ﷺ فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في إثرها، قال: فأنزل الله بين الصلاتين إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا الآيتين، فنزلت صلاة الخوف.
وهذا سياق غريب جدًا، ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزرقي، واسمه زيد بن الصامت عند الإمام أحمد، وأهل السنن، فقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق، حدثنا الثوري عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول الله ﷺ بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله ﷺ الظهر، فقالوا: لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم، وأنفسهم، قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر، وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ قال: فحضرت، فأمرهم رسول الله ﷺ فأخذوا السلاح، قال: فصفنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعًا، ثم رفع فرفعنا جميعًا، ثم سجد النبي ﷺ بالصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا، وقاموا، جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع فركعوا جميعًا، ثم رفع فرفعوا جميعًا، ثم سجد النبي ﷺ، والصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، ثم انصرف، قال: فصلاها رسول الله ﷺ مرتين: مرة بعسفان، ومرة بأرض بني سليم.
ثم رواه أحمد عن غندر، عن شعبة، عن منصور به نحوه، وهكذا رواه أبو داود، عن سعيد بن منصور، عن جرير بن عبدالحميد، والنسائي من حديث شعبة، وعبدالعزيز بن عبدالصمد، كلهم عن منصور به، وهذا إسناد صحيح، وله شواهد كثيرة، فمن ذلك ما رواه البخاري حيث قال: حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قام النبي ﷺ، وقام الناس معه، فكبر، وكبروا معه، وركع، وركع ناس منهم، ثم سجد، وسجدوا معه، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا، وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا، وسجدوا معه، والناس كلهم في الصلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضا.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة، عن سليمان بن قيس اليشكري أنه سأل جابر بن عبدالله عن إقصار الصلاة أي يوم أنزل؟ أو أي يوم هو؟ فقال جابر: انطلقنا نتلقى عيرًا لقريش آتية من الشام حتى إذا كنا بنخلة، جاء رجل من القوم إلى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد هل تخافني؟ قال: لا، قال فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك قال: فسل السيف، ثم تهدده، وأوعده، ثم نادى بالترحل، وأخذ السلاح، ثم نودي بالصلاة فصلى رسول الله ﷺ بطائفة من القوم، وطائفة أخرى تحرسهم، فصلى بالذين يلونه ركعتين، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم، فقاموا في مصاف أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، والآخرون يحرسونهم، ثم سلم فكانت للنبي ﷺ أربع ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح.
ورواه الإمام أحمد فقال: حدثنا سريج، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس اليشكري، عن جابر بن عبدالله، قال: قاتل رسول الله ﷺ محارب خصفة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث، حتى قام على رسول الله ﷺ بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله، فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله ﷺ، فقال: ومن يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ. قال: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس. فلما حضرت الصلاة، صلى رسول الله ﷺ صلاة الخوف، فكان الناس طائفتين: طائفة بإزاء العدو، وطائفة صلوا مع رسول الله ﷺ، فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين، وانصرفوا، فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو، ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فصلوا مع رسول الله ﷺ ركعتين، فكان لرسول الله ﷺ أربع ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، تفرد به من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم، حدثنا المسعودي عن يزيد الفقير، قال: سألت جابر بن عبدالله عن الركعتين في السفر أقصرهما؟
فقال: الركعتان في السفر تمام، إنما القصر واحدة عند القتال، بينما نحن مع رسول الله ﷺ في قتال، إذ أقيمت الصلاة، فقام رسول الله ﷺ فصف طائفة، وطائفة وجهها قبل العدو، فصلى بهم ركعة، وسجد بهم سجدتين، ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم، ومكانهم نحو ذا، وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله ﷺ فصلى بهم ركعة، وسجد بهم سجدتين، ثم إن رسول الله ﷺ جلس وسلم، وسلم الذين خلفه، وسلم أولئك، فكانت لرسول الله ﷺ ركعتين، وللقوم ركعة ركعة، ثم قرأ: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ الآية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبدالله أن رسول الله ﷺ، صلى بهم صلاة الخوف، فقام صف بين يديه، وصف خلفه، فصلى بالذين خلفه ركعة، وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا في مقام هؤلاء، فصلى بهم رسول الله ﷺ ركعة، وسجدتين ثم سلم، فكانت للنبي ﷺ ركعتين، ولهم ركعة. ورواه النسائي من حديث شعبة، ولهذا الحديث طرق عن جابر، وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر، وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح، والسنن، والمسانيد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبدالله بن المبارك، أنبأنا معمر عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة قال: هي صلاة الخوف، صلى رسول الله ﷺ بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله ﷺ ركعة أخرى، ثم سلم بهم، ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة، وهذا الحديث رواه الجماعة في كتبهم من طريق معمر به، ولهذا الحديث طرق كثيرة عن الجماعة من الصحابة، وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مردويه في سرد طرقه، وألفاظه، وكذا ابن جرير، ولنحرره في كتاب الأحكام الكبير، إن شاء الله، وبه الثقة.الشيخ: وهذا من المؤلف بيان لجنس ما وقع، وقد جاءت الأحاديث في هذا كثيرة عنه عليه الصلاة والسلام، وشرعت على عدة أنواع: ستة، أو سبع في أنواع صلاة الخوف، وذلك أن العدو يختلف فتارة يكون أمام الجيش في قبلتهم، وتارة يكون عن يمينهم أو شمالهم أو خلفهم، فلهذا تنوعت صلاة الخوف، وكذلك قد يشتد الخوف، وقد لا يشتد، فمن صلى بنوع من الأنواع التي ثبت عنه ﷺ فقد فعل السنة، ومن ذلك أنهم إذا كانوا في قبلة المصلين أنهم يصلوا جميعًا يكبرون جميعًا، ويركعون جميعًا، ويسجد الصفوف الأول، وتبقى صفوف تحرس قائمة، فإذا قامت الصفوف الأول من سجودهم سجد الصفوف المؤخرة، وصارت الصفوف المتقدمة هي التي تحرس بدل حراسة الصفوف المؤخرة، وهذا فعله النبي ﷺ لما كان العدو في قبلته، وهناك صفات أخرى مثل ما ذكر المؤلف تختلف؛ منها أن يصلي بهم ركعتين ثم تتقدم الطائفة التي صلى بها الركعة الأولى، وتبقى على صلاتها محاذية للعدو، وتأتي الطائفة الأخرى، وتصلي مع الإمام الركعة الثانية، ثم يسلم بالطائفة الأخيرة ثم تقوم الطائفة الأخيرة والطائفة الأولى، كل واحدة تأتي بركعة، ثم تصلي لنفسها.
ومنها: أن الطائفة الأولى تصلي ركعة، ثم تذهب إلى الحراسة، ثم تصلي الطائفة الثانية، ويجلس للتشهد، ويتمون لأنفسهم ثم يسلم بهم، ثم يذهبون، ثم تتم الطائفة الأولى لنفسها، وبكل حال فالسنة في مثل هذا مراعاة ما ثبت عنه ﷺ، فمن صلى بنوع من الأنواع فقد أصاب السنة.
ومن ذلك أن يصلي ركعتين، لكل واحدة ركعة، ويكتفى بذلك، ثبت هذا أيضًا فيكون له ركعتان، ولكل طائفة ركعة، هذا ثبت عنه ﷺ أيضًا.
ومنها: أن يصلي بهم ركعة واحدة للجميع، صلاة الخوف ركعة واحدة، من باب التيسير والتخفيف؛ بسبب شدة المسايفة، والقرب من العدو، وخطر الهجوم، وهذا من لطف الله، ورحمته، وإحسانه أن يسر وسهل على الغزاة كيفية الصلاة، فإذا اشتد الأمر، وعظم عليهم الأمر، ولم يتيسر لهم أن يصلوا جاز التأخير على الصحيح، كما أخر النبي ﷺ يوم الأحزاب، يعني اشتد مع أعداء الله القتال فلم يصلَّ العصر إلا بعدما غابت الشمس، وقال عند ذلك: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم، وقبورهم نارًا فدل ذلك على أنه يجوز التأخير عند الشدة، ومن ذلك ما ثبت أن الصحابة في قتالهم للفرس لما حاصروا تستر، وكان معهم أنس، حاصروا البلد، وفتح الله عليهم قرب الفجر، فلم يتمكنوا من صلاة الفجر حتى ارتفعت الشمس، وهم مشتغلين بالفتح، منهم من على الأسوار، ومنهم من على الأبواب، ومنهم من في داخل البلد، فالقتال حام مع أهل البلد، فلم يتيسر لهم أن يصلوا لشدة القتال، فصلوها ضحى قال أنس: "فما أحب أن لي بها الدنيا وما عليها، أو ما يسرني أن لي بها كذا، وكذا"، يعني لأني صليتها في سبيل الله، وأخرتها في سبيل الله. فهذا يدل على أن أمر التأخير غير منسوخ، ومن قال إنه منسوخ بصلاة ذات الرقاع فليس بجيد، والصواب أن الحكم هذا غير منسوخ، سواء كانت صلاة الأحزاب بعد ذات الرقاع، أو قبلها، ولأنه لا يصل إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع، وليس بمتعذر هنا، فالجمع بين النصوص أنه يصلي بهم الإمام في الوقت كما فعل النبي ﷺ إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى ركعة واحدة، وإن شاء صلى بهم جميعًا، وخلص بعض صفوف الجيش إلى غير ذلك مما فعل ﷺ، وإن شاءوا أخروا إذا اشتد الأمر أخروها إلى وقت التي بعدها حتى يتيسر الأمر، وحتى تنفك الشدة، كما فعل الرسول ﷺ يوم الأحزاب، وكما فعل الصحابة في قتال الفرس لما حاصروا اشتد عليهم الأمر، ولم يتمكنوا من الصلاة.
س: صلاة النبي ﷺ ركعتين الطائفة الأولى هل تجلس للتشهد؟
الشيخ: تذهب تحرس فإذا سلم الإمام كملوا لأنفسهم، هذا نوع من الأنواع، ونوع آخر أنهم أتموا لأنفسهم، وذهبوا.
س: يصلوا أربع ركعات؟
الشيخ: هذا في الحضر.
س: أربع ركعات، ويجمعون ركعتين ركعتين؟
الشيخ: هذا وضع أيضًا الذي رواه مسلم نوع من الأنواع، تكون الركعتان أوليان له فرض، وتكون الثنتان الأخيرتان للإمام نفل.
س: بما يقرأ، يخفف، فيكتفي بالفاتحة؟
الشيخ: الفاتحة، وما تيسر معها، ما أعلم شيئًا في هذا أن رسول الله ﷺ ترك القراءة بعد الفاتحة، لكن قراءة مناسبة خفيفة.
س: إذا استطاعوا أنهم يصلوا الصلاة في حال ... هل يشرع لهم أن يصلوا الخوف؟
الشيخ: لا، إذا ما في خطر... العادة أن يكون هناك خطر العدو قريب منهم، ويخشون هجومه.
وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية، وهو أحد قولي الشافعي، ويدل عليه قول الله تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ أي: بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا.
الشيخ: وهذا واضح في الوجوب، يعني قال: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ هذا يدل على أنه عند انعدام العذر عليهم جناح، وأن الواجب عليهم أن يكونوا في غاية الاستعداد، وأن لا يضعوا السلاح، خشية أن يهجم العدو، فلا يضعوا السلاح إلا من علة كالمرض، والمطر.