تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها..}(1)

ثم لما بيّن تعالى حكم القتل الخطأ شرع في بيان حكم القتل العمد، فقال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا الآية [النساء:93]، وهذا تهديدٌ شديدٌ، ووعيدٌ أكيدٌ لمن تعاطى هذا الذَّنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آيةٍ في كتاب الله، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام:151].

والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدًّا، فمن ذلك ما ثبت في "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ، قال: قال رسول الله ﷺ: أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدِّماء.

وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسولُ الله ﷺ: لا يزال المؤمن مُعنقًا صالحًا ما لم يُصب دمًا حرامًا، فإذا أصاب دمًا حرامًا بلح.

الشيخ: كذا عندكم؟

قارئ المتن: ذكر في الحاشية يقول: "بلح" بالتخفيف والتَّشديد، أي: انقطع من الإعياء والوهن.

الشيخ: طيب.

بسم الله، الحمد لله، وصلَّى الله وسلّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.

أما بعد: فالحمد لله على العودة إلى مجالس العلم، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، وأن يمنح الجميع الفقه في الدين، والثبات عليه، والسلامة من شغل النفس وسيئات العمل.

لا شك أنَّ القتل من أقبح الكبائر، القتل بغير حقٍّ من أقبح الكبائر؛ ولهذا قال -جلَّ وعلا-: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وهذا لا شكَّ يدلّ على شدة الوعيد، وعظم الجريمة، ولكن هذا مثلما قال أبو هريرة : "جزاؤه إن جازاه"، هذا وعيدٌ، والله -جلَّ وعلا- قد يعفو في تنفيذ الوعيد بالنسبة إلى المسلم، وهذا ما لم يتب، فإذا تاب إلى الله، أو أُخِذَ منه الحقّ؛ فإنَّ الحقَّ كفَّارة مثلما قال النبي ﷺ: فمَن أدركه الله –يعني: في الدنيا- فأخذ منه الحقّ كان كفَّارةً له، فإذا اقتصّ منه، أو تاب إلى الله من ذلك وأدَّى الحقّ الذي عليه؛ كان كفَّارةً له، ويبقى حقّ القتيل يُرضيه الله عنه، إن تاب القاتل أرضى الله القتيل .

فالقاتل عليه حقوق: حقّ لله في التوبة، وحقّ للورثة في القصاص أو الدّية، وحقّ للقتيل يتحمّله الله عن العبد إذا تاب وأقلع ورجع، هذا من فضله ، ولكن الآية الكريمة تُفيد الحذر، تُفيد وجوب الحذر من العدوان والظلم، ولا سيما القتل، فإنَّه أعظم الجرائم بعد الشِّرك بالله ؛ ولهذا قرنه الله به، لما سُئل النبيّ: أيّ الذنب أعظم؟ قال: أن تدعو لله ندًّا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تُزاني حليلة جارك، فأنزل الله الآية: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ.

والواجب على المؤمن الحذر من الظلم كلّه، سواء كان في النفس، أو غير النفس: كالمال والعرض، كما في الحديث الصحيح: يقول ﷺ: مَن كان عنده لأخيه مظلمة من عرضٍ أو شيءٍ فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ من حسناته بقدر مظلمته، فإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه. خرجه البخاري في "الصحيح".

وهكذا في الحديث الآخر يقول ﷺ: ما تعدّون المفلس فيكم؟ قالوا: مَن لا درهمَ له ولا متاع. هذا المفلس في عُرف الناس، وفي لغة العرب: المفلس: الذي ما عنده شيء، لكن المفلس الحقيقي هو المفلس من الدِّين، هو الذي ارتكب المحارم، قال: ولكن المفلس مَن يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصومٍ وصدقةٍ، وقد ظلم هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، فيُعطى هذا من حسناته، ويُعطى هذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته ولم يقضِ ما عليه أُخذ من سيئاتهم فطُرحت عليه، ثم طرح في النار، نسأل الله العافية، هذا هو الفلس العظيم الخطير، نسأل الله العافية.

فالواجب على المؤمن أن يحذر في هذه الدار أن يتعدّى على أخيه، وأن يحذر جميع الذنوب، وأن يحرص على أداء ما فرض الله عليه، وأن يستكثر من الحسنات، ويحذر من السيئات، هذا هو طريق النجاة، هذا هو الكيس، هذا هو الحزم: أن يبتعد عمَّا حرم الله، وأن يجتهد في أداء فرائض الله، وأن يستكثر من الخير، نعم.

وفي حديثٍ آخر: لو اجتمع أهلُ السّماوات والأرض على قتل رجلٍ مسلمٍ لأكبَّهم الله في النار.

وفي الحديث الآخر: ومَن أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمةٍ جاء يوم القيامة مكتوبٌ بين عينيه: آيس من رحمة الله.

وقد كان ابن عباسٍ يرى أنَّه لا توبةَ لقاتل المؤمن عمدًا.

وقال البخاري: حدثنا آدم: حدثنا شعبة: حدثنا المغيرة بن النعمان، قال: سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهلُ الكوفة، فرحلت إلى ابن عباسٍ فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء.

وكذا رواه هو أيضًا ومسلم والنَّسائي من طرقٍ عن شعبة، به.

ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، عن ابن مهدي، عن سفيان الثوري، عن مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ في قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ فقال: ما نسخها شيء.

وقال ابنُ جرير: حدثنا ابن بشار: حدثنا ابن عون: حدثنا شعبة، عن سعيد بن جبير، قال: قال عبدالرحمن بن أبزا: سُئل ابن عباسٍ عن قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا الآية، قال: لم ينسخها شيء.

وقال في هذه الآية: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الفرقان:68] إلى آخرها، قال: نزلت في أهل الشِّرك.

وقال ابنُ جرير أيضًا: حدثنا ابن حميد: حدثنا جرير، عن منصور: حدثني سعيد بن جبير، أو حدَّثني الحكم، عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عباسٍ عن قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ قال: إنَّ الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنًا مُتعمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ، ولا توبةَ له.

فذكرتُ ذلك لمجاهد فقال: إلا مَن ندم.

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا: حدثنا جرير، عن يحيى الجابر، عن سالم ابن أبي الجعد، قال: كنا عند ابن عباسٍ بعدما كفّ بصره، فأتاه رجلٌ، فناداه: يا عبدالله بن عباس، ما ترى في رجلٍ قتل مؤمنًا مُتعمّدًا؟ فقال: جزاؤه جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، قال: أفرأيت إن تاب وعمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال ابنُ عباس: ثكلته أمّه! وأنّى له التوبة والهدى؟! والذي نفسي بيده، لقد سمعتُ نبيَّكم ﷺ يقول: ثكلته أمّه! قاتل مؤمن مُتعمدًا جاء يوم القيامة آخذه بيمينه، أو بشماله، تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله، وبيده الأخرى رأسه، يقول: يا ربّ، سل هذا فيمَ قتلني؟، وايم الذي نفس عبدالله بيده، لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آيةٍ حتى قُبض نبيّكم ﷺ، وما نزل بعدها من برهانٍ.

الشيخ: وهذا من ابن عباس فهمٌ فهمه، وخالفه جمهور أهل العلم، وقالوا: إنَّ التوبة مقبولة منه ومن غيره، والشرك أعظم من القتل، الشرك بالله هو أعظم الذنوب، ومَن تاب تاب الله عليه؛ ولهذا قال في آية الفرقان: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ نفس الآية: وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۝ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۝ إِلَّا مَنْ تَابَ نفس الآية: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70].

وهكذا قال في المشركين: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة:17] يعني: إلا مَن تاب.

وهكذا جميع الوعيد مُقيد بعدم التوبة، يقول النبي ﷺ: التوبة تجبّ ما كان قبلها، والإسلام يهدم ما كان قبله، ويقول -جلَّ وعلا-: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، هذا من جميع الذنوب.

فالصواب ما قاله الجمهور في هذه المسألة، وما قاله ابن عباسٍ في هذا وهمٌ منه، وهو غلطٌ، والصواب أنَّ التوبة مقبولة من القاتل وغيره، وحقّ القتيل لا يضيع، وحقّ الورثة أخذوه بالقصاص، أو بالدّية، أو بالعفو، نعم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة: سمعت يحيى بن المجيز.

الشيخ: "يحيى بن المجيز" حطّ عليه إشارة، "التعجيل" موجود؟

الطالب: نعم.

الشيخ: انظر "يحيى"، وإلا "التقريب"، هذا وهذا.

مداخلة: في نسخة (الشعب): يحيى بن المجبر.

الشيخ: يُراجع هذا وهذا، نعم.

يُحدّث عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن عباسٍ: أنَّ رجلًا أتى إليه فقال: أرأيت رجلًا قتل رجلًا عمدًا؟ فقال: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا الآية، قال: لقد نزلت من آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قُبض رسول الله ﷺ، وما نزل وحي بعد رسول الله ﷺ. قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال: وأنَّى له بالتوبة؟! وقد سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: ثكلته أمّه! رجل قتل رجلًا مُتعمدًا يجيء يوم القيامة آخذًا قاتله بيمينه أو بيساره -أو آخذًا رأسه بيمينه أو بشماله- تشخب أوداجه دمًا من قبل العرش، يقول: يا ربّ، سل عبدك فيمَ قتلني؟.

وقد رواه النسائي عن قتيبة، وابن ماجه عن محمد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة، عن عمار الدّهني.

.............

س: حديث ابن عباس هذا هل فيه عدم قبول التوبة، أو إخبار عن المقتول فقط؟

ج: ابن عباس يرى أنَّه لا توبةَ له.

س: لكن ما فيه تصريح بعدم قبول التوبة في كلامه؟

ج: هذا مقصوده، مقصوده أنَّه لا توبةَ له، لو تاب ما له توبة، لكنه قول مرجوح .....، فهم فهمه وغلط فيه .

س: ما جاء عن ابن عباسٍ أنه رجع عن هذا القول؟

ج: ما أتذكر، أقول: ما أتذكر.

مداخلة: الشيخ مقبل في تعليق على نسخة التفسير ذكر في الحاشية: يحيى بن الجبر، وهو يحيى بن عبدالله بن الحارث الجابر المتقدّم.

الشيخ: ممكن، انظر: يحيى بن جبر. يُراجع لعله غلط، سماه: مجبرًا أو مجيزًا، التَّصحيف كثير، التصحيف يقع.

مداخلة: عزاه للنسائي هنا، وليس من رجال النسائي، يحيى بن عبدالله بن جابر ليس من رجال النَّسائي.

الشيخ: ورواه؟

وقد رواه النَّسائي عن قتيبة، وابن ماجه عن محمد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة، عن عمار الدهني ويحيى الجابري وثابت الثّمالي، عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن عباسٍ. فذكره.

الشيخ: دوّر على يحيى الجابري، لعله هو في آخر يحيى.

وقد رُوِيَ هذا عن ابن عباسٍ من طرقٍ كثيرةٍ.

وممن ذهب إلى أنَّه لا توبةَ له من السلف: زيد بن ثابت، وأبو هريرة، وعبدالله بن عمر، وأبو سلمة ابن عبدالرحمن، وعبيد بن عمير، والحسن، وقتادة، والضّحاك بن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم.

وفي الباب أحاديث كثيرة، فمن ذلك: ما رواه أبو بكر ابن مردويه الحافظ في تفسيره: حدثنا دعلج بن أحمد: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي. (ح)، وحدثنا عبدالله بن جعفر، وحدثنا إبراهيم بن فهد، قالا: حدثنا عبيد بن عبيدة: حدثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي عمرو ابن شرحبيل.

الشيخ: عندكم أبي أو عن عمرو بن شرحبيل؟

أحد الطلبة: عندي نسخة: عن ابن عمرو بن شرحبيل.

الشيخ: حط عليه إشارة، ويراجع.

بإسناده عن عبدالله بن مسعود، عن النبي ﷺ قال: يجيء المقتول مُتعلِّقًا بقاتله يوم القيامة، آخذًا رأسه بيده الأخرى، فيقول: يا ربّ، سَلْ هذا فيمَ قتلني؟ قال: فيقول: قتلتُه لتكون العزّةُ لك، فيقول: فإنَّها لي، قال: ويجيء آخر مُتعلِّقًا بقاتله، فيقول: ربّ، سَلْ هذا فيمَ قتلني؟ قال: فيقول: قتلتُه لتكون العزَّة لفلان، قال: فإنَّها ليست له، بؤ بإثمه. قال: فيهوي في النار سبعين خريفًا.

وقد رواه النَّسائي عن إبراهيم بن المستمرّ العوفي، عن عمرو بن عاصم، عن مُعتمر بن سليمان، به.

حديثٌ آخر: قال الإمامُ أحمد: حدثنا صفوان بن عيسى: حدثنا ثور بن يزيد، عن أبي عون، عن أبي إدريس، قال: سمعت معاوية يقول: سمعت النبي ﷺ يقول: كل ذنبٍ عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا مُتعمِّدًا.

وكذا رواه النَّسائي عن محمد بن المثنى، عن صفوان بن عيسى، به.

وقال ابن مردويه: حدثنا عبدالله بن جعفر: حدثنا سمويه: حدثنا عبدالأعلى بن مسهر: حدثنا صدقة بن خالد: حدثنا خالد بن دهقان: حدثنا ابن أبي زكريا، قال: سمعت أم الدَّرداء تقول: سمعت أبا الدَّرداء يقول: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: كل ذنبٍ عسى الله أن يغفره إلا مَن مات مشركًا، أو مَن قتل مؤمنًا مُتعمدًا. وهذا غريبٌ جدًّا من هذا الوجه، والمحفوظ حديث معاوية المتقدّم، فالله أعلم.

الشيخ: كل هذا وأشباهه فيمَن لم يتب، ما جاء من الوعيد في حقِّ المشرك وحقِّ القاتل وغيرهما كلّه مقيد بعدم التوبة، نعم.

س: مَن حمل ما ثبت عن ابن عباسٍ على حقّ القتيل في الآخرة؟

ج: كلام ابن عباس صريح، ما يتحمل تأويلًا، نعم.

مُداخلة: "تفسير القرطبي" ذكر رجوع ابن عباس.

الشيخ: إن صحَّ، وما أظنّه، ولكن ينظر في سنده، فالمعروف أنه لم يرجع، لكن انظر سنده عندك.

ثم روى ابنُ مردويه من طريق بقية بن الوليد، عن نافع بن يزيد: حدثني ابن جبير الأنصاري، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ قال: مَن قتل مؤمنًا مُتعمدًا فقد كفر بالله .

الشيخ: هذا ضعيفٌ، ليس بصحيحٍ؛ لأنَّ بقية مُدلس، وقد عنعن، وابن جبير هذا الأنصاري محل نظرٍ.

وهذا حديثٌ مُنكر أيضًا.

الشيخ: مثلما قال المؤلف: منكر بلا شكّ.

فإسناده مُتكلم فيه جدًّا.

قال الإمام أحمد: حدثنا النضر: حدثنا سليمان بن المغيرة: حدثنا حميد، قال: أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي، فقال لنا: هلمّا فأنتما أشبّ سنًّا مني.

الشيخ: ولو صحّ فالمراد به كفر دون كفرٍ، مثلما في حديث: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، من باب كفر دون كفر، واثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النَّسب، والنياحة على الميت، نعم، لو صحَّ.

قال الإمام أحمد: حدثنا النَّضر.

الشيخ: لعله: ابن النضر، هاشم بن النضر، شيخ المؤلف، حطّ عليه إشارة، وراجع الأصل.

حدثنا سليمان بن المغيرة: حدثنا حميد، قال: أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي، فقال لنا: هلما فأنتما أشبّ سنًّا مني، وأوعى للحديث مني. فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم، فقال له أبو العالية: حدّث هؤلاء بحديثك. فقال: حدثنا عقبة بن مالك الليثي، قال: بعث رسول الله ﷺ سريَّةً فأغارت على قومٍ، فشدّ مع القوم رجلٌ، فاتبعه رجلٌ من السرية شاهرًا سيفه، فقال الشَّادُّ من القوم: إني مسلمٌ. فلم ينظر فيما قال، قال: فضربه فقتله، فنمى الحديثُ إلى رسول الله ﷺ، فقال فيه قولًا شديدًا، فبلغ القاتل، فبينا رسول الله ﷺ يخطب إذ قال القاتل: والله ما قال الذي قال إلا تعوذًا من القتل. قال: فأعرض رسول الله ﷺ عنه وعمَّن قبله من الناس، وأخذ في خُطبته، ثم قال أيضًا: يا رسول الله، ما قال الذي قال إلا تعوّذًا من القتل. فأعرض عنه وعمَّن قبله من الناس، وأخذ في خُطبته، ثم لم يصبر حتى قال الثالثة: والله يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوّذًا من القتل. فأقبل عليه رسول الله ﷺ تعرف المساءة في وجهه، فقال: إنَّ الله أبى على مَن قتل مؤمنًا ثلاثًا.

الشيخ: وهذا إن صحَّ مثلما جاء في حديث أسامة لما قتل الرجل الذي قال: "لا إله إلا الله"، قال له النبي ﷺ لما قال له أسامة: إنما قالها تعوّذًا. قال: هلا شققتَ عن قلبه؟! المقصود أنَّ مَن أظهر الإسلام يجب الكفّ عنه.

ورواه النَّسائي من حديث سليمان بن المغيرة.

والذي عليه الجمهور من سلف الأمّة وخلفها: أنَّ القاتل له توبة فيما بينه وبين الله ، فإن تاب وأناب، وخشع وخضع، وعمل عملًا صالحًا بدّل اللهُ سيئاته حسنات، وعوّض المقتول من ظلامته، وأرضاه عن ظلامته، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إلى قوله: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا [الفرقان:68-70]، وهذا خبرٌ لا يجوز نسخه وحمله على المشركين، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليلٍ، والله أعلم.

الشيخ: مثلما قال المؤلف، صدق، الآية عامّة: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ من قاتل ومُشرك، والمشرك أعظم، نعم.

وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]، وهذا عامٌّ في جميع الذنوب: من كفرٍ، وشركٍ، وشكٍّ، ونفاقٍ، وقتلٍ، وفسقٍ، وغير ذلك، كل مَن تاب –أي: من أي ذلك- تاب الله عليه، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، فهذه الآية عامّة في جميع الذنوب ما عدا الشِّرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء، والله أعلم.

وثبت في "الصحيحين" خبر الإسرائيلي الذي قتل مئة نفسٍ، ثم سأل عالـمًا: هل لي من توبةٍ؟

الشيخ: قف على هذا، نسأل الله السلامة والعافية.