إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ [الأنفال:11-14].
يُذكّرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النُّعاس عليهم أمانًا أمّنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقِلّة عددهم، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد، كما قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ الآية [آل عمران:154].
قال أبو طلحة: كنتُ ممن أصابه النُّعاس يوم أحد، ولقد سقط السيفُ من يدي مرارًا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه، ولقد نظرتُ إليهم يميدون وهم تحت الحجف.
الشيخ: وهذا من فضل الله -جلَّ وعلا-، فإنَّ العدو كانوا أضعاف المسلمين يوم بدر ثلاث مرات، كانوا أضعافهم، كان المسلمون ثلاثمئة وبضعة عشر، والكفَّار نحو الألف، مع العُدّة الكثيرة والخيل، وغير ذلك، ولكن الله -جلَّ وعلا- نصر أولياءه، وأيَّدهم، وألقى عليهم النعاس أمنةً منه، وأيّدهم بالملائكة المردفين، فقال تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، فأنزل المطر تطهيرًا وتثبيتًا للأرض، والنّعاس أيضًا تأمينًا وتثبيتًا، ثم أعانهم على الحملة العظيمة التي بها هزموا العدو، وقتلوا سبعين من صناديدهم وكبارهم، وأسروا سبعين، حتى انهزم أعداء الله، نعم.
وهذا من أمثلة قوله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160] قللتم أو كثرتم: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقد يبتلي عباده المؤمنين بأسبابهم، فيدلّ العدو عليهم بأسبابٍ وقعت منهم، نعم.
..............
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زهير: حدثنا ابن مهدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي قال: ما كان فينا فارسٌ يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله ﷺ يُصلي تحت شجرةٍ ويبكي حتى أصبح.
وقال سفيان الثوري: عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبدالله بن مسعود أنَّه قال: النُّعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة من الشيطان.
وقال قتادة: النعاس في الرأس، والنوم في القلب.
قلتُ: أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد، وأمر ذلك مشهور جدًّا، وأما الآية الشَّريفة: إنما هي في سياق قصّة بدر، وهي دالّة على وقوع ذلك أيضًا، وكأنَّ ذلك كائنٌ للمؤمنين عند شدّة البأس؛ لتكون قلوبهم آمنةً مُطمئنةً بنصر الله، وهذا من فضل الله ورحمته بهم، ونعمته عليهم، وكما قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6]؛ ولهذا جاء في الصحيح: أنَّ رسول الله ﷺ لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق ، وهما يدعوان، أخذت رسول الله ﷺ سنةٌ من النوم، ثم استيقظ مبتسمًا، فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريلُ على ثناياه النَّقع.
الشيخ: على ثناياه النَّقع يعني: ثنايا جبريل.
ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45].
وقوله: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ، قال: نزل النبي ﷺ حين سار إلى بدرٍ والمشركون بينهم وبين الماء رملة دعصة، وأصاب المسلمين ضعفٌ شديدٌ.
مُداخلة: أحسن الله إليك، ذكر تعليقًا هنا، قال: في المخطوطة: "والمشركون بينهم وبين الماء"، ولا يستقيم عليه السياق، والمثبت عن تفسير الطبري، يعني قوله: "والمسلمون بينهم وبين الماء" بدل: "والمشركون".
الشيخ: نعم، نعم، والمسلمون، نعم.
الشيخ: "مَجنبة" عن يمين الجيش وشماله.
س: تعاطوا، أو تعاظموا؟
ج: تعاطوا الوسوسة، يعني: دارت الوسوسة في صدورهم.
وملأوا الأسقية، وسقوا الركاب، واغتسلوا من الجنابة، فجعل الله في ذلك طهورًا، وثبّت به الأقدام، وذلك أنَّه كانت بينهم وبين القوم رملة، فبعث اللهُ المطر عليها، فضربها حتى اشتدّت وثبتت عليها الأقدام.
ونحو ذلك رُوِيَ عن قتادة والضَّحاك والسّدي.
س: هل صحَّ أنَّهم صلوا مُجنبين؟
ج: الله أعلم، جاءت آثار، والله أعلم، وقد يكون بعضُهم احتلم، قد يكون بعضهم خرج مددًا للنبي ﷺ سريعًا قبل أن يغتسل، محتمل، ما فيه نصّ عن النبي ﷺ.
وقد رُوي عن سعيد بن المسيب، والشعبي، والزهري، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم: إنَّه طشّ أصابهم يوم بدرٍ.
والمعروف أنَّ رسول الله ﷺ لما سار إلى بدرٍ نزل على أدنى ماء هناك، أي: أول ماءٍ وجده، فتقدّم إليه الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته منزلٌ أنزلك اللهُ إياه، فليس لنا أن نُجاوزه، أو منزلٌ نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال: بل منزلٌ نزلتُه للحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، إنَّ هذا ليس بمنزلٍ، ولكن سِرْ بنا حتى ننزل على أدنى ماءٍ يلي القوم، ونغور ما وراءه من القلب.
الشيخ: القلب جمع: قليب.
مُداخلة: عندنا "نعور" بالمهملة.
الشيخ: "نغور" بالغين.
مُداخلة: أحسن الله إليك، ذكر في الحاشية قال: وهو القليب في "مستدرك تاج العروس"، مادة: عور، وقال الشّمر: عورت عيون المياه؛ إذا دفنتها وسددتها، وينظر "الروض الأنف" للسّهيلي.
الشيخ: محتمل، محتمل، لكن اللغة الشَّائعة: التغوير، يعني: يذهب ماؤها بأي معنى.
الشيخ: والآية الكريمة واضحة في نزول الماء للتَّثبيت، وأنَّ عندهم ماءً، وجود الماء عندهم؛ ولهذا نزلوا في أعلاها حتى حالوا بينها وبين المشركين، والله يقول: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11]، فهذا واضحٌ في أنَّ الأرض كانت مُحتاجةً إلى التَّثبيت، والماء الذي نزله ليُطهركم به هو الذي يذهب به رجز الشيطان، فهم محتاجون للماء للتَّثبيت والتَّطهير، لعلّ في منزلٍ من المنازل، نعم، مع وجود الماء الذي في الآبار، وفي العيون، نعم.
الشيخ: الأموي نسبة إلى أمية، مثل: جهني نسبة إلى جُهينة.
أنَّ الحباب لما قال ذلك نزل ملكٌ من السَّماء وجبريل جالسٌ عند رسول الله ﷺ، فقال ذلك الملك: "يا محمد، إنَّ ربك يُقرئك السلام، ويقول لك: إنَّ الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر"، فالتفت رسولُ الله ﷺ إلى جبريل فقال: هل تعرف هذا؟ فنظر إليه فقال: ما كلّ الملائكة أعرفهم، وإنَّه ملكٌ، وليس بشيطانٍ.
وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب "المغازي" -رحمه الله: حدَّثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال: بعث اللهُ السَّماء، وكان الوادي دهسًا، فأصاب رسول الله ﷺ وأصحابه ما لبد لهم الأرض، ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشًا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه.
وقال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس، فأطفأ بالمطر الغبار، وتلبّدت به الأرض، وطابت نفوسهم، وثبتت به أقدامهم.
وقال ابنُ جرير: حدَّثنا هارون بن إسحاق: حدثنا مصعب بن المقدام: حدثنا إسرائيل: حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن عليٍّ قال: أصابنا من الليل طشّ من المطر –يعني: الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدرٍ- فانطلقنا تحت الشّجر والحجف نستظلّ تحتها من المطر، وبات رسولُ الله ﷺ وحرض على القتال.
س: الحجف أو الحجف؟
ج: الظاهر أنها بالفتحة: حجفة، جمعها: حجف، مثل: خرزة وخرز.
مُداخلة: أحسن الله إليك، الحجف بفتحتين، وواحدها: حجفة، وهي الترس يكون من الجلود .....
الشيخ: هو الظاهر، نعم، حجفة بالإفراد، والجمع: حجف.
وقوله: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أي: من حدثٍ أصغر أو أكبر، وهو تطهير الظاهر، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ أي: من وسوسةٍ أو خاطرٍ سيئ، وهو تطهير الباطن، كما قال تعالى في حقِّ أهل الجنة: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ فهذا زينة الظاهر، وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] أي: مُطهرًا لما كان من غلٍّ أو حسدٍ أو تباغضٍ، وهو زينة الباطن وطهارته.
وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ أي: بالصبر والإقدام على مُجالدة الأعداء، وهو شجاعة الباطن، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ وهو شجاعة الظاهر، والله أعلم.
وقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا وهذه نعمة خفيّة أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها، وهو أنَّه تعالى وتقدّس وتبارك وتمجد أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين يُوحي إليهم فيما بينه وبينهم: أن يُثبّتوا الذين آمنوا. قال ابنُ إسحاق: وازروهم. وقال غيره: قاتلوا معهم. وقيل: كثروا سوادهم.
الشيخ: أو المعنى: قاتلوا معهم وكثروا، تفسير الأمر الذي في الآية الكريمة، نعم.
وقيل: كان ذلك بأنَّ الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي ﷺ فيقول: سمعت هؤلاء القوم –يعني: المشركين- يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفنَّ. فيُحدّث المسلمون بعضُهم بعضًا بذلك؛ فتقوى أنفسُهم. حكاه ابنُ جرير، وهذا لفظه بحروفه.
وقوله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي: ثبّتوا أنتم المؤمنين، وقووا أنفسهم على أعدائهم عن أمري لكم بذلك، سأُلقي الرعب والذّلة والصَّغار على مَن خالف أمري، وكذّب رسولي.
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ أي: اضربوا الهام ففلقوها، واحتزّوا الرِّقاب فقطعوها، وقطعوا الأطراف منهم، وهي أيديهم وأرجلهم.
وقد اختلف المفسّرون في معنى فَوْقَ الْأَعْنَاقِ فقيل: معناه: اضربوا الرؤوس. قاله عكرمة، وقيل: معناه: أي على الأعناق، وهي الرِّقاب. قاله الضّحاك وعطية العوفي، ويشهد لهذا المعنى أنَّ الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4].
وقال وكيع: عن المسعودي، عن القاسم، قال: قال النبي ﷺ: إني لم أُبعث لأُعذّب بعذاب الله، إنما بُعثتُ لضرب الرِّقاب وشدّ الوثاق.
واختار ابنُ جرير أنها قد تدلّ على ضرب الرِّقاب وفلق الهام.
قلتُ: وفي "مغازي الأموي": أنَّ رسول الله ﷺ جعل يمرّ بين القتلى يوم بدر، فيقول: نفلق هامًا، فيقول أبو بكر:
من رجالٍ أعزّة علينا | وهم كانوا أعقّ وأظلما |
فيبتدئ رسولُ الله ﷺ بأول البيت، ويستطعم أبا بكر إنشاد آخره؛ لأنَّه كان لا يُحسن إنشاد الشعر، كما قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69].
وقال الربيع بن أنس: كان الناسُ يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان، مثل: سمة النار قد أحرق به.
وقوله: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ قال ابنُ جرير: معناه: واضربوا من عدوكم أيّها المؤمنون كلّ طرفٍ ومفصلٍ من أطراف أيديهم وأرجلهم.
والبنان جمع: بنانة، كما قال الشاعر:
ألا ليتني قطعت مني بنانة | ولاقيته في البيت يقظان حاذرا |
وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ يعني: بالبنان الأطراف.
وكذا قال الضّحاك وابن جرير.
الشيخ: والمقصود من هذا كلّه حثّهم على الجدِّ والنشاط والإقدام والصَّبر، وهذا وعدٌ لهم بالنَّصر، وتأييد لهم من ربهم -جلَّ وعلا-، فإنَّ ضرب الرقاب وضرب الرؤوس وضرب البنان من أسباب الهزيمة، وسقوط الأسلحة، سقوط السلاح من أيديهم، وذلّهم ونكوصهم على أعقابهم إذا رأوا شدّة الضَّرب وشدّة الإقدام، وهذا من نصر الله -جلَّ وعلا-؛ لأنَّ القوم كثيرون، والمسلمين قليلون، فكان من رحمة الله أن ثبّتهم، وقوّى قلوبهم، وأيّدهم بالملائكة، حتى صارت لهم العون العظيم، والقوة العظيمة، والصّبر العظيم الذي به هزم اللهُ العدو، وقتل مَن قتل منهم؛ فضلًا منه .
ولا شكّ أنَّ الأمر جديرٌ بذلك؛ لأنَّ قومًا كثيرين عندهم الحقد العظيم والعداوة العظيمة لأهل الإيمان، والمسلمون قليل، فلا ريبَ أنَّ العدو تكون عنده غاية من الحنق والكبر والتَّعاظم، ولا بدَّ أنَّ المسلمين قد يعتريهم من وسوسة الشيطان وتزيينه وتخذيله ما يُؤذيهم؛ لقلتهم وكثرة عدوهم، فنصر الله عباده المؤمنين، وأيّدهم، وقوّى قلوبهم، وأيّدهم بالملائكة في مقابل ما عندهم من النَّقص، وما عند عدوهم من الكثرة والقوة؛ فضلًا من الله ، نعم.
وقال السّدي: البنان: الأطراف، ويُقال: كلّ مفصلٍ.
وقال عكرمة وعطية العوفي والضّحاك في روايةٍ أخرى: كل مفصلٍ.
وقال الأوزاعي في قوله تعالى: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ قال: اضرب منه الوجه والعين، وارمه بشهابٍ من نارٍ، فإذا أخذته حرم ذلك كلّه عليك.
وقال العوفي: عن ابن عباسٍ: فذكر قصّة بدر.
الشيخ: والآية واضحة في أنَّ المراد حثّهم على ضرب الأعناق، وضرب الأيدي التي فيها السلاح، فإنَّه إذا تعطّلت يداه ما استطاع أن يرمي، ولا استطاع أن يضرب، فالله حثَّهم على ضرب الأعناق وضرب الرؤوس التي بها هلاكهم، وضرب الأيدي التي فيها السلاح؛ حتى تتعطل ويعجزوا عن القتال بالأيدي التي تُمسك السلاح.
س: حديث: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة؟
ج: هذا في القتل الاختياري، وأمَّا هذا في الحرب، وفي الحرب يضرب ما تيسّر، أمَّا مع إقامة الحدود فهذا يقتل القتلة الحسنة عند إقامة الحدود.
س: الأسرى لو رأى وليُّ الأمر أن يقطع أيديهم؛ نظرًا لأنَّ السلاح يكون باليدين؟
ج: لا، الأصل أن يُقتلوا القتلة الشَّرعية، نعم.
س: لكن لو كان في فداءٍ؟
ج: لا، ما يصلح إلا إذا فعلوا بنا ذلك، فقد يُجازون من باب القصاص.
س: قوله -عليه الصلاة والسلام: إني لم أُبعث لأُعذّب بعذاب الله؟
ج: يعني: بالنار، لكن يُعذّب بإقامة القتال بالسيف والرمح ونحو ذلك، لا بالنار؛ إنَّ النار لا يُعذّب بها إلا الله سبحانه.
إلى أن قال: فقال أبو جهل: لا تقتلوهم قتلًا، ولكن خذوهم أخذًا؛ حتى تُعرِّفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم، ورغبتهم عن اللَّات والعزّى. فأوحى الله إلى الملائكة: أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ الآية، فقُتل أبو جهل -لعنه الله- في تسعةٍ وستين رجلًا، وأُسِرَ عقبة بن أبي معيط فقُتل صبرًا، فوفى ذلك سبعين، يعني: قتيلًا.
ولهذا قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: خالفوهما، فساروا في شقٍّ، وتركوا الشرعَ والإيمانَ به واتِّباعه في شقٍّ، ومأخوذ أيضًا من شقِّ العصا، وهو جعلها فرقتين.
وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أي: هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه، لا يفوته شيء، ولا يقوم لغضبه شيء -تبارك وتعالى-، لا إله ولا ربَّ سواه.
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ هذا خطابٌ للكفَّار، أي: ذوقوا هذا العذاب والنَّكال في الدنيا، واعلموا أيضًا أنَّ للكافرين عذاب النار في الآخرة.
الشيخ: هذا جزاؤهم، نسأل الله العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، الغضب في الدنيا والعذاب العاجل، والعذاب في الآخرة، ومَن أُمهل وأُنظر كان عذابه أشدّ، نسأل الله العافية.
س: ما صحّة قوله: ..... إنَّه ملك، وليس بشيطانٍ؟
ج: يقوله جبرائيل، ما هو الحباب الذي يقوله، يقوله جبرائيل، النبي سأل جبرائيل فقال هذا الكلام، الملك يقول: "إنَّ الرأي ما قاله الحباب"، والنبي ﷺ سأل جبرائيل: هل تعرف هذا الملك الذي جاء إلى النبي ﷺ؟ فقال .....، ولكن هذا الذي جاءك بالخبر ليس بشيطانٍ، ولكنه ملك.