وقال ابنُ جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهدٍ، قال: أراد رجالٌ منهم عثمان بن مظعون وعبدالله بن عمرو أن يتبتلوا، ويُخصوا أنفسهم، ويلبسوا المسوح، فنزلت هذه الآية إلى قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة:88].
قال ابنُ جريج: عن عكرمة: أنَّ عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالـمًا مولى أبي حُذيفة في أصحابه تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النِّساء، ولبسوا المسوح، وحرَّموا طيبات الطعام واللباس، إلا ما يأكل ويلبس أهلُ السياحة من بني إسرائيل، وهمّوا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل، وصيام النَّهار، فنزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]، يقول: لا تسيروا بغير سنة المسلمين، يُريد ما حرَّموا من النساء والطَّعام واللباس، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النَّهار، وما همُّوا به من الاختصاء، فلمَّا نزلت فيهم بعث إليهم رسولُ الله ﷺ فقال: إنَّ لأنفسكم حقًّا، وإنَّ لأعينكم حقًّا، صوموا وأفطروا، وصلّوا وناموا، فليس منا مَن ترك سُنّتنا، فقالوا: اللهم سلَّمنا واتَّبعنا ما أنزلتَ.
الشيخ: وهذا من رحمة الله -جلَّ وعلا- أن حرَّم على عباده التَّشديد على أنفسهم، والتَّكلف الذي يضرّهم في دينهم ودُنياهم، فقال -جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وفي هذا المعنى الحديث السابق لما سألوا عن عمل النبي في السّر، وأُخبروا بعمل النبي ﷺ، قالوا: إنَّه قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. فقال أحدُهم: أما أنا فأصوم ولا أُفطر. والآخر قال: أما أنا فأقوم ولا أنام. والآخر قال: أما أنا فلا أتزوّج النساء. والآخر قال: لا آكل اللَّحم. فلمَّا بلغ النبي خطب الناس -عليه الصلاة والسلام- وذكّرهم بالله، وقال: ولكني أُصلي وأنام، وأصوم وأُفطر، وأتزوج النساء، فمَن رغب عن سُنتي فليس مني.
من رحمة الله أن شرع تعاطي الطّيبات من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك، وشرع الزواج حتى يعفّ الإنسانُ فرجَه، وحتى تكثر الأمّة، ويكثر الولد، كلّ هذا من رحمة الله -جلَّ وعلا-؛ ولهذا لما همَّ جماعةٌ من الصحابة بالتَّبتل والاختصاء وترك الطّيبات أنزل اللهُ فيهم ما أنزل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، وقال تعالى في عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64]، وقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].
فالمؤمن يُصلي ويصوم ويتصدّق، ولكن في الوسط، لا إسراف، ولا تبذير، ولا مشقّة على نفسه، يصوم ويُفطر، ويقوم يُصلي، يقوم وينام، ويتزوج، ويأكل من الطّيبات، ويلبس من الطّيبات التي أباح الله له -جلَّ وعلا-، فلا غلو، ولا تفريط، ولكن بين ذلك، لا إفراط، ولا تفريط؛ ولهذا يقول -جلَّ وعلا: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29]، وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا.
فقوله -جلَّ وعلا: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17] ما يُخالف هذا، هذا وهذا: يتهجد بالليل ويقوم بالليل ويُصلي من الليل، لكن ينام ما يسّر اللهُ له، ويتقوّى بهذا على هذا، يصوم ما يسّر الله له، ويُفطر، ويتقوّى بهذا على هذا، يتصدّق ويُنفق ويُمسك لحاجته، نعم، الله المستعان.
وقد ذكر هذه القصّة غير واحدٍ من التابعين مُرسلةً، ولها شاهدٌ في "الصحيحين" من رواية عائشة أم المؤمنين، كما تقدّم ذلك، ولله الحمد والمنّة.
وقال أسباط: عن السّدي في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وذلك أنَّ رسول الله ﷺ جلس يومًا فذكّر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التَّخويف.
مداخلة: في نسخةٍ عفا الله عنكم: "ويزهدهم".
الشيخ: لا، ولم يزدهم على التَّخويف؛ يعني: التَّحذير، خافوا لما ذكّرهم، ولم يذكر الرجاء، ذكّرهم وخوّفهم، خافوا وهمّوا بهذا التَّكلف، نعم.
مداخلة: في نسخةٍ: ما حقّنا إن لم نُحدث عملًا.
الشيخ: لا، ما خفنا، يقول: إن ما أحدثنا ما لنا خوف، إن ما أحدثنا عملًا يدلّ على الخوف.
مداخلة: ذكر في الحاشية يقول: في المخطوطة و"الدّر المنثور": "ما حقنا"، وما أثبتناه .....
الشيخ: لا، "ما خفنا" هو الأولى.
فإنَّ النصارى قد حرَّموا على أنفسهم، فنحن نُحرّم. فحرّم بعضُهم أن يأكل اللَّحم والودك، وأن يأكل بالنَّهار، وحرّم بعضُهم النوم، وحرّم بعضُهم النِّساء، فكان عثمان بن مظعون ممن حرّم النساء، فكان لا يدنو من أهله، ولا يدنون منه، فأتت امرأتُه عائشة -رضي الله عنها-، وكان يُقال لها: الحولاء، فقالت لها عائشةُ ومَن عندها من أزواج النبي ﷺ: ما بالكِ يا حولاء مُتغيرة اللون، لا تمتشطين، ولا تتطيبين؟! فقالت: وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع عليَّ زوجي، وما رفع عني ثوبًا منذ كذا وكذا؟! قال: فجعلن يضحكن من كلامها، فدخل رسولُ الله ﷺ وهنَّ يضحكن، فقال: ما يُضحككنَّ؟ قالت: يا رسول الله، إنَّ الحولاء سألتُها عن أمرها، فقالت: ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا! فأرسل إليه فدعاه، فقال: ما لك يا عثمان؟ قال: إني تركته لله؛ لكي أتخلّى للعبادة. وقصّ عليه أمره.
وكان عثمان قد أراد أن يجُبّ نفسه، فقال رسولُ الله ﷺ: أقسمتُ عليك إلا رجعتَ فواقعت أهلك، فقال: يا رسول الله، إني صائم؟ فقال: أفطر، فأفطر وأتى أهله.
فرجعت الحولاءُ إلى عائشة وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت، فضحكت عائشةُ وقالت: ما لك يا حولاء؟ فقالت: إنَّه أتاها أمس.
فقال رسولُ الله ﷺ: ما بال أقوامٍ حرَّموا النِّساء والطَّعام والنوم؟! ألا إني أنام وأقوم، وأُفطر وأصوم، وأنكح النِّساء، فمَن رغب عني فليس مني، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، يقول لعثمان: لا تجُبّ نفسك، فإنَّ هذا هو الاعتداء. أمرهم أن يُكفّروا عن أيمانهم، فقال: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [المائدة:89]. رواه ابن جرير.
الشيخ: وهذا -كما تقدّم- من رحمة الله، فالله أرحم بعباده من أنفسهم، رحمهم -جلَّ وعلا- وأوسع لهم ، نعم.
س: قول الرجل: أقسمتُ عليك .....؟
ج: يعني: من باب التأكيد عليه.
س: وإن لم يفعل الرجلُ الآخر المقسَم عليه تلزمه الكفَّارة؟
ج: محل نظرٍ، أقول: محل نظرٍ؛ لأنَّ القسم لا بدَّ فيه أن يقول: بالله، أو تالله، أو الله، أو آلله، لا بدَّ من اليمين المعروفة.
س: ما صحّة هذا الأثر؟
ج: يحتاج إلى نظرٍ، لكن -الحمد لله- النصوص الصَّحيحة كافية.
مداخلة: في تعليق -أحسن الله إليك- يقول: هو ضعيفٌ من وجهين: أسباط حديثه ..... الحسن، وأيضًا بالإرسال، فإنَّ السّدي تابعي.
الشيخ: نعم، نعم.
..............
الشيخ: هذا يعمّ الإسراف، ويعمّ تعاطي الحرام، كلّه اعتداء، تعاطي الحرام اعتداء، والإسراف اعتداء، نعم.
الشيخ: وهذا هو الواجب على الجميع: أن يتَّقوا الله في كل شيءٍ، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1] خاطب الناس جميعًا: جنّهم وإنسهم، عربهم وعجمهم، ذكورهم وإناثهم، يجب أن يتَّقوا الله بفعل أمره، وترك نهيه، والوقوف عند حدوده أينما كانوا، ثم خصَّ المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:278]، فالناس جميعًا مأمورون بالتَّقوى، والمؤمنون بالوجه الأخص مأمورون بالتَّقوى، وهي أداء فرائض الله، وترك محارم الله، والحذر من كل ما يُغضبه ، سمي الدِّين؛ لأنَّه يقي أهله عذاب الله، فالإسلام والإيمان والهدى كلّه يُسمّى: تقوى، دين الله هو التَّقوى، سمَّاه الله: تقوى؛ لما فيه من الوقاية من عذاب الله وغضبه، وسمَّاه: إيمانًا؛ لما فيه من التَّصديق، وسمَّاه: إسلامًا؛ لما فيه من الذل والخضوع لله، وسمَّاه: برًّا؛ لما فيه من الخير العظيم، وسمَّاه: هدى؛ لما فيه من الهداية إلى الحقِّ والسلامة من ضدِّ الهدى، نعم، والله المستعان.
س: قول أبي بكر عندما أوّل الرؤيا فقال النبي: أصبتَ بعضًا وأخطأتَ بعضًا، قال: "أقسمت عليك تخبرني"، هل يقتضي أنَّ القسم، قال: لا تُقسم؟
ج: نعم، ما يظهر لي هذا.