تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}

الشيخ: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] ففي هذا حثّ المسلم على الاستقامة، وترغيبه في ذلك، وأنَّ الواجب عليه أن يستقيم على الحقِّ، ويثبت عليه حتى يلقى ربَّه، كما قال الله : وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، يُخاطب نبيَّه -عليه الصلاة والسلام-: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، ويقول -جلَّ وعلا-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ۝ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:102-103]، ويقول سبحانه: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ [هود:112]، ويقول : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13-14].

فالواجب أيّها الإخوة الاستقامة على دين الله، والتواصي بالحقِّ، والتعاون على البرِّ والتقوى حتى الموت، هكذا المؤمن في جميع حياته، وهكذا المؤمنة في جميع حياتها: تواصٍ بالحقِّ، وتناصح، وإيمان صادق، وعمل صالح حتى الموت.

هذه الدار هي دار العمل، هي دار المجاهدة، دار التواصي بالحقِّ، والتعاون على البرِّ والتقوى حتى الموت، وقد وعد الله المؤمنين بدار الكرامة، وبالرضا، والنَّعيم المقيم، كما سمعتم في قوله -جلَّ وعلا-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ۝ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:7-8]، هذا جزاء مَن خشي الله فاستقام على الحقِّ، استقام عن خشية الله، لا عن رياء، ولا عن سمعةٍ، ولا عن نفاقٍ، ولكن عن خشيةٍ لله، وعن إخلاصٍ له ومحبّةٍ وتعظيمٍ، استقام على الحقِّ فصار إلى الجنة والكرامة والرِّضا من الله.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يعني: آمنوا بالله وبرسوله، وأخلصوا لله العمل، وصدّقوا رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وآمنوا بكلِّ ما أخبر الله به ورسوله عمَّا كان، وما يكون، وعن أمر الجنة والنار، والصراط والميزان، وغير هذا من أخبار يوم القيامة، وأخبار الأمم الماضية، وغير ذلك، ثم عملوا: صدقوا وحققوا الإيمان بالعمل، فقالوا واعتقدوا الحقَّ، وعملوا واستقاموا على دين الله حتى الموت.

جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ يعني: جنات إقامة، يعني: بساتين فيها كل خيرٍ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يعني: جنات إقامة، ليس فيها ضغن ولا موت، بل نعيم دائم أبد الآباد: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ مع الرِّضا، هذا جزاء مَن استقام على الحقِّ وثبت عليه.

وقد فسر الاستقامة في قوله -جلَّ وعلا-: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71] هذه صفة المستقيمين، هذه أحوالهم: أولياء فيما بينهم، مُتواصون بالحقِّ، مُتناصحون، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ليس بينهم غلٌّ، ولا غشٌّ، ولا خداعٌ، ولا كذبٌ، ولا ظلمٌ، كل واحدٍ يُحاسِب نفسه ويُجاهدها حتى يُؤدِّي الحقَّ الذي عليه لله ولعباده.

وذكر من صفاتهم أنَّهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويُقيمون الصلاة، ويُؤتون الزكاة، ويُطيعون الله ورسوله، هذه نهاية الإيمان والكمال: إيمانٌ صادقٌ، وعملٌ صالحٌ، وتناصح، وتواصٍ بالحقِّ، واستمرار، واستقامة حتى الموت.

أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ فمن رحمته: توفيقه بالدنيا لهم، وهدايته لهم، وإعانته لهم، وفي الآخرة دخول الجنة، والنَّجاة من النار.

ويقول -جلَّ وعلا-: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، هذه السورة أيضًا فيها تفسير الاستقامة، وبيانها باختصارٍ: أنها إيمانٌ صادقٌ، وعملٌ صالحٌ، وتواصٍ بالحقِّ، وتواصٍ بالصبر، هذه صفة الرابحين، هذه صفة أهل الاستقامة: قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الأحقاف:13] معبودنا وإلهنا وخالقنا ورازقنا ومُدبر أمورنا هو الله وحده ، ثم حقَّقوا هذا القول بالعمل، فصار إيمانًا بالقلب، وإيمانًا باللسان، وإيمانًا بالجوارح، فآمنوا بالله ورسوله، ووحدوا الله، وأخلصوا له العبادة، وآمنوا برسوله -عليه الصلاة والسلام- واتَّبعوه، وانقادوا لشريعته، وتواصوا بالحقِّ، وتواصوا بالصبر.

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، فالمستقيمون هم الذين أحبوا الله ورسوله، واتَّبعوا رسولَ الله، واستقاموا على دينه حتى الموت.

والآيات يُفسّر بعضها بعضًا، ويُبين بعضها بعضًا، ويُصدّق بعضها بعضًا.

ومن أسباب الاستقامة: طلب العلم والتَّفقه في الدِّين، كما قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدِّين، فإنَّه متى تعلّم وتفقه عرف ما أوجب الله عليه فأدَّاه، وعرف ما حرَّم الله عليه فاجتنبه، وعرف سيرة الأخيار فسار على نهجهم.

فطلب العلم والتَّفقه في الدِّين من أعظم أسباب الاستقامة: تعرف حقّ الله، وتعرف سيرة عباده الصَّالحين، وتعرف ما نهى الله عنه، وتعرف ما أعدّ الله للأخيار، وما أعدّ الله للفُجَّار؛ فتعبد ربَّك على بصيرةٍ، وتسير على نهج الرسول على بصيرةٍ، وتُؤدِّي ما أوجب الله على بصيرةٍ، وتنتهي عمَّا حرم الله على بصيرةٍ.

هكذا المؤمن: يتفقه، ويتعلم، ويعمل.

ويقول -عليه الصلاة والسلام-: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل اللهُ له به طريقًا إلى الجنة، ويقول -جلَّ وعلا- في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] بماذا؟

بالعلم والعمل، وقاية النار لنفسك وأهلك بالعلم والعمل؛ تتعلم وتتفقه في الدِّين، وتُعلّم أهلك، وتُرشدهم، وتُعينهم على الخير، هذا هو الطريق: تواصٍ بحقٍّ، تناصح، تعلّم، تفقه في الدِّين، ومع التَّفقه تناصح وتعاون على الخير، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر مع أهلك، ومع جيرانك، ومع جُلسائك وزُملائك، ومع غيرهم، هكذا المؤمنون: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71] وعدهم بالرحمة بهذه الأعمال، بأعمالهم الطّيبة وعدهم الرحمة، وهي التوفيق في الدنيا، والسعادة في الآخرة.

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، نسأل الله أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه، والثَّبات عليه، وأن يُعيذنا وإياكم من شُرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، كما نسأله سبحانه أن يمنحنا وإياكم الاستقامة والثَّبات على الحقِّ حتى الموت.

ونسأله أيضًا -جلَّ وعلا- أن ينصر دينه، ويُعلي كلمته، وأن يُصلح أحوال المسلمين في كل مكانٍ، وأن يمنحهم الفقه في الدِّين، وأن يُولِّي عليهم خيارهم، ويُصلح قادتهم.

كما نسأله أن يُوفّق ولاة أمرنا لكل خيرٍ، وأن يُعينهم على كل خيرٍ، وأن ينصر بهم دينه، ويُعلي بهم كلمته، وأن يمنحهم الاستقامة والثَّبات على الحقِّ، وأن يجعلنا وإياكم وإياهم من الهداة المهتدين، وأن يُصلح لهم البطانة، إنَّه سميعٌ قريبٌ.

وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه.

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۝ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202].

يُخبر تعالى عن المتَّقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر، وتركوا ما عنه زجر: أنَّهم إِذَا مَسَّهُمْ أي: أصابهم طيفٌ، وقرأ الآخرون: طَائِفٌ، وقد جاء فيه حديثٌ، وهما قراءتان مشهورتان، فقيل: بمعنى واحدٍ. وقيل: بينهما فرقٌ.

ومنهم مَن فسّر ذلك بالغضب، ومنهم مَن فسّره بمسِّ الشيطان بالصّرع ونحوه، ومنهم مَن فسّره بالهمِّ بالذَّنب، ومنهم مَن فسّره بإصابة الذَّنب.

الشيخ: الحمد لله على ما يسر من العود إلى مجالس العلم، والطائف من الشيطان يشمل جميع نزغات الشيطان: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ يعني: شيئًا من نزغاته ووساوسه التي تُميلهم إلى الباطل، تَذَكَّرُوا ما عليهم من حقِّ الله، وتذكَّروا ما يجب عليهم من تعظيم الله وطاعته؛ فأفاقوا ورجعوا إلى الحقِّ، واستقاموا عليه.

هكذا المؤمن: كلما عرض له شيءٌ من الشيطان ووساوسه بأن يدعوه إلى التَّهاون بالصلاة، إلى الربا، إلى الزنا، إلى العقوق، إلى غير هذا من معاصي الله، أو التَّهاون في أمره؛ تذكّر عظمة الله وحقَّه عليه، وتذكّر أوامره ونواهيه، وتذكّر ما وعد الله به المتقين، وتذكّر ما وعد الله به المجرمين؛ فانصاع للحقِّ واستقام عليه، وأبصر طريقَه وسار على هدًى، وما ذاك إلا بسبب إيمانه بالله، وصدقه بعبادة الله، ورغبته فيما عند الله، فإيمانه الصَّادق يدعوه إلى مُحاربة هذا الطَّائف، والشيطان حريصٌ؛ يلتمس الغفلات، كالسارق الذي يسرق يلتمس غفلات الناس، فهو يلتمس ويتتبّع أيّ غفلةٍ وأيّ فرصةٍ ليزلّ بها العبد عن الطريق، وليدعوه بها إلى الباطل، وقد أصاب من أبينا آدم ما أصاب، فأدركه اللهُ بالرحمة حتى اجتباه وعافاه: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ۝ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122]، قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].

فالإنسان يُبتلى بطوائف الشيطان ونزغاته، فقد يُحاربه ويسلم، وقد يقع في المصيبة، ثم ينتبه فيُبادر بالتوبة، وإيمانه يدعوه إلى التَّذكر، إيمانه وصدقه مع الله، وما أعطاه الله من العلم والبصيرة يدعوه إلى التَّذكر عند وجود الطائف من الشيطان، فتارةً يكون ذلك بعد المصيبة، وتارةً قبل المصيبة ينتبه ويسلم، وتارةً يُدركه الشيطان ثم ينتبه فيُبادر بالتوبة والإصلاح، ويعفو الله عن ذنبه، ويجتبيه ويهديه.

فالواجب على المؤمن أن يحذر طوائف الشيطان ونزغاته، وأن ينتبه لخُبثه وترصّده للعبد وانتهازه الفرص، فإذا كان المؤمنُ يقظًا مُنتبهًا حذرًا وقاه اللهُ شرَّه، وكفاه طوائفه، وقد يُدرك منه بعض الشيء فينتبه ويُبادر بالتوبة، نعم.

وقوله: تَذَكَّرُوا أي: عقابَ الله، وجزيل ثوابه، ووعده، ووعيده، فتابوا وأنابوا، واستعاذوا بالله، ورجعوا إليه من قريبٍ: فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ أي: قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه.

وقد أورد الحافظُ أبو بكر ابن مردويه هاهنا حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: جاءت امرأةٌ إلى النبي ﷺ وبها طيفٌ، فقالت: يا رسول الله، ادعُ الله أن يشفيني. فقال: إن شئتِ دعوتُ الله فشفاكِ، وإن شئتِ فاصبري ولا حسابَ عليكِ، فقالت: بل أصبر ولا حسابَ عليَّ.

ورواه غير واحدٍ من أهل السُّنن، وعندهم قالت: يا رسول الله، إني أُصرع وأتكشّف، فادعُ الله أن يشفيني. فقال: إن شئتِ دعوتُ الله أن يشفيكِ، وإن شئتِ صبرتِ ولك الجنّة، فقالت: بل أصبر ولي الجنّة، ولكن ادعُ الله أن لا أتكشّف. فدعا لها، فكانت لا تتكشّف.

وأخرجه الحاكم في "مستدركه"، وقال: صحيحٌ على شرط مسلم، ولم يُخرجاه.

وقد ذكر الحافظُ ابن عساكر في ترجمة عمرو بن جامع من "تاريخه": أنَّ شابًّا كان يتعبّد في المسجد، فهويته امرأةٌ، فدعته إلى نفسها، فما زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل، فذكر هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ فخرَّ مغشيًّا عليه، ثم أفاق فأعادها فمات، فجاء عمرُ فعزَّى فيه أباه، وكان قد دُفِنَ ليلًا، فذهب فصلَّى على قبره بمَن معه، ثم ناداه عمرُ فقال: يا فتى، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]. فأجابه الفتى من داخل القبر: يا عمر، قد أعطانيهما ربي في الجنَّة مرتين.

س: أحسن الله إليك، نقل الحافظُ ابن كثير عن الحاكم أنَّ صاحب الصَّحيح لم يُخرج هذا الحديث، وتعقّبه المعلّق على النُّسخة فقال: إنَّه في "الصحيحين" من حديث ابن عباسٍ؟

ج: هو الظاهر: المرأة التي كانت تُصرع، نعم.

س: حديث ابن عباسٍ، والذي ذكر هنا من حديث أبي هريرة؟

ج: رضي الله عنهما جميعًا، كأنَّه فاته وقت الكتابة، نعم.

والحاصل أنَّ المؤمن ينتبه بسبب إيمانه الصَّادق وعمله الصَّالح، يُبتلى لكن ينتبه، فقد ينتبه قبل الوقوع في الحادثة، وقد يقع في الحادثة.

أما أثر عمر هذا فابن عساكر يروي في "تاريخه" الغثّ والسَّمين، أخبار المؤرخين أمرها بسيط، أمرها سهل، فإن صحَّ فهذا من الخوارق، من الآيات: كونه كلَّمه من القبر، فالله قادرٌ على كل شيءٍ ، لكن مثل هذا لا يثبت إلا بدليلٍ واضحٍ لا شُبهةَ فيه، ولو صحَّ لكان من باب تذكير الحاضرين، أنَّ عمر يُذكّر الحاضرين بهذا الأمر، وأنَّ الخائف له الجنة: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، فهذا لما مال إلى المرأة وتذكّر أصابه ما أصابه من الخوف العظيم، نعم.

وقوله تعالى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ أي: وإخوان الشَّياطين من الإنس، كقوله: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27]، وهم أتباعهم والمستمعون لهم، القابلون لأوامرهم، يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ أي: تُساعدهم الشياطين على المعاصي، وتُسهّلها عليهم، وتُحسّنها لهم.

وقال ابنُ كثير: المدّ: الزيادة، يعني: يزيدونهم في الغيِّ، يعني: الجهل والسَّفه.

ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ قيل: معناه: إنَّ الشياطين تمدّ، والإنس لا تقصر في أعمالهم بذلك.

س: قيل: معناه: إنَّ الشياطين تمدّ، والإنس لا تقصر؟

ج: ظاهر الآية: يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ يعني: يُساعدونهم ويمدّونهم بالشُّبهات وتسهيل الشَّهوات، هكذا شياطين الإنس والجنّ، ثم لا يقصرون، بل في نشاطٍ واستمرارٍ في إمداد إخوانهم بالشَّر والفساد، لكن المحفوظ مَن حفظه الله، والواجب الحذر من إخوانه من شياطين الإنس، ومن شياطين الجنّ، يجب الحذر، فإنَّ المؤمن يحذر ما يقع من شياطين الإنس له من مدّهم الشّر، وإعانته على الشَّر، وتسهيله له، وتزيينه له، وتخفيفه عليه.

ومن عبارات مَن يمدّ بالشَّر أن يقول: أنت أهون من فلان، فلان فعل أكبر من هذا. يعني: يُسهّل عليه: أنت قبَّلْتَ، لكن فلانًا زنا، أنت شربتَ قليلًا، وفلان شرب كثيرًا من الخمر. وهكذا يُسهّل عليه اقتراف المعاصي، لكن أخوك المؤمن لا، يُحذِّرك: اتَّقِ الله واحذر الأسباب، واحذر الطرق الموصلة، وابتعد عنها حتى لا تقع فيها.

يقال: "مدّ" في الشَّر، و"أمدّ" في الخير: وَأَمْدَدْنَاهُم بفَاكِهَةٍ [الطور:22]، يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ يعني: يُساعدونهم ويُعينونهم في وجوه الفساد، نسأل الله العافية، نعم.

كما قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في قوله: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ الآية، قال: لا الإنس يقصرون عمَّا يعملون، ولا الشياطين تُمسك عنهم.

وقيل: معناه كما رواه العوفي عن ابن عباسٍ في قوله: يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ قال: هم الجنّ يُوحون إلى أوليائهم من الإنس، ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ يقول: لا يسأمون.

وكذا قال السّدي وغيره: أنَّ –يعني- الشياطين يمدّون أولياءهم من الإنس، ولا تسأم من إمدادهم في الشَّر؛ لأنَّ ذلك طبيعة لهم وسجيّة، لَا يُقْصِرُونَ لا تفتر فيه، ولا تبطل عنه، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83]، قال ابنُ عباسٍ وغيره: تُزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا.

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:203].

قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في قوله تعالى: قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا يقول: لولا تلقيتها. وقال مرةً أخرى: لولا أحدثتها فأنشأتها.

وقال ابنُ جرير: عن عبدالله بن كثير، عن مجاهد في قوله: وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قال: لولا اقتضيتها، قالوا: تُخرجها عن نفسك.

وكذا قال قتادة والسّدي وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابنُ جرير.

وقال العوفي: عن ابن عباسٍ: لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا يقول: تلقّيتها من الله تعالى.

وقال الضَّحاك: لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا يقول: لولا أخذتها أنت فجئتَ بها من السَّماء.

ومعنى قوله تعالى: وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ أي: مُعجزة وخارق، كقوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء:4]، يقولون للرسول ﷺ: ألا تجهد نفسك في طلب الآيات من الله حتى نراها ونُؤمن بها؟! قال الله تعالى له: قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي أي: أنا لا أتقدّم إليه تعالى في شيءٍ، وإنما أتبع ما أمرني به، فأمتثل ما يُوحيه إليَّ، فإن بعث آيةً قبلتها، وإن منعها لم أسأله ابتداءً إياها إلا أن يأذن لي في ذلك، فإنَّه حكيم عليم.

ثم أرشدهم إلى أنَّ هذا القرآن هو أعظم المعجزات، وأبين الدّلالات، وأصدق الحجج والبيّنات، فقال: هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.