تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ..}

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ۝ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:36-37].

قال محمد بن إسحاق: حدَّثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبدالرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، قالوا: لما أُصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلّهم إلى مكّة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبدالله ابن أبي ربيعة وعكرمة ابن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجالٍ من قريشٍ أُصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدرٍ، فكلَّموا أبا سفيان بن حرب ومَن كانت له في تلك العير من قريشٍ تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن نُدرك منه ثأرًا بمَن أُصيب منا. ففعلوا. قال: ففيهم -كما ذكر عن ابن عباسٍ- أنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ إلى قوله: جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.

وكذا رُوي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، والحكم بن عُتيبة، وقتادة، والسدي، وابن أبزى: أنها نزلت في أبي سفيان ونفقته الأموال في أحدٍ لقتال رسول الله ﷺ.

وقال الضَّحاك: نزلت في أهل بدرٍ. وعلى كل تقديرٍ فهي عامّة، وإن كان سببُ نزولها خاصًّا، فقد أخبر تعالى أنَّ الكفَّار يُنفقون أموالهم ليصدُّوا عن اتِّباع طريق الحقِّ، فسيفعلون ذلك، ثم تذهب أموالهم، ثم تكون عليهم حسرةً، أي: ندامة، حيث لم تجد شيئًا؛ لأنَّهم أرادوا إطفاء نور الله، وظهور كلمتهم على كلمة الحقِّ: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، وناصر دينه، ومُعْلٍ كلمته.

الشيخ: وهذا من بشارته للمؤمنين وتطييبه لقلوبهم، وأنَّ الكفَّار مهما تساعدوا وتعاونوا على الإثم والعدوان فإنَّ مصيرهم إلى أن يُغلبوا، وإلى أن يُهزموا، وإلى أن ينصر اللهُ دينَه، كما قال -جلَّ وعلا-: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ۝ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ۝ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فهو سبحانه يُملي ولا يغفل؛ ولهذا قال -جلَّ وعلا-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ، كما جرى في يوم بدر، وكما جرى في الأحزاب، وكما جرى في غير ذلك، وما أصاب الناس يوم أحد فلحكمةٍ بالغةٍ؛ ليعلموا أنَّ النصر بيد الله، وأنهم متى فعلوا أشياء تُوجب الهزيمة حصلت الهزيمة.

فالواجب على أهل الإيمان الثِّقة بالله، والاعتماد عليه، مع الأخذ بالأسباب، والحذر من أسباب الهزيمة وأسباب غضب الله، حتى يتمّ لهم النصر، نعم.

ومظهر دينَه على كل دينٍ، فهذا الخزي لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار، فمَن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوؤه، ومَن قُتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي والعذاب السَّرمدي؛ ولهذا قال: فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.

وقوله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في قوله: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فيُميز أهل السَّعادة من أهل الشَّقاء.

وقال السّدي: يُميز المؤمن من الكافر. وهذا يحتمل أن يكون هذا التَّمييز في الآخرة، كقوله: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ الآية [يونس:28]، وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم:14]، وقال في الآية الأخرى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم:43]، وقال تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59].

ويحتمل أن يكون هذا التَّمييز في الدنيا بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين، وتكون اللام مُعللةً لما جعل الله للكافرين من مالٍ يُنفقونه في الصدِّ عن سبيل الله، أي: إنما أقدرناهم على ذلك لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ أي: مَن يُطيعه بقتال أعدائه الكافرين، أو يعصيه بالنُّكول عن ذلك، كقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ الآية [آل عمران:166-167]، وقال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ الآية [آل عمران:179]، وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، ونظيرها في براءة أيضًا.

فمعنى الآية على هذا إنما ابتليناكم بالكفَّار يُقاتلونكم، وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ أي: يجمعه كلّه، وهو جمع الشَّيء بعضه على بعضٍ، كما قال تعالى في السَّحاب: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا [النور:43] أي: مُتراكمًا، مُتراكبًا، فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أي: هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.

الشيخ: وهذا عامٌّ في الدنيا والآخرة: ليميز اللهُ الخبيثَ من الطّيب في الدنيا والآخرة، الخبيث بالأعمال الرَّديئة: بالشِّرك بالله وسُوء الأعمال، والمؤمن بالأعمال الطّيبة، والإخلاص لله وطاعته، فالكفَّار بهزائمهم المتوالية، والمسلمين بنصرهم وتأييدهم، فهو يميز الخبيث من الطّيب في الدنيا والآخرة.

فالواجب على أهل الإيمان الصَّبر على ما قد يُصيبهم، فإنَّ العاقبةَ لهم كما وعدهم الله: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]، فإذا أصاب المسلمين شيءٌ من النَّكبات بأسباب ذنوبهم فليعلموا أنَّ العاقبةَ لهم إذا رجعوا إلى الله واستقاموا، العاقبة لهم في الدنيا والآخرة، نعم.

س: الحسرة والغلبة في الدنيا والآخرة؟

ج: في الدنيا معروفة، وفي الآخرة معروفة: هؤلاء إلى الجنة، وهؤلاء إلى النار، لكن هذا في الدنيا تُصيبهم الحسرة والنَّدامة، وفي الآخرة أكبر وأعظم.

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ۝ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۝ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:38-40].

يقول تعالى لنبيه محمدٍ ﷺ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا أي: عمَّا هم فيه من الكفر والمشاقّة والعناد، ويدخلوا في الإسلام والطَّاعة والإنابة، يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ أي: من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم، كما جاء في الصحيح من حديث أبي وائل، عن ابن مسعودٍ : أنَّ رسول الله ﷺ قال: مَن أحسن في الإسلام لم يُؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومَن أساء في الإسلام أُخِذَ بالأول والآخر، وفي الصحيح أيضًا: أنَّ رسول الله ﷺ قال: الإسلام يجُبّ ما قبله، والتوبة تجُبّ ما كان قبلها.

وقوله: وَإِنْ يَعُودُوا أي: يستمرّوا على ما هم فيه فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي: فقد مضت سنتنا في الأوَّلين أنَّهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نُعاجلهم بالعذاب والعقوبة.

قال مجاهد في قوله: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي: في قريشٍ يوم بدرٍ، وغيرها من الأمم.

وقال السّدي ومحمد بن إسحاق: أي: يوم بدر.

وقوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ قال البخاري: حدَّثنا الحسن بن عبدالعزيز: حدثنا عبدالله بن يحيى: حدثنا حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو.

.............

الطالب: بكر بن عمرو المعافري، المصري، إمام جامعها، صدوق، عابد، من السادسة، مات في خلافة أبي جعفر بعد الأربعين. (خ، م، د، ت، س، فق).

عن بُكير، عن نافع، عن ابن عمر: أنَّ رجلًا جاء فقال: يا أبا عبدالرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الآية [الحجرات:9]؟ فما يمنعك أن لا تُقاتل؟!

الشيخ: زائدة: "فما يمنعك أن تُقاتل؟" يعني: ما الذي يحبسك ألا تشترك في قتال الطَّائفة الباغية؛ لأنَّ الله قال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]؟ نعم: فما يمنعك؟

كما ذكر الله في كتابه؟! فقال: يا ابن أخي، أُعيّر بهذه الآية ولا أُقاتل أحبّ إليَّ من أن أُعيّر بالآية التي يقول الله : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا .. إلى آخر الآية [النساء:93]. قال: فإنَّ الله تعالى يقول: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ. قال ابنُ عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله ﷺ إذ كان الإسلامُ قليلًا، وكان الرجلُ يُفتن في دينه: إمَّا أن يقتلوه، وإمَّا أن يُوثقوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة. فلمَّا رأى أنَّه لا يُوافقه فيما يُريد قال: فما قولكم في علي وعثمان؟ قال ابنُ عمر: أما قولي في علي وعثمان، أمَّا عثمان فكان الله قد عفا عنه، وكرهتم أن يعفو الله عنه، وأمَّا علي فابن عمّ رسول الله ﷺ وختنه -وأشار بيده-، وهذه ابنته -أو بنته- حيث ترون.

الشيخ: يعني: محلّها، يعني: بيتها، وإلا فهي قد تُوفيت بعد النبي ﷺ بستة أشهر، يعني: هذا محلّها، هذا بيتها.

س: ما هو الصحيح: وهذا بيته؟

ج: ما أتذكر، لكن المراد هو: هذا محلّها.

وحدثنا أحمد بن يونس: حدثنا زهير: حدثنا بيان: أنَّ ابن وبرة حدَّثه قال: حدَّثني سعيد بن جبير، قال: خرج علينا -أو إلينا- ابن عمر -رضي الله عنهما- فقال: كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال: وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمد ﷺ يُقاتل المشركين، وكان الدخول عليهم فتنة، وليس بقتالكم على الملك.

هذا كله سياق البخاري -رحمه الله تعالى.

وقال عبيدالله: عن نافع، عن ابن عمر: أنَّه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إنَّ الناس قد صنعوا ما ترى، وأنت ابن عمر بن الخطاب، وأنت صاحب رسول الله ﷺ فما يمنعك أن تخرج؟! قال: يمنعني أنَّ الله حرَّم عليَّ دم أخي المسلم. قالوا: أولم يقل الله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ؟! قال: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدِّينُ كلّه لله، وأنتم تُريدون أن تُقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدِّين لغير الله.

مداخلة: أحسن الله إليك، الإسناد الذي قبل هذا: وبرة، أو ابن وبرة؟ في بعض النُّسخ: ابن وبرة، وفي بعضها: وبرة، بدون ابن.

الشيخ: أين؟ أيّ سندٍ؟

الطالب: قبله بقليلٍ.

الشيخ: أيش؟

قارئ المتن: حدثنا بيان: أنَّ ابن وبرة.

الشيخ: وأيش عندكم أنتم؟

طالب: أنَّ وبرة.

الشيخ: وقال مَن هو؟

الطالب: البخاري.

الشيخ: حطّ عليه إشارة، يُراجع البخاري.

طالب: ..... حدثنا بيان: أنَّ وبرة حدَّثه قال: حدَّثني سعيد.

الشيخ: وجدته الآن؟

الطالب: نعم: بيان: أنَّ وبرة.

الشيخ: طيب، مثلما عندهم: أنَّ وبرة، بدون ابن.

وكذا روى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أيوب بن عبدالله اللّخمي، قال: كنتُ عند عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-، فأتاه رجلٌ فقال: إنَّ الله يقول: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. قال: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وأنتم تُريدون أن تُقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدينُ لغير الله.

وكذا رواه حماد بن سلمة، فقال ابنُ عمر: قاتلتُ أنا وأصحابي حتى كان الدينُ كلّه لله، وذهب الشِّركُ، ولم تكن فتنة، ولكنَّك وأصحابك تُقاتلون حتى تكون فتنة، ويكون الدينُ لغير الله. رواهما ابنُ مردويه.

وقال أبو عوانة: عن الأعمش، عن إبراهيم التَّيمي، عن أبيه، قال: قال ذو البطين –يعني: أسامة بن زيد-: لا أُقاتل رجلًا يقول: "لا إله إلا الله" أبدًا. فقال سعد بن مالك: وأنا والله لا أُقاتل رجلًا يقول: "لا إله إلا الله" أبدًا. فقال رجلٌ: ألم يقل الله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ؟! فقالا: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدينُ كلّه لله. رواه ابن مردويه.

الشيخ: وهذا من سعد وأسامة اشتبه عليهما الأمر: هل الحقّ مع عليٍّ أو مُعاوية؟ فلهذا توقف بعضُ الصحابة ولم يدخلوا في هذا الأمر؛ لاشتباه الأمر عليهم، وخوفهم من الوقوع فيما حرّم الله، أما مَن عرفوا الحقّ فقد دخلوا وقاتلوا حين عرفوا أنَّ عليًّا أولى، وأنَّ الواجب القتال معه فقاتلوا، وقومٌ رأوا باجتهادهم أن يُقاتلوا مع معاوية؛ لتسليم قتلة عثمان؛ لأنهم ظالمون، مجرمون، فكلٌّ منهم له اجتهاده ، فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد، فهم تقاتلوا عن جهادٍ، وعن رغبةٍ في الحقِّ، فمَن أصاب منهم فله أجران، ومَن أخطأ فله أجرٌ في مسألة عثمان وعلي ومُعاوية.

س: لكن تخصيص ابن عمر أنَّ الفتنة هي القتال في عهد النبي ﷺ؟

ج: لا، وبعده ..... مثلما ذكر في قصّة ابن الزبير، نعم ..... قتال المشركين، نعم.

س: قصة التَّحكيم بين معاوية وعلي هل ثبت فيها سندٌ صحيحٌ؟

ج: هي ثابتة، التَّحكيم معروف، نعم.

س: لكن توقّف ابنُ عمر عن القتال مع ابن الزبير؟

ج: اشتبه عليه الأمر، مثلما توقّف جماعةٌ: كسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وجماعة توقَّفوا في مسألة عثمان وعليّ، وهي أظهر، نعم. كلٌّ له اجتهاده .

س: في قصّة التَّحكيم أنَّ عمرو بن العاص خدع أبا موسى الأشعري؟

ج: المعروف أنَّ أبا موسى ترك، وعمرو ثبت، وكلٌّ له اجتهاده -رضي الله عنهم وأرضاهم ورحمهم.

س: ............؟

ج: كلّهم لهم اجتهادهم: معاوية ، وعمرو ، وعلي ، كلّهم مُجتهدون، لكن معاوية أخطأ، فصار مُجتهدًا مُخطئًا ومَن معه، وعلي مُجتهدًا مُصيبًا، نعم.

وقال الضَّحاك: عن ابن عباسٍ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعني: لا يكون شركٌ.

وكذا قال أبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسّدي، ومُقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم.

وقال محمد بن إسحاق: بلغني عن الزهري، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا: حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ حتى لا يُفتن مُسلمٌ عن دينه.

وقوله: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ قال الضَّحاك: عن ابن عباسٍ في هذه الآية، قال: يُخلص التوحيد لله.

وقال الحسن وقتادة وابن جريج: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أن يُقال: لا إله إلا الله.

وقال محمد بن إسحاق: ويكون التوحيدُ خالصًا لله، ليس فيه شركٌ، ويخلع ما دونه من الأنداد.

وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لا يكون مع دينكم كفرٌ.

ويشهد لهذا ما ثبت في "الصحيحين" عن رسول الله ﷺ أنَّه قال: أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها، وحسابهم على الله .

وفيهما عن أبي موسى الأشعري قال: سُئل رسول الله ﷺ عن الرجل يُقاتل شجاعةً، ويُقاتل حميةً، ويُقاتل رياءً، أيّ ذلك في سبيل الله ؟ فقال: مَن قاتل لتكون كلمةُ الله هي العُليا فهو في سبيل الله ﷺ.

وقوله: فَإِنِ انْتَهَوْا أي: بقتالكم عمَّا هم فيه من الكفر فكفّوا عنه، وإن لم تعلموا بواطنهم: فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، كقوله: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ الآية [التوبة:5]، وفي الآية الأخرى: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، وقال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193].

وفي الصحيح: أنَّ رسول الله ﷺ قال لأُسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف، فقال: لا إله إلا الله. فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال لأسامة: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟! فقال: يا رسول الله، إنما قالها تعوُّذًا. قال: هلا شققتَ عن قلبه؟!، وجعل يقول ويُكرر عليه: مَن لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟! قال أسامة: حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمتُ إلا يومئذٍ.

الشيخ: والمعنى أنَّ مَن أظهر الإسلام يُكفّ عنه، أمَّا مَن كان يقولها وهو مُشركٌ فلا يُكفّ عنه حتى يتوب، حتى يُعلن توبته من شركه وكفره: كالكفَّار اليوم والمنافقين ونحوهم، لا بدَّ من توبةٍ ظاهرةٍ صادقةٍ، أما مَن كان لا يقولها مثل: كفار قريش وأشباههم، فإذا قالها يُكفّ عنه، فمَن استقام فهو مسلمٌ حقًّا، وإن رجع إلى كفره صار مُرتدًّا، أما مَن كان يقولها .....، ولكن يعبد الأوثان والأصنام ويسبّ الدِّين، فهذا ما ينفعه قول "لا إله إلا الله"، وهو ينقضها بأعماله وأقواله، نسأل الله العافية.

س: ..............؟

ج: مثلما تقدّم مَن خرج على ولي الأمر يُقاتل، فالذي خرج على عليٍّ مثل: معاوية يُقاتل، هذا هو الصواب: مَن خرج على ولي الأمر والدّولة قائمة يُقاتل مع الدولة القائمة، إلا إذا كانت الدولةُ القائمة قد فعلت كفرًا بواحًا، والقائم عليها بقُدرته أن يقضي عليها، وأن يُولي الرجل الصَّالح.

س: إطلاق لفظ "الشَّهيد" على مَن لم يشهد اللهُ له ولا رسوله؟

ج: مَن قُتل في سبيل الله فهو شهيد، وأمره إلى الله.

س: تعيين أشخاص بأعيانهم؟

ج: مَن قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومَن قُتل مظلومًا فهو شهيد، يُسمّى: شهيدًا، نعم.

وقوله: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:40] أي: وإن استمرّوا على خلافكم ومُحاربتكم فاعلموا أنَّ الله مولاكم وسيدكم وناصركم على أعدائكم، فنعم المولى، ونعم النَّصير.

وقال محمد بن جرير: حدَّثني عبدالوارث بن عبدالصمد: حدثنا أبي: حدثنا أبان العطار: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة: أنَّ عبدالملك بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء، فكتب إليه عروة: سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنَّك كتبتَ إليَّ تسألني عن مخرج رسول الله ﷺ من مكّة، وسأُخبرك به، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كان من شأن خروج رسول الله ﷺ من مكّة.

الشيخ: قف على: وقال ابن جرير.

س: ...........؟

ج: في البقرة: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، آية البقرة بدون كُلّه، نعم.

س: ..............؟

ج: أو الخروج عليه هو الفتنة، خروجهم على ابن الزبير، هو أحقّ منهم بذلك؛ لأنَّه خرج عند وجود الفترة وعدم وجود دولة قائمة، خرج وبايعه الناسُ -رضي الله عنه ورحمه-.

س: ..............؟

ج: ما وقع من الفتنة بينه وبينه، هذه فتنة وقعت بينه وبين مروان وعبدالملك بن مروان، لكن الصواب مُناصرة ابن الزبير؛ لأنَّه أحقّ، مثلما أنَّ الصواب مُناصرة عليٍّ؛ لأنَّه أحقّ، ولكن بعض الناس تشتبه عليهم الأمور، فمَن اشتبهت عليه الأمور وهو مُجتهد فله أجر الاجتهاد، ومَن أصاب فله أجران.

س: متى يكون الخروجُ بالكفر البواح؟ ما هو الكفر البواح؟

ج: الكفر البواح الذي قد أوضحه الله في كتابه إذا كانت الدولةُ تعبد غير الله، تنصر الشِّرك، لا تحكم بشريعة الله، يخرج عليها حتى تحكم بشريعة الله، أو حتى تدع عبادة الأوثان، أو حتى تُحرّم ما حرّمه الله، لا بدَّ أن تستقيم الدولة على شريعة الله، فإذا أقرّت الكفر البواح: كعبادة غير الله، أو أجازت الحكم بغير ما أنزل الله، فهذا كفرٌ بواحٌ، أو أقرّت إباحة ما حرّم الله من الخمور والزنا، وقالت: إنَّه لا بأس به. هذا كفرٌ بواحٌ، نعم.

س: وإذا أقرّت الطواف على القبور والتَّوسل بها؟

ج: هذا من الكفر البواح.

س: ما يُحمل على الحديث الآخر: لا ما أقاموا فيكم الصلاة؟

ج: أقاموا الصلاة مع عدم الكفر البواح، ترك الصّلاة كفرٌ بواحٌ.