26 من قوله: ( وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى..)

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ۝ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:103، 104].
يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف، وإن كان مشروعًا مرغبًا فيه أيضا بعد غيرها، ولكن هاهنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها، كما قال تعالى في الأشهر الحرم: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36]، وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها، وعظمتها، ولهذا قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ أي: في سائر أحوالكم، ثم قال تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ أي: فإذا أمنتم، وذهب الخوف، وحصلت الطمأنينة فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ أي: فأتموها، وأقيموها كما أمرتم بحدودها، وخشوعها، وركوعها، وسجودها، وجميع شئونها.
وقوله تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا قال ابن عباس: أي مفروضًا، وقال أيضًا: إن للصلاة وقتا كوقت الحج، وكذا روي عن مجاهد، وسالم بن عبدالله، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، والحسن، ومقاتل، والسدي، وعطية العوفي.
قال عبدالرزاق: عن معمر عن قتادة إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتا كوقت الحج، وقال زيد بن أسلم: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا قال: منجمًا، كلما مضى نجم جاء نجم، يعني كلما مضى وقت جاء وقت.

الشيخ: وهذا من لطف الله أن عمّر الأوقات بالعبادة، فجعل للصلاة أوقاتًا معينة، كلما خرج وقت جاء وقت، فيكون المؤمن والمؤمنة في عبادة مستمرة، فالإنسان قد يشغل بأمور حياته ودنياه، فتأتي الصلاة فينتبه، ويعود إلى ذكر الله وتعظيمه ، وجعلها في أوقات مناسبة فأولها الفجر، وبعد طلوع الفجر، وبعد يقظته من نومه يستقبل نهاره بالعبادة، والذكر، والطاعة، ثم فسح له إلى الزوال، وجعله وقتًا طويلاً في حاجاته، ثم ينيب إلى الصلاة بعد الزوال، بعدما أطال الوقت في أعماله الكثيرة، فيرجع إلى ذكر الله، وإلى استغفاره، وإلى تعظيمه، ثم جعل له وقتًا بين صلاتي الظهر والعصر، ثم يرجع إلى العصر بعدما شغل فيما بينهما بأشغال أخرى فيعود إلى ذكر الله، ثم هكذا تأتي المغرب فيعود إلى ذكر الله، ثم تأتي العشاء فيعود إلى ذكر الله، وهو بين أمور حاجاته، ودنياه، وبين ما شرع الله له من هذه العبادة العظيمة، ثم شرع له في الليل التهجد، وصلاة الليل حتى يغتنم فرصة الليل بشيء من ذكر الله وطاعته ، فهذا كله من فضله جل وعلا؛ حتى تكون الأوقات محفوظة، وحتى تكون أوقات العبد فيما ينفعه في الدنيا، وفيما ينفعه في الآخرة، فكلما شغل بشيء من دنياه جاء وقت فنبهه على ما يتعلق بآخرته.
ولما كان الصيام فيه بعض المشقة جعله سبحانه في السنة مرة شهرًا واحدًا، وهكذا الحج لما كان فيه مشقة، ويؤتى إليه من بعيد؛ جعله مرة في العمر فقط، وهكذا الزكاة لما كان في إخراجها كل يوم أو كل شهر ما فيه من المشقة جعلها كرمضان في السنة مرة، كل هذا من لطفه وإحسانه جل وعلا، ولما كان الذكر والتسبيح والتهليل والاستغفار والدعاء ميسرًا لا مشقة فيه شرعه دائمًا ، وهكذا صلاة التطوع، وصيام التطوع، جعله مشروعًا دائمًا، ماعدا أوقاتًا يسيرة منع فيها التطوع الذي لا سبب له، وماعدا أيامًا قليلة منع فيها الصيام كيوم العيدين، وأيام التشريق فهذا كله من فضله، وإحسانه جل وعلا.
س: الجمع في الليلة المطيرة يقال: سنة، أو جائز؟
الشيخ: رخصة، عند العلماء رخصة، والرخصة سنة؛ لأن فيها تخفيف وتيسير على العباد، ويسمى الجمع رخصة، ويسمى القصر رخصة، وهو كله سنة.
س: له شروط؟
الشيخ: وجود عذر: مطر، الدحض، والزلق، أو السفر، أو المرض.
س: يجمعون بين الصلاتين من أجل المطر، ويخرجون يبيعون، ويشترون في الدكاكين؟
الشيخ: ما يضر، ما فيه شيء.

وقوله تعالى: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ أي: لا تضعفوا في طلب عدوكم، بل جدوا فيهم، وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ أي: كما يصيبكم الجراح والقتل كذلك يحصل لهم، كما قال تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140].
ثم قال تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ أي: أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة، والنصر، والتأييد، كما وعدكم إياه في كتابه، وعلى لسان رسوله ﷺ، وهو وعد حق، وخبر صدق، وهم لا يرجون شيئا من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم، وأشد رغبة فيه، وفي إقامة كلمة الله وإعلائها.

الشيخ: وهذه تعزية، وتسلية، وتشجيع على العبادة، والجهاد، ولهذا قال: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ يعني تضعفوا في ابتغائهم، وطلبهم، وجهادهم، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ كما تألمون أنتم من الجراحات والتعب، فهم يألمون أيضًا، لكن فرق بينكم وبينهم، أنتم ترجون من الله ما لا يرجون، ترجون مرضاته، ومغفرته، والفوز بجنته، وليس عندهم رجاء، وليس وراءهم إلا النار، نسأل الله العافية، ففرق بينكم وبينهم، فجدير بكم أن تصبروا، وأن تشجعوا، وأن تعملوا؛ لأن لكم من الأجر والعاقبة ما ليس لهم.

وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا أي: هو أعلم وأحكم فيما يقدره، ويقضيه، وينفذه، ويمضيه من أحكامه الكونية والشرعية، وهو المحمود على كل حال.
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ۝ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ۝ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ۝ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ۝ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:105-109].
يقول تعالى: مخاطبًا لرسوله محمد ﷺ: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أي: هو حق من الله، وهو يتضمن الحق في خبره، وطلبه، وقوله: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان ﷺ له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ، سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها، أو ليذرها.

الشيخ: وهذا يبين أنه يحكم بما أراه الله من الشرع المطهر الذي جعله شرعًا له، ولأمته، ولو كان لا يحكم إلا بالوحي الذي يأتي إليه لتعطل الحكم بالنسبة إلى الناس بعده؛ لأنه ليس عندهم وحي بموته ﷺ، انتهى الوحي، والله جعل قواعد يمشي عليها الحكم، ويسير عليها الحكم، يحكم بها ﷺ في حياته، وهكذا من بعده من الأمة، ولهذا قال: بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ، والله أراه كيف يحكم بالبينات، والأيمان، وغير ذلك مما يدل على الحق، فحكمه ﷺ يقتدي به الناس فيه، كما قال ﷺ: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر شاهداك، أو يمينه، وما حكم به في القسامة إلى غير ذلك، فأحكامه ﷺ يقتدى به فيها؛ لأن الله أراه إياها، فهي شرع مطهر يعمل به، والله جل وعلا لا يقره على الباطل، بل يوفقه إلى الحق على حسب القواعد التي رسم له، وأمره أن يأخذ بها، ولهذا قال: بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ، يعني بما جعله الله لك شرعًا تسير عليه من البينات، والأيمان، والحكم بالقرائن، وغير هذا مما بينه ﷺ، ومن ذلك اليمين عند عدم البينة، ومن ذلك ما جرى في القسامة، وفي غير القسامة، وهكذا قوله في حديث أم سلمة: إنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن من حجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع يعني يقضي له على نحو ما أسمع من بينته، ويمين خصمه، وشهوده، وقد يكون الشهود ظاهرهم العدالة، وقد زكوا، ولكنهم في الباطن كذبة، أو غلطانين، فليس للناس إلا الظاهر، ما دام ثبت عنده أنهم عدول حكم بهم، ولو قدر في نفس الأمر أنهم قد غلطوا، أو كذبوا، فأمر الباطن إلى الله ، لكن بين لهم أنه متى صار الأمر على خلاف الظاهر فهو إنما يقطع لهم قطعة من النار، فلو جاء إنسان ببينة ظاهرها العدالة مزكاة مضبوطة، وهو يعلم أن البينة كاذبة، أو غالطة، فهو يحمل قطعة من النار، ما تنفع البينة، ما تنفعه البينة إذا كان فيها مغالطة، يكون قد استحل ما حرم الله، ولهذا قال: فإنما أقطع له قطعة من النار فليحملها، أو ليذرها، وكذلك إذا كان خصمه ليس عنده بينة، وقال له الحاكم: لك اليمين على خصمك، فحلف هذه اليمين الفاجرة ما تنفعه، بل يتحمل وزرها يوم القيامة، فلو مثلًا: إنسان أعطى إنسانًا مائة ريال قرضًا أو وديعة ثم جحد، قال: لا اقترضت منك، ولا عندي لك وديعة، ولا عنده بينة، يمين فحلف بالله أنه ما عندي له وديعة، ولا عندي له قرض، فهي يمين فاجرة يتحمل بها إثم ذلك -نعوذ بالله-، كما قال ﷺ: من حلف على يمين صبر، هو فيها فاجر؛ لقي الله وهو عليه غضبان، وفي اللفظ الآخر: إذا حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة فالأيمان الكاذبة، والبينات الكاذبة، والغالطة، ما تخلصه من عذاب الله، والحاكم ليس له إلا الظاهر، والباطن إلى الله سبحانه، حتى الرسول ﷺ وهو سيد الخلق ليس له إلا الظاهر، فيحكم بما ظهر له من البينات، والأيمان، والباطن الذي يخفى عليه أمره إلى الله ، هذا هو مراد النبي ﷺ.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا أسامة بن زيد، عن عبدالله بن رافع، عن أم سلمة، قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله ﷺ في مواريث بينهما قد درست، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله ﷺ: إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها انتظامًا في عنقه يوم القيامة فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله ﷺ: أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه.

الطالب: عندنا يأتي بها إسطامًا.
الشيخ: يراجع حط عليه علامة.
الطالب: في تعليق عليه: يقال إسطامًا، ويروى سطامًا بكسر السين، وفتح الطاء، وهي الحديدة التي تحرك بها النار، وتسعر، أي: آخذ له ما يسعر به النار على نفسه، ويشعلها.
الشيخ: يراجع الأصل.

وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد به، وزاد: إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه.
وقد روى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس: أن نفرًا من الأنصار غزوا مع رسول الله ﷺ في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظن بها رجلًا من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله ﷺ فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع، وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده، فانطلقوا إلى نبي الله ﷺ ليلا فقالوا: يا نبي الله إن صاحبنا بريء، وإن صاحب الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علمًا، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك، فقام رسول الله ﷺ فبرأه، وعذره على رؤوس الناس، فأنزل الله إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ۝ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ۝ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [النساء:105-107] الآية.
ثم قال تعالى للذين أتوا رسول الله ﷺ مستخفين بالكذب يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ الآيتين، يعني الذين أتوا رسول الله ﷺ مستخفين يجادلون عن الخائنين.
ثم قال : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النساء:110] ، يعني الذين أتوا رسول الله ﷺ مستخفين بالكذب، ثم قال: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112] يعني السارق والذين جادلوا عن السارق، وهذا سياق غريب، وكذا ذكر مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي، وابن زيد، وغيرهم في هذه الآية: أنها نزلت في سارق بني أبريق على اختلاف سياقاتهم، وهي متقاربة.
وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة، فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية من جامعه، وابن جرير في تفسيره: حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني، حدثنا محمد بن سلمة الحراني، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر، وبشير، ومبشر، وكان بشير رجلًا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ﷺ، ثم ينحله لبعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا، وكذا، وقال فلان كذا، وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله ﷺ ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث، أو كما قال: الرجل، وقالوا: ابن الأبيرق قالها، قالوا: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر، والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، وأما العيال فإنما طعامهم التمر، والشعير، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح، ودرع، وسيف، فعدي عليه من تحت البيت، فنقبت المشربة، وأخذ الطعام، والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بطعامنا، وسلاحنا، قال: فتحسسنا في الدار، وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، وقال: وكان بنو أبيرق قالوا -ونحن نسأل في الدار-: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه، وقال: أنا أسرق؟! والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا -أيها الرجل- فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله ﷺ فقلت: إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه، وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النبي ﷺ: سآمر في ذلك، فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلًا منهم يقال له أسير بن عمرو فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان، وعمه، عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة، ولا ثبت، قال قتادة: فأتيت النبي ﷺ فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت، قال: فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي، ولم أكلم رسول الله ﷺ في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله ﷺ، فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا يعني بني أبيرق، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ أي: مما قلت لقتادة، إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ۝ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [النساء:107] إلى قوله رَحِيمًا [النساء:110] أي: لو استغفروا الله لغفر لهم. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء:111] إلى قوله وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112] قولهم للبيد: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ [النساء:113] إلى قوله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، فلما نزل القرآن أتى رسول الله ﷺ بالسلاح فرده إلى رفاعة، فقال قتادة: لما أتيت عمي بالسلاح، وكان شيخا قد عسا، أو عشا -الشك من أبي عيسى- في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولًا لما أتيته بالسلاح، قال: يا ابن أخي هو في سبيل الله، فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ۝ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:115، 116]، فلما نزل على سلافة بنت سعد، هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به، فرمته في الأبطح، ثم قالت: أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير. لفظ الترمذي، ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعلم أحدًا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني.
ورواه يونس بن بكير وغير واحد عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا، لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده. ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن سلمة به ببعضه. ورواه ابن المنذر في تفسيره: حدثنا محمد بن إسماعيل يعني الصائغ، حدثنا الحسن بن أحمد بن شعيب الحراني، حدثنا محمد بن سلمة، فذكره بطوله.
ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن العباس.

الطالب: ابن العياش.
الشيخ: حط نسخة.

عن محمد بن عياش بن أيوب، والحسن بن يعقوب، كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني ....... عن محمد بن سلمة به، ثم قال في آخره:
قال محمد بن سلمة: سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إسرائيل، وقد روى هذا الحديث الحاكم أبو عبدالله النيسابوري في كتابه المستدرك عن أبي العباس الأصم، عن أحمد بن عبدالجبار العطاردي، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق بمعناه أتم منه، وفيه الشعر، ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.

الشيخ: وهذا فيه كلام، لأنه دار على ابن إسحاق، وقد عنعن، فابن إسحاق فيه نظر، لكن القصة لها فوائد كما قال المؤلف.

وقوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ الآية، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها، لأنه مطلع على سرائرهم، وعالم بما في ضمائرهم، ولهذا قال: وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا تهديدا لهم، ووعيد.
ثم قال تعالى: هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الآية، أي هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه، أو أبدي لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر، وهم متعبدون بذلك، فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى؟، ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم؟
أي لا أحد يومئذ يكون لهم وكيلا، ولهذا قال: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا.

الشيخ: هذه عاقبة من اعتدى على الناس، قد جمع الله له العقوبتين: الفضيحة في الدنيا، والعذاب في الآخرة، نسأل الله العافية.
فالخائن، والسارق، والظالم على خطر عظيم، وإن سلم في الدنيا، وتخلص من العقوبات العاجلة فإنه لا يفوت الله، بل هو له بالمرصاد -نسأل الله السلامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله-، وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، لا حول ولا قوة إلا بالله.
.........