تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ..}

وقال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق: حدثني عبدالله ابن أبي بكر ابن عمرو بن حزم، عن بعض بني ساعدة قال: سمعتُ أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما كفّ بصره يقول: لو كنتُ معكم الآن ببدرٍ ومعي بصري لأخبرتكم بالشّعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشكّ، ولا أتمارى، فلمَّا نزلت الملائكةُ ورآها إبليس، وأوحى الله إليهم: أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، وتثبيتهم: أنَّ الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه، فيقول له: أبشر؛ فإنَّهم ليسوا بشيءٍ، والله معكم، فكرّوا عليهم. فلمَّا رأى إبليسُ الملائكة نكص على عقبيه: وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ [الأنفال:48]، وهو في صورة سُراقة، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه، ويقول: لا يهولنَّكم خُذلان سُراقة إياكم، فإنَّه كان على موعدٍ من محمدٍ وأصحابه. ثم قال: واللَّات والعزَّى، لا نرجع حتى نقرن محمدًا وأصحابه في الحبال، فلا تقتلوهم، وخذوهم أخذًا.

وهذا من أبي جهلٍ -لعنه الله- كقول فرعون للسَّحرة لما أسلموا: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا [الأعراف:123]، وكقوله: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71]، وهو من باب البهت والافتراء؛ ولهذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمّة.

الشيخ: وما ذاك إلا -والله أعلم- لما يقوم به من التَّشجيع على الكفر بالله والعداء لأهل الإيمان؛ تثبيطًا عن الحقِّ، فأشبه فرعون من هذه الناحية -نعوذ بالله-، كما أنَّ فرعون قام في قومه مُشجِّعًا لهم على اتباع الباطل، وعلى مُعاداة موسى -عليه الصلاة والسلام-، وهكذا لما وقع من السَّحرة ما وقع كابر وقال: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71]، هذه كلّها من المكابرات، ومن الجرأة على الباطل، ومن شدّة العداء للحقِّ.

فهكذا أبو جهل في قريش كان في غايةٍ من النشاط في الباطل والصدِّ عن الحقِّ، نسأل الله العافية؛ ولهذا عجّل اللهُ له منيّته على أسوأ حالةٍ، نسأل الله السلامة.

وقال مالك بن أنس: عن إبراهيم ابن أبي عُلية، عن طلحة بن عبيدالله بن كريز: أنَّ رسول الله ﷺ قال: ما رأى إبليس يومًا هو فيه أصغر، ولا أحقر، ولا أدحر، ولا أغيظ من يوم عرفة؛ وذلك مما يرى من نزول الرحمة والعفو عن الذُّنوب، إلا ما رأى يوم بدر، قالوا: يا رسول الله، وما رأى يوم بدر؟ قال: أما إنَّه رأى جبريل يزع الملائكة. وهذا مرسلٌ من هذا الوجه.

وقوله: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ [الأنفال:49]، قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في هذه الآية: لما دنا القومُ بعضهم من بعضٍ قلل اللهُ المسلمين في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعين المسلمين، فقال المشركون: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ.

الشيخ: كما قال تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:44] حتى يقدم هؤلاء ويقدم هؤلاء، ويحصل ما أراده الله من هزيمتهم وقتل مَن قتل، الله المستعان.

وإنما قالوا ذلك من قِلّتهم في أعينهم، فظنّوا أنَّهم سيهزمونهم، لا يشكّون في ذلك، فقال الله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:49].

وقال قتادة: رأوا عصابةً من المؤمنين تشددت لأمر الله، وذكر لنا: أنَّ أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمدٍ ﷺ وأصحابه قال: "والله لا يُعبد الله بعد اليوم" قسوةً وعتوًّا.

وقال ابنُ جريج في قوله: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم قومٌ كانوا من المنافقين بمكّة، قالوه يوم بدر.

وقال عامر الشَّعبي: كان ناسٌ من أهل مكّة قد تكلَّموا بالإسلام، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلمَّا رأوا قِلّة المسلمين قالوا: غرَّ هؤلاء دينهم.

وقال مجاهد في قوله : إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ قال: فئة من قريش: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس ابن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، خرجوا مع قريش من مكّة، وهم على الارتيابٍ، فحبسهم ارتيابهم، فلمَّا رأوا قِلّة أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قِلّة عددهم وكثرة عدوهم. وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار سواء.

وقال ابنُ جرير: حدثنا محمد بن عبدالأعلى: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن في هذه الآية قال: هم قومٌ لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسمّوا: مُنافقين.

قال معمر: وقال بعضُهم: هم قومٌ كانوا أقرّوا بالإسلام وهم بمكّة، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلمَّا رأوا قِلّة المسلمين قالوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ.

وقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي: يعتمد على جنابه، فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي: لا يُضام مَن التجأ إليه، فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ منيع الجناب، عظيم السلطان، حَكِيمٌ في أفعاله، لا يضعها إلا في مواضعها، فينصر مَن يستحقّ النَّصر، ويخذل مَن هو أهلٌ لذلك.

الشيخ: وله الحكمة البالغة ، والعاقبة لأهل التقوى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:40-41]، وقد يبتلي أولياءه بشيءٍ من الهزيمة، أو بشيءٍ من الأمراض، أو من الفقر، أو غير هذا، ثم تكون لهم العاقبة: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ۝ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ۝ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]، كما جرى يوم أحد، فهو يبتلي أولياءه بالسّراء والضَّراء، ثم تكون لهم العاقبة، نعم.

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ۝ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الأنفال:50-51].

يقول تعالى: ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفَّار، لرأيتَ أمرًا عظيمًا هائلًا فظيعًا مُنكرًا، إذ يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون لهم: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.

قال ابنُ جريج: عن مجاهد: "أدبارهم" أستاهم. قال: يوم بدر.

قال ابنُ جريج: قال ابن عباسٍ: إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولوا أدركتهم الملائكةُ يضربون أدبارهم.

وقال ابنُ أبي نجيح: عن مجاهد في قوله: إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ يوم بدر.

وقال وكيع: عن سفيان الثوري، عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير، عن مجاهد. وعن شعبة، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ قال: وأستاههم، ولكن الله يُكنِّي. وكذا قال عمر مولى عفرة.

وعن الحسن البصري قال: قال رجلٌ: يا رسول الله، إني رأيتُ بظهر أبي جهل مثل الشّراك. قال: ذاك ضرب الملائكة. رواه ابن جرير، وهو مرسل.

وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر، ولكنه عام في حقِّ كل كافرٍ؛ ولهذا لم يُخصصه تعالى بأهل بدر، بل قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، وفي سورة القتال مثلها.

وتقدم في سورة الأنعام قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الأنعام:93] أي: باسطو أيديهم بالضَّرب فيهم بأمر ربهم، إذ استصعبت أنفسهم وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهرًا، وذلك إذ بشَّروهم بالعذاب والغضب من الله، كما في حديث البراء: "إنَّ ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصّورة المنكرة يقول: اخرجي أيّتها النفس الخبيثة إلى سمومٍ وحميمٍ وظلٍّ من يحموم. فتتفرق في بدنه، فيستخرجونها من جسده كما يخرج السّفود من الصّوف المبلول، فتخرج معها العروق والعصب"؛ ولهذا أخبر تعالى أنَّ الملائكة تقول لهم: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.

وقوله تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي: هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السّيئة في حياتكم الدنيا، جازاكم الله بها هذا الجزاء، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي: لا يظلم أحدًا من خلقه، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور -تبارك وتعالى، وتقدّس وتنزّه- الغني الحميد؛ ولهذا جاء في الحديث الصَّحيح عند مسلم -رحمه الله- من رواية أبي ذرٍّ ، عن رسول الله ﷺ: إنَّ الله تعالى يقول: يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلم على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا، فلا تظالموا، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسه.

ولهذا قال تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:52].

يقول تعالى: فعل هؤلاء من المشركين المكذِّبين بما أُرسلتَ به يا محمد كما فعل الأمم المكذّبة قبلهم، ففعلنا بهم ما هو دأبنا، أي: عادتنا وسُنتنا في أمثالهم من المكذّبين من آل فرعون ومَن قبلهم من الأمم المكذّبة بالرسل، الكافرين بآيات الله: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي: بسبب ذنوبهم أهلكهم وأخذهم أخذ عزيزٍ مُقتدر: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ أي: لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب.

الشيخ: وهذا المقصود: التَّحذير، قصَّ الله على عباده أخبار الماضين للتَّحذير والتَّرهيب والحثِّ على طاعة الله ورسوله، وأنَّ الله -جلَّ وعلا- شديد العقاب لمن خالف أمره، واستكبر عن حقِّه، كما أنَّه جواد كريم، غفور رحيم لمن أطاعه واستقام على أمره، يعني: فاحذروا أيّها الناس أن تفعلوا ما فعل أعداءُ الله؛ أن يُصيبكم ما أصابهم، نعم، والله المستعان.

س: السّفود؟

ج: السّفود شيء يُؤخذ به الصّوف، مثل: الشّوك من حديدٍ أو غيره.