تفسير قوله تعالى: {وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ..} (2)

وقال حماد بن سلمة: عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ أنَّه قال: الحجّ الأكبر يوم النَّحر.

وكذا رُوي عن أبي جُحيفة وسعيد بن جبير وعبدالله بن شداد بن الهاد ونافع بن جبير بن مطعم والشَّعبي وإبراهيم النَّخعي ومجاهد وعكرمة وأبي جعفر الباقر والزهري وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنَّهم قالوا: يوم الحجّ الأكبر هو يوم النَّحر. واختاره ابنُ جرير.

وقد تقدّم الحديثُ عن أبي هريرة في "صحيح البخاري": أنَّ أبا بكر بعثهم يوم النَّحر يُؤذِّنون بمنى.

وقد ورد في ذلك أحاديث أُخَر.

الشيخ: ويدلّ على هذا قوله -جلَّ وعلا-: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ [التوبة:3] هم أذَّنوا يوم النحر، وهو يوم الحجّ الأكبر، فهم يُنادون يوم النحر، يطوفون على الناس في منازلهم ويقولون: إنَّه لا يحجّ بعد العام مُشركٌ، ولا يطوف بالبيت عُريان، ولا يدخل الجنةَ إلا نفسٌ مُؤمنة، ومَن كان له عهدٌ عند رسول الله ﷺ فهو إلى مُدَّته، ومَن ليس له عهدٌ فله أربعة أشهر.

يُنادون في الناس بهذا يوم النَّحر، والله سمَّاه يوم الحجّ الأكبر: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؛ وذلك لأنَّ فيه غالب أعمال الحجّ: الرمي، والنَّحر، والحلق، والطّواف، والسّعي، كلّها تُفعل في يوم النَّحر، والأفضل أن تكون يوم النَّحر جميعًا: يرمي الجمرة يوم النَّحر، وينحر هديه، ويحلق رأسه أو يُقصّره، ويطوف، ويسعى، وكلّ هذه فعلها النبي يوم العيد، يوم النَّحر في حجّة الوداع: رمى، ثم نحر، ثم حلق، ثم ..... إلى البيت فطاف به -عليه الصلاة والسلام-، نعم.

كما قال الإمام أبو جعفر ابن جرير: حدَّثني سهل بن محمد السّجستاني: حدثنا أبو جابر الحرمي.

الطالب: في "لسان الميزان": محمد بن عبدالملك، أبو جابر، الأزدي، صاحب شعبة، قال أبو حاتم: ليس بقويٍّ، أدركته، ومات قبلنا بيسيرٍ. قلتُ: لقي ابن عون، وجاور بمكّة، حدَّث عنه الحارث ابن أبي أسامة. انتهى. وروى عنه عرين ابن أبي مرة حديثًا عن محمد بن إسماعيل الصَّائغ، وذكره ابنُ حبان في "الثقات"، وقال: أصله من واسط، روى عنه أبو حاتم السّجستاني وأهل العراق، مات سنة إحدى وعشرين ومئتين.

............

الشيخ: الحرمي نسبة إلى الحرم.

حدثنا هشام بن الغازي الجرشي، عن نافع، عن ابن عمر قال: وقف رسولُ الله ﷺ يوم النَّحر عند الجمرات في حجّة الوداع فقال: هذا يوم الحجّ الأكبر.

وهكذا رواه ابنُ أبي حاتم وابنُ مردويه من حديث أبي جابر، واسمه: محمد بن عبدالملك، به.

ورواه ابنُ مردويه أيضًا من حديث الوليد بن مسلم، عن هشام بن الغازي، به.

ثم رواه من حديث سعيد بن عبدالعزيز، عن نافع، به.

وقال شُعبة: عن عمرو بن مرة، عن مرة الهمداني، عن رجلٍ من أصحاب النبي ﷺ قال: قام فينا رسولُ الله ﷺ على ناقةٍ حمراء مُخضرمة، فقال: أتدرون أيّ يومٍ يومكم هذا؟ قالوا: يوم النَّحر. قال: صدقتم، يوم الحجّ الأكبر.

وقال ابنُ جرير: حدثنا أحمد بن المقدام: حدثنا يزيد بن زريع: حدثنا ابنُ عون، عن محمد بن سيرين، عن عبدالرحمن ابن أبي بكرة، عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم قعد رسولُ الله ﷺ على بعيرٍ له، وأخذ الناسُ بخطامه أو زمامه، فقال: أيّ يومٍ هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنَّه سيُسميه سوى اسمه، فقال: أليس هذا يوم الحجّ الأكبر؟. وهذا إسنادٌ صحيحٌ، وأصله مُخرّج في الصَّحيح.

وقال أبو الأحوص: عن شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه قال: سمعتُ رسول الله ﷺ في حجّة الوداع، فقال: أيّ يومٍ هذا؟ فقالوا: اليوم الحجّ الأكبر.

وعن سعيد بن المسيب أنَّه قال: يوم الحجّ الأكبر اليوم الثاني من يوم النَّحر. رواه ابنُ أبي حاتم.

الشيخ: انظر شبيب.

الطالب: في "التقريب": شبيب بن غرقدة -بمعجمة وقاف-، ثقة، من الرابعة. (ع).

طالب آخر: في "الخلاصة": شبيب بن غرقدة -بفتح المعجمة والقاف بينهما راء ساكنة-، السّلمي، عن عروة البارقي، وعنه شعبة والسّفيانان وأبو الأحوص، وثَّقه أحمد بن حنبل، له حديثٌ في الجامع. (ع).

...........

وقال مجاهد أيضًا: يوم الحجّ الأكبر أيام الحجّ كلّها. وكذا قال أبو عبيد.

قال سفيان: يوم الحجّ ويوم الجمل ويوم صفين أي: أيامه كلّها.

وقال سهل السّراج: سُئل الحسن البصري عن يوم الحجّ الأكبر، فقال: ما لكم وللحجّ الأكبر؟! ذاك عامٌ حجَّ فيه أبو بكر الذي استخلفه رسولُ الله ﷺ فحجَّ بالناس. رواه ابنُ أبي حاتم.

وقال ابنُ جرير: حدثنا ابن وكيع: حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون: سألتُ محمدًا –يعني: ابن سيرين- عن يوم الحجّ الأكبر، فقال: كان يومًا وافق فيه حجّ رسول الله ﷺ وحجّ أهل الوبر.

الشيخ: والمقصود أنَّ أرجح هذه الأقوال هو يوم النَّحر، يوم الحجّ الأكبر، نعم، والقول الثاني بعده: هو يوم عرفة، نعم، أمَّا القول بأنَّه الثاني عشر فهذا قولٌ شاذٌّ ضعيفٌ، فالقولان المشهوران: يوم النَّحر، ويوم عرفة، والصواب أنَّه يوم النحر، والأمر لا يترتب عليه شيء، الأحكام هي هي، سواء سُمّي يوم النَّحر: حجّ أكبر، أو سُمّي يوم عرفة، الأحكام على ما هي عليه، لا يتغير شيء، نعم.

إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4].

هذا استثناءٌ من ضرب مدّة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهدٌ مُطلقٌ، ليس بمُؤقّتٍ، فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض؛ يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء، إلا مَن له عهدٌ مُؤقّتٌ فأجله إلى مدّته المضروبة التي عُوهِد عليها، وقد تقدّمت الأحاديث، ومَن كان له عهدٌ مع رسول الله ﷺ فعهده إلى مُدّته، وذلك بشرط أن لا ينقض المعاهد عهده، ولم يُظاهر على المسلمين أحدًا، أي: يُمالئ عليهم مَن سواهم، فهذا الذي يوفى له بذمّته وعهده إلى مُدَّته.

الشيخ: يعني: إذا لم ينقض العهد، ولم يُظاهر على المسلمين، أمَّا إذا نقض هو أو ظاهر انتقض عهدُه.

ولهذا حرَّض تعالى على الوفاء بذلك، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي: الموفين بعهدهم.

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:5].

اختلف المفسّرون في المراد بالأشهر الحرم هاهنا ما هي؟

فذهب ابنُ جرير إلى أنَّها المذكورة في قوله تعالى: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ الآية [التوبة:36].

قال أبو جعفر الباقر: ولكن قال ابنُ جرير: آخر الأشهر الحرم في حقِّهم المحرم.

وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي ابن أبي طلحة عن ابن عباسٍ، وإليه ذهب الضَّحاك أيضًا، وفيه نظر.

والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابنُ عباسٍ في رواية العوفي عنه، وبه قال مجاهد وعمرو بن شُعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسّدي وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم: أنَّ المراد بها أشهر التَّسيير الأربعة المنصوص عليها بقوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2].

ثم قال: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي: إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرّمنا عليكم فيها قتالهم وأجَّلناهم فيها، فحيثما وجدتُموهم فاقتلوهم؛ لأنَّ عود العهد على مذكورٍ أولى من مُقدّرٍ، ثم إنَّ الأشهر الأربعة المحرّمة سيأتي بيانُ حكمها في آيةٍ أخرى بعد في هذه السورة الكريمة.

وقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي: من الأرض، وهذا عامٌّ، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191].

وقوله: وَخُذُوهُمْ أي: وأسروهم إن شئتُم قتلًا، وإن شئتم أسرًا.

وقوله: وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي: لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم، والرّصد في طرقهم ومسالكهم حتى تُضيّقوا عليهم الواسع، وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام؛ ولهذا قال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

ولهذا اعتمد الصديقُ في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها، حيث حرّمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبّه بأعلاها على أدناها، فإنَّ أشرف أركان الإسلام بعد الشَّهادتين الصلاة التي هي حقّ الله ، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفعٌ مُتعدٍّ إلى الفُقراء والمحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين؛ ولهذا كثيرًا ما يقرن اللهُ بين الصَّلاة والزكاة.

وقد جاء في "الصحيحين" عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن رسول الله ﷺ أنَّه قال: أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة الحديث.

وقال أبو إسحاق: عن أبي عبيدة، عن عبدالله بن مسعود قال: أُمرتم بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومَن لم يُزَكِّ فلا صلاةَ له.

وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: أبى اللهُ أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: يرحم اللهُ أبا بكر، ما كان أفقهه!

س: أحسن الله إليك، ..... الزكاة؟

ج: إن قاتل دونها مثلما فعل الصحابةُ يُقاتل كافرًا، وإن منعها من غير أن يُقاتل يُؤخذ بها ويُعزر، كما قال في الحديث: وإنا آخذوها وشطر ماله، أمَّا إذا قاتل دونها فهذا دليلٌ على أنَّه جاحدٌ لها؛ فيُقاتل كافرًا كما فعل الصديقُ والصحابة .

س: قول بعضهم أنَّ الصلاةَ لا تُقبل إلا بالزكاة؟

ج: لا، الصواب أنها تُقبل .....، هذا من باب التَّغليظ، وإلا إذا صلَّى فالزكاة فرضٌ، ولكن لا يكفر بتركها إلا إذا حارب دونها وقاتل.

س: ما صحّة دعاء النبي ﷺ: اللهم إني أشكو إليك ضعفَ قوتي، وقِلّة حيلتي؟

ج: مشهور، ولكن في سنده بعض المقال.

س: ..............؟

ج: الرأي الراجح فيها: هي أشهر التَّسيير التي سيّره فيها، قال: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2] يعني: ذو الحجّة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشرًا من ربيع الآخر. الله المستعان.