تفسير قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ..}

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان: حدثنا همام: حدثنا قتادة، عن سعيد ابن أبي الحسن، عن عبدالله بن الصَّامت أنَّه كان مع أبي ذرٍّ، فخرج عطاؤه ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، ففضلت معها سبعة، فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال: قلت: لو ادَّخرته لحاجة بيوتك وللضيف ينزل بك؟ قال: إنَّ خليلي عهد إليَّ أنَّ أيّما ذهبٍ أو فضَّةٍ أُوكئ عليه فهو جمرٌ على صاحبه حتى يُفرغه في سبيل الله .

ورواه عن يزيد، عن همام، به، وزاد: إفراغًا.

وقال الحافظ ابنُ عساكر بسنده إلى أبي بكر الشّبلي في ترجمته عن محمد بن مهدي: حدثنا عمرو ابن أبي سلمة، عن صدقة بن عبدالله، عن طلحة بن زيد، عن أبي فروة الرّهاوي، عن عطاء، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: القَ الله فقيرًا، ولا تلقَه غنيًّا، قال: يا رسول الله، كيف لي بذلك؟ قال: ما سُئلتَ فلا تمنع، وما رُزقتَ فلا تُخبئ، قال: يا رسول الله، كيف لي بذلك؟ قال رسولُ الله ﷺ: هو ذاك وإلا فالنَّار. إسناده ضعيفٌ.

الشيخ: مثلما تقدّم كلّ ما ورد في هذا الباب معناه هو: أن يبخل بما أوجب الله عليه، أمَّا مَن أدَّى ما أوجب اللهُ عليه فلا حرجَ عليه، لا يكون كنزًا إلا مَن بخل بما يجب عليه من زكاةٍ وغيرها، فإنَّه يُؤاخذ بما بخل به، أمَّا مَن أدّى الحقوق فلا بأسَ عليه، وإن كانت عنده الأموال الطَّائلة الكثيرة إذا أدَّى حقَّها كما تقدّم في قصّة أبي بكر الصّديق وعبدالرحمن بن عوف وغيرهما من أغنياء الصَّحابة .

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان: حدثنا جعفر بن سليمان: حدثنا عيينة، عن يزيد بن الصرم قال: سمعتُ عليًّا يقول: مات رجلٌ من أهل الصّفة وترك دينارين أو درهمين، فقال رسولُ الله ﷺ: كيّتان، صلّوا على صاحبكم. وقد رُوي هذا من طرقٍ أخر.

وقال قتادة: عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة -صدي بن عجلان- قال: مات رجلٌ من أهل الصّفة فوجد في مئزره دينار، فقال رسولُ الله ﷺ: كيّة، ثم تُوفي رجلٌ في مئزره ديناران، فقال رسولُ الله ﷺ: كيّتان.

الشيخ: وهذا لو صحَّ يُحمل على محملٍ صالحٍ، يُحمل على أنَّه بخل بهما عن حقٍّ، أو أخذهما من سحتٍ، أو ما يُشبه ذلك لو صحَّ الخبر. نعم.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبي: حدثنا أبو النَّضر إسحاق بن إبراهيم الفراديسي: حدثنا معاوية بن يحيى الأطرابلسي: حدثني أرطاة: حدثني أبو عامر الهوزني: سمعتُ ثوبان مولى رسول الله ﷺ قال: ما من رجلٍ يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل اللهُ بكل قيراطٍ صفحةً من نارٍ يُكوى بها من قدمه إلى ذقنه.

وقال الحافظ أبو يعلى: حدَّثنا محمود بن خداش: حدثنا سيف بن محمد الثّوري: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: لا يُوضع الدِّينار على الدِّينار، ولا الدِّرهم على الدِّرهم، ولكن يُوسع جلده فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ. سيف هذا كذَّاب، متروك.

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:36].

قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل: أخبرنا أيوب: أخبرنا محمد بن سيرين، عن أبي بكرة: أنَّ النبي ﷺ خطب في حجّته فقال: ألا إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السَّماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حُرم، ثلاثة مُتواليات: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان، ثم قال: ألا أيّ يومٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنَّه سيُسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النَّحر؟ قلنا: بلى. ثم قال: أيّ شهرٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنَّه سيُسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجّة؟ قلنا: بلى. ثم قال: أيّ بلدٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنَّه سيُسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى. قال: فإنَّ دماءكم وأموالكم -وأحسبه قال- وأعراضكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. وستلقون ربَّكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضُلَّالًا يضرب بعضُكم رقابَ بعضٍ، ألا هل بلغتُ؟ ألا ليُبلّغ الشَّاهد منكم الغائب، فلعلَّ مَن يبلغه يكون أوعى له من بعض مَن سمعه.

رواه البخاري في "التفسير" وغيره، ومسلم من حديث أيوب، عن محمد -وهو ابن سيرين-، عن عبدالرحمن ابن أبي بكرة، عن أبيه، به.

الشيخ: وهذا فيه الدّلالة على وجوب التَّبليغ، وأنَّ الواجب على أهل العلم أن يُبلِّغوا رسالة الله، كما بلَّغ الصحابةُ ، وهكذا مَن بعدهم، يجب على أهل العلم أن يُبلِّغوا وينشروا العلم، ويعظوا، ويُذكِّروا؛ حتى تبلغ الحجّة لمن خفيت عليه، وحتى تقوم الحجّة على مَن جهلها.

والرسول خطب الناس في حجّة الوداع في عرفة، وفي يوم النَّحر، وخطب أيضًا بعد ذلك، وأبدى وأعاد في هذا الأمر، وقال: إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلّغتُ؟ فليُبلّغ الشَّاهد الغائب، فرُبَّ مُبلَّغٍ أوعى من سامعٍ.

وهكذا أنذر الناس قبل الحجِّ وبعد الحجِّ، وقال: كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه.

فالواجب على أهل العلم أن يُبلِّغوا، وعلى المسلمين أن يتناصحوا، وأن يحذر بعضُهم بعضًا، هكذا يكون نصرُ الدِّين: بالتواصي، بالتناصح، بنشر العلم، بالدّعوة إلى الله، كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ الآية [التوبة:71]، ويقول سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، وقال سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فأتباعه هكذا يدعون إلى الله على بصيرةٍ، لا يسكتون، بل يُبَيِّنون الحقَّ الذي عندهم فيه علم في منازلهم، وفي مجالسهم، وفي مساجدهم، وفي مُجتمعاتهم، وبين إخوانهم، أينما كانوا، وفي مراكبهم، أينما كانوا دُعاة إلى الله، يفرحون بأن يصل العلمُ إلى غيرهم، ولهم مثل أجور مَن هداه الله على يدهم، هذا خيرٌ عظيمٌ.

يقول ﷺ: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله، مَن دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا.

إنسانٌ يتكاسل عن الصلاة في الجماعة، ثم ذكّرته بالله وحرّصته؛ فصار يُصلي في الجماعة، صار لك مثل أجوره ما بقي على هذه الدنيا إذا كان يُحافظ على الصَّلاة.

إنسانٌ عاقٌّ لوالديه، فذكّرته بالله وبرَّ والديه بأسبابك، لك مثل أجره أبدًا حتى يموت، نهيتَه عن الإسبال، فرفع ثيابه بأسبابك، لك مثل أجره دائمًا، يحلق لحيتَه، ذكّرته بالله فوفرها، لك مثل أجره، يُعامِل بالربا، فذكّرته بالله، فترك المعاملة بالربا، لك مثل أجره، يغتاب الناس، فذكّرته بالله، لك مثل أجره، نمَّام، فذكّرته بالله، لك مثل أجره.

وهكذا مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله: مَن دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، فهذا خيرٌ عظيمٌ وفضلٌ كبيرٌ، لا ينبغي التَّقاعس عنه والتَّساهل به، نعم.

س: قوله: "الله ورسوله أعلم" هل تُقال في حياته، أم تُقال مطلقًا؟

ج: في حياته، وبعد وفاته يقول: الله أعلم، لا أدري. أمَّا في حياته فيُقال؛ لأنَّه إذا جهل يسأل الإنسان ويعلمه، اللهم صلِّ عليه وسلّم.

س: قوله: إنَّ الزمان قد استدار ما معناها؟

ج: كانت الجاهلية ينسؤون بعض الشُّهور، يُغيرون ويُبدّلون، فيجعلون ذا القعدة في شوال، وذا الحجّة ذا القعدة، والمحرم ذا الحجّة، وصفر يجعلونه مكان عاشوراء، يُقدِّمون ويُؤخِّرون، فصادف حجّة الوداع أنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السَّماوات والأرض: ذو الحجّة ذو الحجّة، والمحرم المحرم، وذو القعدة ذو القعدة، إلى يومنا هذا.

وقد قال ابنُ جرير: حدثنا معمر: حدثنا روح: حدثنا أشعث، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السَّماوات والأرض، وإنَّ عدّة الشُّهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السَّماوات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان.

ورواه البزار عن محمد بن معمر، به. ثم قال: لا يُروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه.

وقد رواه ابنُ عون وقرّة، عن ابن سيرين، عن عبدالرحمن ابن أبي بكرة، عن أبيه، به.

وقال ابنُ جرير أيضًا: حدَّثني موسى بن عبدالرحمن المسروقي: حدثنا زيد بن حباب: حدثنا موسى بن عبيدة الربذي: حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر قال: خطب رسول الله ﷺ في حجّة الوداع بمنى في أوسط أيام التَّشريق فقال: أيّها الناس، إنَّ الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإنَّ عدّة الشُّهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم: أولهنّ رجب مُضر بين جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرم.

وروى ابنُ مردويه من حديث موسى بن عبيدة، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، مثله أو نحوه.

وقال حمادُ بن سلمة: حدثني علي بن زيد، عن أبي حمزة الرّقاشي.

مداخلة: عن أبي حرّة الرّقاشي.

الشيخ: انظر "التقريب".

عن عمِّه -وكانت له صُحبة- قال: كنتُ آخذًا بزمام ناقة رسول الله ﷺ في أوسط أيام التَّشريق أذود الناسَ عنه، فقال رسولُ الله ﷺ: ألا إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإنَّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، فلا تظلموا فيهنَّ أنفسكم.

وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباسٍ في قوله: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ قال: محرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجّة.

وقوله ﷺ في الحديث: إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض تقريرٌ منه -صلوات الله وسلامه عليه- وتثبيتٌ للأمر على ما جعله الله في أول الأمر، من غير تقديمٍ ولا تأخيرٍ، ولا زيادة ولا نقصٍ، ولا نسيء ولا تبديل، كما قال في تحريم مكّة: إنَّ هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرامٌ بحُرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وهكذا قال هاهنا: إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، أي الأمر اليوم شرعًا كما ابتدع الله ذلك في كتابه يوم خلق السماوات والأرض.

وقد قال بعضُ المفسّرين والمتكلمين على هذا الحديث: إنَّ المراد بقوله: قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض أنَّه اتّفق أن حجَّ رسولُ الله ﷺ في تلك السنة في ذي الحجّة، وأنَّ العرب قد كانت نسأت النّسيء، يحجّون في كثيرٍ من السنين -بل أكثرها- في غير ذي الحجّة، وزعموا أنَّ حجّة الصّديق في سنة تسعٍ كانت في ذي القعدة، وفي هذا نظر كما سنُبينه إذا تكلّمنا عن النّسيء.

وأغرب منه ما رواه الطَّبراني عن بعض السَّلف في جملة حديث: أنَّه اتّفق حجّ المسلمين واليهود والنَّصارى في يومٍ واحدٍ، وهو يوم النَّحر عام حجّة الوداع، والله أعلم.

الشيخ: عليه شيء ..... حمزة؟

الطالب: أي نعم، يقول: حنيفة، أبو حرّة، الرَّقاشي -بفتح الراء والقاف- مشهور بكُنيته، وقيل: اسمه حكيم. ثقة، من الثالثة. (أبو داود).

الشيخ: و"الخلاصة"؟

الطالب: في الكُنى غير موجودٍ.

الشيخ: حنيفة في الأسماء! صلّحه عندك: عن أبي حرّة الرَّقاشي.

..............

س: ..............؟

ج: بعض أهل العلم يرى أنها باقية، وأنه لا يُقاتل فيها، والمعروف عند جمهور أهل العلم أنَّه نسخ حكمها، وأنَّه لا بأس بالقتال فيها، كما قاتل الصحابةُ فيها في أيام الصّديق وأيام عمر، نعم.

.............