تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها..}

وقال محمد بن إسحاق: حدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله قال: فخرج مالك بن عوف بمَن معه إلى حنين، فسبق رسول الله ﷺ إليه، فأعدّوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه، وأقبل رسولُ الله ﷺ وأصحابه حتى انحطَّ بهم الوادي في عماية الصُّبح، فلمَّا انحطَّ الناسُ ثارت في وجوههم الخيل فشدّت عليهم، وانكفأ الناسُ مُنهزمين، لا يُقبل أحدٌ على أحدٍ، وانحاز رسولُ الله ﷺ ذات اليمين يقول: أيها الناس، هلموا إليَّ، أنا رسول الله، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبدالله، فلا شيء، وركبت الإبلُ بعضها بعضًا، فلمَّا رأى رسولُ الله ﷺ أمر الناس قال: يا عباس، اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السّمرة، فأجابوه: لبيك، لبيك. فجعل الرجلُ يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه في عنقه، ويأخذ سيفه وقوسه، ثم يؤمّ الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله ﷺ منهم مئة، فاستعرض الناس، فاقتتلوا، وكانت الدَّعوة أول ما كانت بالأنصار، ثم جُعلت آخرًا بالخزرج، وكانوا صُبراء عند الحرب، وأشرف رسول الله ﷺ في ركابه فنظر إلى مُجتلد القوم، فقال: الآن حمي الوطيس، قال: فوالله ما راجعه الناس إلا والأُسارى عند رسول الله مُلقون، فقتل اللهُ منهم مَن قتل، وانهزم منهم ما انهزم، وأفاء اللهُ على رسوله أموالهم وأبناءهم.

وفي "الصحيحين" من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما-: أنَّ رجلًا قال له: يا أبا عمارة، أفررتم عن رسول الله ﷺ يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله ﷺ لم يفر، إنَّ هوازن كانوا قومًا رُماةً، فلمَّا لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا، فأقبل الناسُ على الغنائم، فاستقبلونا بالسِّهام، فانهزم الناسُ، فلقد رأيتُ رسول الله ﷺ وأبو سفيان بن الحارث آخذٌ بلجام بغلته البيضاء، وهو يقول: أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبدالمطلب.

قلتُ: وهذا في غاية ما يكون من الشَّجاعة التَّامة؛ إنَّه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى، وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلةٍ، وليست سريعة الجري، ولا تصلح لفرٍّ، ولا لكرٍّ، ولا لهربٍ، وهو مع هذا أيضًا يركضها إلى وجوههم، ويُنوّه باسمه ليعرفه مَن لم يعرفه، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدِّين.

الشيخ: وذلك ..... الله من ثبات القلب وثقته بنصر ربِّه -جلَّ وعلا-، فهو واثقٌ بنصر ربِّه وما أعطاه الله من الثَّبات والشَّجاعة والإقدام ما ليس لغيره؛ ولهذا جعل يتقدّم للعدو .....، وأبو سفيان آخذٌ بلجام البغلة، وأبو سفيان هذا هو ابن الحارث بن عبدالمطلب، الذي كان يهجو النبي ﷺ، وكان حسانُ يردّ عليه، هداه الله وأسلم وحسن إسلامه .....، وكان قبل ذلك ما نُسب إليه، فهداه الله وأسلم عام الفتح.

والمقصود أنَّ الله -جلَّ وعلا- ابتلاهم بما اقتضى فرار الكثير من المسلمين، ثم ..... والحمد لله، ونصرهم الله وأيَّدهم، وأنزل في هذا قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ۝ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [التوبة:25-26]، فنصرهم الله وأيَّدهم، وألقى في قلوبهم الجدّ والرَّغبة في القتال، وانعطفوا على عدوهم، وأنزل اللهُ جنودًا من السَّماء، أيَّدهم بالملائكة حتى هزم اللهُ جيشَ عدوهم، نعم.

وما هذا كلّه إلا ثقةً بالله، وتوكلًا عليه، وعلمًا منه بأنَّه سينصره، ويتمّ ما أرسله به، ويُظهر دِينَه على سائر الأديان.

الشيخ: ومن حكمة الله -جلَّ وعلا-، ومن نصره لأوليائه، ومن –أيضًا- تيسيره لهم: أنَّ هؤلاء القوم جاءوا بنسائهم وأبنائهم ونعمهم؛ ليحموا بها ظهورهم، حتى ينشطوا في القتال، فصارت غنيمةً للمسلمين، هذا الجيش العظيم، والأموال العظيمة من الإبل والغنم والنِّساء والأبناء كلّها صارت غنيمةً للمسلمين، جاءوا بها ليحموا بها ظهورهم، فانهزموا وتركوها، فاستاقها المسلمون غنيمةً عظيمةً: من الإبل الكثيرة، والغنم الكثيرة، والنساء، والأولاد، هذا كلّه من عظيم إكرام الله لأوليائه، ومن عظيم نصره لهم، وتيسيره لهم ، حتى بعدما انتهت المعركةُ، وأيَّد اللهُ رسولَه والمؤمنين، جاءوا مُسلمين بعد ذلك، جاءت هوازن يُريدون نساءهم وأبناءهم –المسلمين-، فقال لهم النبي ﷺ: ..... الجيش والناس، وأحبّ الكلام إلى الله أصدقه، فاختاروا أحد الأمرين: إمَّا الأهل والأولاد، وإمَّا المال، أما أن أُعطيكم هذا وهذا جميعًا فلا، فقالوا: نختار أهلنا وأبناءنا، كما يأتي .....، وأخبرهم بإسلامهم، وأنَّه ..... قد أعطاهم نساءهم وأبناءهم، وطلب من المسلمين أن يطيبوا نفوسًا بذلك، ومَن لم تطب نفسُه فإنَّه يُعطى مما يفيء اللهُ على المسلمين عوضًا مما ..... من نساء هوازن وأبنائهم.

ولهذا قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ أي: طُمأنينته وثباته وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي: الذين معه وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:26] وهم الملائكة، كما قال الإمامُ أبو جعفر ابن جرير: حدَّثنا القاسم: حدثني الحسن بن عرفة قال: حدثني المعتمر بن سليمان، عن عوف -هو ابن أبي جميلة الأعرابي- قال: سمعتُ عبدالرحمن مولى ابن برثن: حدَّثني رجلٌ كان مع المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله ﷺ يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاةٍ. قال: فلمَّا كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله ﷺ، قال: فتلقانا عنده رجالٌ بيضٌ حسانُ الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا. قال: فانهزمنا، وركبوا أكتافنا، فكانت إياها.

وقال الحافظُ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبدالله الحافظ: حدَّثني محمد بن أحمد بن بالويه: حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي: حدثنا عفان بن مسلم: حدثنا عبدالواحد بن زياد: حدثنا الحارث بن حصيرة: حدثنا القاسم بن عبدالرحمن، عن أبيه قال: قال ابنُ مسعودٍ : كنتُ مع رسول الله ﷺ يوم حنين، فولَّى عنه الناسُ، وبقيتُ معه في ثمانين رجلًا من المهاجرين والأنصار، قدمنا ولم نُولهم الدّبر، وهم الذين أنزل اللهُ عليهم السَّكينة. قال: ورسول الله ﷺ على بغلته البيضاء يمضي قدمًا، فحادت بغلتُه، فمال عن السّرج، فقلتُ: ارتفع، رفعك الله. قال: ناولني كفًّا من التراب، فناولته، قال: فضرب به وجوههم، فامتلأت أعينهم ترابًا، قال: أين المهاجرون والأنصار؟ قلتُ: هم هناك. قال: اهتف بهم، فهتفتُ بهم، فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشُّهب، وولَّى المشركون أدبارهم.

ورواه الإمام أحمد في "مسنده" عن عفان، به نحوه.

وقال الوليد بن مسلم: حدَّثني عبدالله بن المبارك، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن شيبة بن عثمان قال: لما رأيتُ رسول الله ﷺ يوم حنين قد عري ذكرتُ أبي وعمي، وقتل علي وحمزة إيَّاهما، فقلتُ: اليوم أُدرك ثأري منه.

الشيخ: معنى "عري" يعني: ما حوله الكثير، "عري" يعني: انكشف عنه الناس، وما بقي معه إلا القليل، هذا معنى "عري"، يعني: عري من كثرة الجنود، ما هناك جنود كثير حتى يمكن أن أقتله، نعم.

قال: فذهبتُ لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس بن عبدالمطلب قائمًا، عليه درع بيضاء كأنَّها فضّة يكشف عنها العجاج، فقلتُ: عمّه ولن يخذله. قال: فجئتُه عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، فقلت: ابن عمّه ولن يخذله. فجئتُه من خلفه فلم يبقَ إلا أن أُسوّره سورةً بالسيف، إذ رُفِعَ لي شواظٌ من نارٍ بيني وبينه كأنَّه برق، فخفتُ أن تمحشني، فوضعتُ يدي على بصري ومشيتُ القهقرى، فالتفت رسولُ الله ﷺ وقال: يا شيبة، يا شيبة، ادنُ مني، اللهم أذهب عنه الشيطان، قال: فرفعتُ إليه بصري ولهو أحبّ إليَّ من سمعي وبصري. فقال: يا شيبة، قاتل الكفَّار. رواه البيهقي من حديث الوليد فذكره.

ثم روى من حديث أيوب بن جابر، عن صدقة بن سعيد، عن مصعب بن شيبة، عن أبيه قال: خرجتُ مع رسول الله ﷺ يوم حنين، والله ما أخرجني إسلامٌ ولا معرفةٌ به، ولكنني أبيتُ أن تظهر هوازن على قريش، فقلت وأنا واقفٌ معه: يا رسول الله، إني أرى خيلًا بلقا؟! فقال: يا شيبة، إنَّه لا يراها إلا كافر، فضرب بيده على صدري، ثم قال: اللهم اهدِ شيبة، ثم ضربها الثانية، ثم قال: اللهم اهدِ شيبة، ثم ضربها الثالثة، ثم قال: اللهم اهدِ شيبة. قال: فوالله ما رفع يدَه عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحدٌ من خلق الله أحبّ إليَّ منه.

الشيخ: ..... من الكفَّار حتى ينهزموا، حتى يُصيبهم الرعب والخوف، أما المؤمنون فقد لا يرونهم؛ لأنَّهم لو رأوهم قد يعتمدون عليهم، وقد يضعفون إزاءهم، ولكن من رحمة الله أن جعل الكفَّار يرونهم؛ حتى يكون ذلك أشدّ في رعبهم، وأكثر سرعةً لهزيمتهم، وقد يراهم بعضُ المؤمنين كما في قصّة بدر.

والمقصود من هذا أنَّ الله سبحانه أيَّد رسلَه بجندٍ من الملائكة حتى انهزم أعداءُ الله.

س: كون ابن مسعودٍ الذي دعا القوم، أليس العباسُ هو الذي دعاهم؟

ج: ابن مسعودٍ والعباس، هذا الأصل .....

وذكر تمام الحديث في التقاء الناس، وانهزام المسلمين، ونداء العباس، واستنصار رسول الله ﷺ حتى هزم اللهُ تعالى المشركين.

قال محمد بن إسحاق: حدَّثني والدي إسحاق بن يسار، عمَّن حدَّثه عن جبير بن مطعم قال: إنا لمع رسول الله ﷺ يوم حنين، والناس يقتتلون، إذ نظرتُ إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السَّماء حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نملٌ منثورٌ قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشكّ أنها الملائكة.

وقال سعيد بن السَّائب بن يسار، عن أبيه قال: سمعتُ يزيد بن عامر السّوائي، وكان شهد حنينًا مع المشركين، ثم أسلم بعد، فكنا نسأله عن الرُّعب الذي ألقى اللهُ في قلوب المشركين يوم حنين، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطنّ، فيقول: كنا نجد في أجوافنا مثل هذا. وقد تقدّم له شاهد من حديث يزيد ابن أبي أسيد، فالله أعلم.

وفي "صحيح مسلم" عن محمد بن رافع، عن عبدالرزاق: أنبأنا معمر، عن همام قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة: أنَّ رسول الله ﷺ قال: نُصرتُ بالرعب، وأُوتيتُ جوامع الكلم.

الشيخ: ونُصرتُ بالرعب مسيرة شهرٍ، اللهم صلِّ عليه، هذا مما أيَّد اللهُ به رسولَه -عليه الصلاة والسلام-: الرُّعب في قلوب الأعداء، مع ما يُنزله في بعض الغزوات من الجنود: كيوم بدر وحنين، نعم.

ولهذا قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [التوبة:26].

وقوله: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:27] قد تاب اللهُ على بقية هوازن فأسلموا، وقدموا عليه مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكّة عند الجعرانة، وذلك بعد الوقعة بقريبٍ من عشرين يومًا، فعند ذلك خيَّرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا سبيَهم، وكانوا ستة آلاف أسير، ما بين صبي وامرأة، فردّه عليهم، وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناسًا من الطُّلقاء؛ لكي يتألّف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مئة من الإبل، وكان من جملة مَن أعطى مئة مالك بن عوف النّصري.

الشيخ: مالك هو أميرهم، هداه الله، نعم.

س: النَّصر بالرعب هل هو خاصٌّ بالرسول ﷺ؟

ج: ليس بخاصٍّ، الظاهر أنَّه لمن نصر دينه أيضًا من بعده ممن نصر دينه؛ لأنَّ المقصود نصر الدِّين.

واستعمله على قومه كما كان، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها:

ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله في الناس كلّهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي ومتى تشأ يخبرك عمَّا في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها بالسّمهري وضرب كل مهند
فكأنَّه ليثٌ على أشباله وسط المباءة خادر في مرصد

.............

س: قوله: يُخبرك عمَّا في غد؟

ج: مما يُخبره الله به من أخبار الوحي، ما هو من نفسه، ما يأتيه من الوحي.