تفسير قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ..}

وقال ابنُ جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين: حدثني حجاج قال: قال ابنُ جريج: قال مجاهد: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذٍ إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس، حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة من نارٍ، وعليه في الشِّتاء حظيرة من ثلجٍ.

الشيخ: هذه من خُرافات الإسرائيليات.

المقصود أنَّ الله -جلَّ وعلا- توعد القاتل، وبيّن عظم الجريمة، كما قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، هذا الوعيد العظيم كافٍ في التَّنفير والتَّحذير، وأمَّا خرافات بني إسرائيل وأخبارهم ما لها حاجة والحمد لله، قد أغنى الله عنها.

المقصود أنَّه بيّن حال ابني آدم وما جرى من أحدهما على الآخر؛ تحذيرًا لنا، تحذير للأمّة من العدوان والظلم، وأنَّ عاقبته وخيمة؛ ولهذا يقول ﷺ في الحديث الصَّحيح: ما قُتلت نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول قسمٌ من دمها -وفي لفظٍ: كفلٌ من دمها-؛ لأنَّه أول مَن سنَّ القتل، أول مَن بدأ به.

فليحذر المؤمن أن يجترئ على المعاصي، فربما يتأسّى به غيره، فقد يزني فيتأسّى به أخوه وجاره وصديقه، وقد يسرق فيتأسّى به الآخر، وقد يُرابي فيتأسّى به آخرون، وقد يغتاب فيتأسّى به آخرون، وقد يُنمّ فيتأسّى به آخرون، وقد يعقّ فيتأسّى به آخرون من أقارب وغيرهم، فليحذر أن يكون داعيةً إلى السُّوء والشَّر بقوله أو فعله.

ففي قصّة ابني آدم تحذيرٌ وإنذارٌ من القطيعة والظُّلم، وفي النُّصوص الأخرى من كتاب الله ومن سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- الشِّفاء والكفاية، والتَّحذير والتَّرهيب من كلِّ ما يُغضب الله ويُباعد من رحمته، نعم.

س: أكبر ذنبٍ بعد الشِّرك القتل؟

ج: هكذا جاءت النصوص، هو أعظم الذنوب، قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، ولما سُئل النبي: أيّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، فالقتل هو أعظم الذُّنوب بعد الشِّرك، وإذا كان لقريبٍ -كالولد والأخ- كان أشرَّ وأعظم؛ قطيعة رحمٍ مع جريمة القتل، نسأل الله العافية.

وجاء في بعض النصوص ما يقتضي أنَّ بعد الشِّرك العقوق، ولكن هذا من باب التَّنفير والتَّعظيم، كما في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان في "الصحيحين" عن أبي بكرة : أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله. قلنا: ثم أيّ؟ قال: عقوق الوالدين، ثم ذكر شهادةَ الزور، فهذا يدلّ على أنَّ العقوق أيضًا له شأنٌ، وأنَّه من أكبر الكبائر، لكن نصّ الآية الكريمة في القرآن وتفسيرها في الحديث الصَّحيح يدلّ على أنَّ القتل أعظم من العقوق، نسأل الله العافية.

قال: وقال عبدالله بن عمرو: إنا لنجد ابن آدم القاتل يُقاسم أهل النار قسمةً صحيحةً العذاب، عليه شطر عذابهم.

وقال ابنُ جرير: حدثنا ابنُ حميد: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن حكيم بن حكيم: أنَّه حدَّث عن عبدالله بن عمرو أنَّه كان يقول: إنَّ أشقى الناس رجلًا لابن آدم الذي قتل أخاه، ما سُفك دمٌ في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شرٌّ؛ وذلك أنَّه أول مَن سنَّ القتل.

وقال إبراهيمُ النَّخعي: ما من مقتولٍ يُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفلٌ منه. ورواه ابنُ جرير أيضًا.

وقوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31].

قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة : لما مات الغلامُ تركه بالعراء، ولا يعلم كيف يدفن، فبعث اللهُ غُرابين أخوين فاقتتلا، فقتل أحدُهما صاحبَه، فحفر له، ثم حثى عليه، فلمَّا رآه قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي.

وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ قال: جاء غرابٌ إلى غرابٍ ميتٍ، فحثى عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه: يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي.

وقال الضَّحاك: عن ابن عباسٍ: مكث يحمل أخاه في جرابٍ على عاتقه سنةً حتى بعث اللهُ الغرابين، فرآهما يبحثان، فقال: أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ، فدفن أخاه.

وقال ليث ابن أبي سليم: عن مجاهد: كان يحمله على عاتقه مئة سنة ميتًا، لا يدري ما يصنع به، يحمله ويضعه إلى الأرض، حتى رأى الغراب يدفن الغراب، فقال: يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. رواه ابنُ جرير وابنُ أبي حاتم.

وقال عطية العوفي: لما قتله ندم، فضمّه إليه حتى أروح، وعكفت عليه الطيور والسِّباع تنتظر متى يرمي به فتأكله. رواه ابنُ جرير.

وروى محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: لما قتله سقط في يده، أي: ولم يدرِ كيف يُواريه؛ وذلك أنَّه كان فيما يزعمون أول قتيلٍ في بني آدم، وأول ميتٍ، فبعث اللهُ غرابًا يبحث في الأرض ليُريه كيف يُواري سوأةَ أخيه: قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.

قال: وزعم أهلُ التوراة أنَّ قينًا لما قتل أخاه هابيل.

الشيخ: هو قابيل، قين هو قابيل.

قال له الله : يا قاين، أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنتُ عليه رقيبًا! فقال الله: إنَّ صوت دم أخيك ليُناديني من الأرض الآن، أنت ملعونٌ في الأرض التي فتحت فاها فتلقّت دم أخيك من يدك، فإن أنت عملتَ في الأرض فإنَّها لا تعود تُعطيك حرثها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض.

وقوله: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ قال الحسن البصري: علاه اللهُ بندامةٍ بعد خسرانٍ.

فهذه أقوال المفسّرين في هذه القصّة، وكلّهم متَّفقون على أنَّ هذين ابنا آدم لصلبه، كما هو ظاهر القرآن، وكما نطق به الحديثُ في قوله: إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها؛ لأنَّه أول مَن سنَّ القتل، وهذا ظاهرٌ جليٌّ.

ولكن قال ابنُ جرير: حدَّثنا ابنُ وكيع: حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن -هو البصري- قال: كان الرجلان اللَّذان في القرآن اللَّذان قال الله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [المائدة:27] من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القُربان من بني إسرائيل، وكان آدمُ أول مَن مات.

وهذا غريبٌ جدًّا، وفي إسناده نظر.

الشيخ: بل باطل، مُخالف لنص القرآن، مُخالفٌ للنص من الكتاب والسُّنة، نعم.

وقد قال عبدُالرزاق: عن معمر، عن الحسن قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ ابني آدم ضربا لهذه الأمّة مثلًا، فخذوا بالخير منهما.

ورواه ابنُ المبارك، عن عاصم الأحول، عن الحسن قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ الله ضرب لكم ابني آدم مثلًا، فخذوا من خيرهم، ودعوا شرَّهم.

وكذا أرسل هذا الحديث بكيرُ بن عبدالله المزني، روى ذلك كلّه ابنُ جرير.

وقال سالم ابن أبي الجعد: لما قتل ابنُ آدم أخاه مكث آدمُ مئة سنة حزينًا لا يضحك، ثم أُتي، فقيل له: حيَّاك الله وبيَّاك، أي: أضحكك. رواه ابنُ جرير.

ثم قال: حدَّثنا ابنُ حميد: حدثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحاق الهمداني قال: قال علي بن أبي طالب: لما قتل ابنُ آدم أخاه بكاه آدمُ فقال:

تغيرت البلادُ ومَن عليها فلون الأرض مُغبر قبيح
تغيّر كل ذي لونٍ وطعمٍ وقلَّ بشاشة الوجه المليح

الشيخ: هذا ما يثبت عن عليٍّ، السند ضعيف، فابن حميد ضعيف، شيخ المؤلف، وأبو إسحاق مُدلس، ولا أظنّه سمع من عليٍّ، مع ما فيه من التَّدليس، انظر: عمرو بن عبدالله في "التقريب"، أبو إسحاق الهمداني في باب عمرو بن عبدالله.

مداخلة: في تعليق يقول: رواه ابنُ جرير من طريق حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان.

الشيخ: ابن شيطان؟! لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، أعوذ بالله.

الطالب: قال أحمد: مطروحُ الحديث. وقال ابنُ معين: ليس بثقةٍ.

الشيخ: هذا سندٌ آخر، نعم، غيره؟ هذا غير السَّند، السند: حدثنا ابنُ حميد، أيش بعده؟

قارئ المتن: حدَّثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن .....

الشيخ: غير الحاشية، الحاشية على شيءٍ آخر، انظر: عمرو بن عبدالله الهمداني في "التقريب".

س: غياث بن إبراهيم أليس كذَّابًا؟ ابن إبراهيم النَّخعي.

ج: محتمل، ما أعرفه. عندكم عليه شيء: غياث بن إبراهيم؟

الطالب: عمرو يا شيخ.

الشيخ: إيه.

الطالب: عمرو بن عبدالله بن عبيد، ويقال: علي، ويقال: ابن أبي شعيرة، الهمداني، أبو إسحاق، السَّبيعي -بفتح المهملة وكسر الموحدة-، ثقة، مُكثر، عابد، من الثالثة، اختلط بأخرة، مات سنة تسعٍ وعشرين ومئة، وقيل قبل ذلك. (الجماعة).

الشيخ: الظاهر أنَّه ما أدرك عليًّا، مع تدليسه ما أدرك عليًّا، مع ضعف ابن حميد، انظر: غياث بن إبراهيم.

الطالب: يقول: وفي سنده ابن حميد، وقد تقدّم أنَّه ضعيفٌ، وفيه أيضًا غياث بن إبراهيم، وهو النّخعي، الكوفي، قال الإمام أحمد: ترك الناس حديثه. وقال البخاري: تركوه. انتهى، وأبو إسحاق لم يسمع عليًّا .

الشيخ: هذا مُقبل؟

الطالب: بعض تلاميذ الشيخ مُقبل.

الشيخ: هذا مثلما قال، طيب.

مُداخلة: الحافظ في "التاريخ" قال: وهذا الشّعر فيه نظر، وقد يكون آدمُ قال كلامًا يتحزّن به بلُغته، فألَّفه بعضُهم إلى هذا، وفيه أقوال.

الشيخ: على كل حالٍ، السَّند ضعيف، السَّند باطل، ما يصلح، نعم.

الطالب: ما ذكر غياث بن إبراهيم.

الشيخ: نعم.

فأُجيب آدم -عليه الصلاة والسلام-:

أبا هابيل قد قتلا جميعًا وصار الحيّ كالميت الذبيح
وجاء بشرة قد كان منها على خوفٍ فجاء بها يصيح

والظاهر أنَّ قابيل عُوجل بالعقوبة، كما ذكره مجاهدُ وابنُ جبير: أنَّه علقت ساقُه بفخذه إلى يوم القيامة، وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت؛ عقوبةً له وتنكيلًا به.

وقد ورد في الحديث: أنَّ النبي ﷺ قال: ما من ذنبٍ أجدر أن يُعجّل اللهُ عقوبته في الدُّنيا مع ما يدّخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرَّحم، وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32].

الشيخ: قف على هذا.

س: في الحديث الأخير الذي ذكره: ما من ذنبٍ أجدر أن يُعجّل .....؟

ج: حديثٌ صحيحٌ: من البغي وقطيعة الرحم، نسأل الله العافية.