المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ جديدٍ من دروس "المنتقى".
ضيف اللِّقاء هو سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.
مع مطلع هذا اللِّقاء نُرحب بسماحة الشيخ، فأهلًا ومرحبًا يا سماحة الشيخ.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: وقف بنا الحديثُ عند قول المؤلف رحمه الله تعالى:
وقرأنا هذه الأحاديث، بقيت هذه الأسئلة عن هذا الباب سماحة الشيخ:
س: الثوب الواحد إذا كان غير صفيقٍ هل تصح الصلاةُ به؟
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فلا تصح الصلاة في الثوب إلا إذا كان ساترًا، أما إذا كان الثوبُ لا يستر لرقته فلا تصح الصلاةُ فيه؛ لأنه لا يستر العورة، أما إذا كان خفيفًا لكنه يستر فيكفي إذا ستر العورةَ مع وجود الرداء على العاتقين أو أحدهما مع القُدرة.
س: سماحة الشيخ، ما شروط اللباس في الصلاة حفظكم الله؟
الشيخ: شروطها أن يكون ساترًا، وأن يكون مباحًا طاهرًا، يستر ما بين السرة والركبة، ويستر العاتقين أو أحدهما، إذا كانت هناك قُدرة على ستر العاتقين في حقِّ الرجل، أما المرأة فلا بدَّ أن تكون السترةُ ساترةً لها كلها، ما عدا الوجه والكفّين، المرأة عورتها أشدّ، الواجب عليها في الصلاة أن تستر جميع بدنها ما عدا الوجه والكفَّين كما تقدم.
س: مما ذكره الفقهاء رحمهم الله: أنَّ الثوب المغصوب لا تصح الصلاةُ به، هل هذا صحيح؟ وما الحكمة من المنع؟
الشيخ: الثوب المغصوب لا تجوز الصلاة فيه، ولا استعماله؛ لأنه ..... أما الصلاة فالصواب أنها تصح؛ لأن العلة ما هي كونها في الصلاة، العلة الظلم، وأنه ظلم بالغصب، فالصلاة تصح في الأرض المغصوبة، والثوب المغصوب، لكن مع الإثم، وعليه التوبة إلى الله وردّ المغصوب إلى أهله.
س: ما يذكره الفقهاء رحمهم الله من الكراهة والاستحباب والمنع مما لم يكن له دليل شرعي، ما الحامل لهم على ذلك؟
الشيخ: إذا كان هناك دليلٌ فالحجة الدليل، أما إذا كان ما هناك دليل فهو بالاجتهاد، قد يُخطئ الاجتهاد، وقد يُصيب الاجتهاد، والأحكام لا بدَّ بالدليل، لا يثبت كون هذا محرم أو مكروه أو مستحبّ أو واجب إلا بالدليل: قال الله، قال رسوله، أو الاستنباط من الأدلة، فالعالم قد يستنبط وقد يغلط.
س: سماحة الشيخ هل الثياب المذكورة في حديث الباب مثل ثيابنا في الوقت الحاضر؟
الشيخ: الثياب المراد بها الرداء والإزار، هذه الثياب، يُسمَّى الرداء: ثوبًا، ويُسمَّى الإزار: ثوبًا، ويُسمَّى المقطع: قميصًا، الذي هو مخيط على قدر البدن يُسمَّى: قميصًا، وإذا كان مخيطًا على قدر النِّصف الأسفل هذا السَّراويل.
بَابُ كَرَاهِيَةِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ مِنْهُ -يَعْنِي- شَيْءٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: نَهَى عَنْ لِبْسَتَيْنِ: أَنْ يَحْتَبِيَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ فِي إزَارِهِ إذَا مَا صَلَّى إلَّا أَنْ يُخَالِفَ بِطَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ.
- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَالِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِلْبُخَارِيِّ: نَهَى عَنْ لِبْسَتَيْنِ.
وَاللِّبْسَتَانِ: اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ.
وَالصَّمَّاءُ: أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ، فَيَبْدُوَ أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، وَاللِّبْسَةُ الْأُخْرَى: احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ وَهُوَ جَالِسٌ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
الشيخ: هذه الأحاديث كلها تدل على تحريم اشتمال الصَّماء والاحتباء وما بينه وبين السَّماء مكشوف؛ لأنه إذا كان مُحتبيًا بالثوب على ساقيه وعلى أسفل ظهره وما يلي السَّماء مفتوح ..... عورته، مَن وقف عليها رآها، فيكون مكشوف العورة، فلا تصح الصلاة في مثل هذا، ولا يجوز الجلوس في مثل هذا؛ لأنه مكشوف العورة.
وأما اشتمال الصَّماء فُسرت بجعل الرداء على أحد شقيه، ولا يجعله على عاتقيه جميعًا، وفُسرت بأنه يلتف بالثوب، وهذا هو الصحيح: الصماء سُميت صماء لأنه يلتف بالثوب، وليس عليه غير الثوب هذا، فربما تحرك لأخذ حاجةٍ فتبدو عورته، يلتف به من دون أن يضبطه ويحزمه على نصفه الأسفل، فيلتفّ به التفافًا، فربما تحرك ليأخذ شيئًا أو يُعطي شيئًا فتبدو عورته.
بَابُ النَّهْيِ عَنِ السَّدْلِ وَالتَّلَثُّمِ فِي الصَّلَاةِ
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنِ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَلِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ: النَّهْيُ عَنِ السَّدْلِ.
وَلِابْنِ مَاجَه: النَّهْيُ عَنْ تَغْطِيَةِ الْفَمِ.
الشيخ: تقدم التَّنبيه على السَّدل، وأنه يضع ثوبًا على عاتقيه، ويدليهما على صدره، ولا يلفّ أحدَهما على الآخر، يضمّ هذا على هذا، السنة أن يضمَّ هذا على هذا، يضم طرفيه على صدره، هذا هو اللبس المطلوب، أما أن يُلقيه على عاتقيه من دون أن يضمَّه فهذا هو السَّدل المنهي عنه، وكذلك لا يُغطِّي فاه، بل يكون وجهه مكشوفًا.
س: الأشياء المكروهة في الصلاة لعلكم تُنبهونا عنها، وما هي؟
الشيخ: أنواع في الصلاة تُكره، فالمؤمن يتحرى ما شرع الله في الصلاة، ويتباعد عمَّا نهى الله عنه في الصلاة، يتفقه في الدِّين، يعرف صلاته كما ينبغي، ومن ذلك: السدل، واشتمال الصماء كما تقدم، وأن يُغطي فاه، كل هذا من المكروه في الصَّلاة.
س: بعض العلماء رحمهم الله ذكروا أنَّ أكثر من ثلاث حركات متتالية لغير حاجةٍ تُبطل الصلاة، هل صحيح هذا؟
الشيخ: لا، هذا قول ضعيف، قولٌ لبعض الفقهاء ضعيف، والصواب أن الحركات إذا كانت كثيرةً عُرفًا مُتواليةً، إذا كانت كثيرةً ومتواليةً وفاحشةً في العُرف أبطلت الصلاة إلا للضَّرورة، كما جرى في صلاة الخوف، فإنَّ الحركات كثيرة في صلاة الخوف لكن للضَّرورة.
س: بعض المصلين يفقدون الخشوعَ في الصلاة، ما السبب في ذلك؟ وما توجيه سماحتكم؟
الشيخ: الغالب أنَّ هذا يقع عن غفلةٍ وهواجس، يكون في الصلاة عنده وسواس وذهول، فيغفل عن الخشوع، والخشوع في الصلاة نوعان: نوع واجب، ونوع كمال، فالواجب الطُّمأنينة، كونه يطمئن في صلاته ويُؤديها بطمأنينةٍ: بركوعه وسجوده وجلوسه بين السَّجدتين واعتداله بعد الركوع، هذا لا بدَّ منه، الطُّمأنينة لا بدَّ، شرط، ولما رأى النبيُّ بعضَ الأعراب لم يطمئنّ أمره بالإعادة.
أما كمال الخشوع فهذا مستحبّ، يعني: يزيد على الطُّمأنينة الواجبة بزيادة كمال خشوعٍ: في جلوسه بين السَّجدتين، في ركوعه، وسجوده، واعتداله بعد الركوع، وأن يجتهد في الخشوع، هذا من الكمال، أما أصل الخشوع فلا بدّ منه، الطُّمأنينة لا بدَّ منها، لكن كلما زادت الطُّمأنينة وكلما اعتنى بالخشوع كان أكمل في الصَّلاة.
بَابُ الصَّلَاةِ فِي ثوب الحرير والغصب
- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَفِيهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ لَمْ يَقْبَل اللَّهُ لَهُ صَلَاةً مَا دَامَ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَقَالَ: صُمَّتَا إنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وفيه دليل على أنَّ النقود تتعين في العقود.
- وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِأَحْمَدَ: مَنْ صَنَعَ أَمْرًا عَلَى غَيْرِ أَمْرِنَا فَهُوَ مَرْدُودٌ.
- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا عَنِيفًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وهذا محمولٌ على أنه لبسه قبل تحريمه؛ إذ لا يجوز أن يُظنَّ به أنه لبسه بعد التَّحريم في صلاةٍ ولا غيرها، ويدل على إباحته في أول الأمر ما روى أنس بن مالك: أن أُكيدر دومة الجندل أهدى إلى النبيِّ ﷺ جبةَ سندسٍ أو ديباجٍ قبل أن ينهى عن الحرير فلبسها، فتعجب الناسُ منها، فقال: والذي نفس محمدٍ بيده، لمناديل سعد بن معاذٍ في الجنة أحسن منها رواه أحمد.
- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: لَبِسَ النَّبِيُّ ﷺ قَبَاءً لَهُ مِنْ دِيبَاجٍ أُهْدِيَ إلَيْهِ، ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقِيلَ: قَدْ أَوْشَكْتَ مَا نَزَعْتَه يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ، فَجَاءَهُ عُمَرُ يَبْكِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَرِهْتَ أَمْرًا وَأَعْطَيْتَنِيهِ! فَمَا لِي؟ فَقَالَ: مَا أَعْطَيْتُك لِتَلْبَسَهُ، إنَّمَا أَعْطَيْتُك تَبِيعُهُ، فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وفيه دليل على أنَّ أمته عليه السلام أسوته في الأحكام.
الشيخ: وهذه الأحاديث كلها تدل على تحريم لباس الثوب المغصوب ولباس الحرير، وأنَّ الشريعة استقرت أنه لا يجوز لبس الحرير للرجل، ولا يجوز للجميع لبس المغصوب، بل يجب ردّ المغصوب إلى أهله؛ ولهذا في حديث ابن عمر الوعيد على مَن صلَّى في ثوبٍ فيه درهم من حرامٍ، ولكن حديث ابن عمر هذا ضعيف، والصواب أنَّ الصلاة صحيحة، لكن عليه التوبة؛ لأنَّ التحريم من لبس الحرير أو المغصوب ما هو من أجل الصلاة؛ لأنه ما يجوز مطلقًا في الصلاة وغيرها، والمغصوب كذلك لا يُلبس: لا في الصلاة، ولا في غيرها، بل يجب ردُّه إلى أهله، فلو صلَّى فيه أثم، والصلاة صحيحة، وعليه ردّ القميص المغصوب إلى أهله، وعليه ترك الحرير كما فعل النبيُّ ﷺ؛ لما نبَّهه جبرائيل خلعه، فدلَّ ذلك على أنه لا يجوز للرجل لبس الحرير، ولا لبس المغصوب، والمرأة كذلك ليس لها لبس المغصوب، بل يجب على كلٍّ منهما ردّ المغصوب إلى صاحبه، أما الصلاة فالصواب أنها تصحّ، كما لو صلَّى في أرضٍ مغصوبةٍ صحَّت الصلاة مع الإثم؛ لأنَّ النهي ما هو لأجل الصلاة، النَّهي من أجل البُعد عن الغصب.
س: ما مناسبة إدخال حديث عائشة رضي الله عنها في هذا الباب؟
الشيخ: يعني يحتجّ به على عدم صحة الصلاة؛ لأنه ليس من أمر النبي، من أمر الله أن يُصلَّى في المغصوب، أو في الحرير، لكن المنع هذا منع من أجل أنه حرير، ومن أجل أنه مغصوب، ما هو من أجل الصلاة، ليس عليه أمرنا، ما يجوز أن يلبس المغصوب، ولا لبس الحرير للرجل، ولا لبس المغصوب للرجل والمرأة جميعًا.
فالحديث حُجَّة على تحريم هذه الأشياء التي حرَّمها الله، ليس للعبد أن يفعلها، ولكن ما هو بداخل في مسألة عدم صحة الصلاة؛ لأنَّ النَّهي عام في الصلاة وخارجها، وما يتعلق بالعبادة، لا بدّ أن يكون عن أمر النبي ﷺ، فالتعبد بالمغصوب أو بالحرير ما يجوز، وليس هذا من باب التَّعبد، هذا من باب التَّساهل بما حرَّم الله، فيكون عاصيًا، وعليه التوبة، وصلاته صحيحة؛ لأنَّ الله حرَّم لبس الحرير على الرجل، وحرم على الجميع لبس المغصوب.
س: الحقيقة هذا الحديث حديث عظيم -حديث عائشة- هل لكم من شرحٍ له ووقفةٍ معه؟
الشيخ: له لفظان:
أحدهما: مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ متفق عليه.
وفي لفظ مسلم: مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ، هذا في العبادات، مَن أحدث عبادةً فمردودة عليه، وهكذا مَن حرَّم ما لم يُحرمه الله، أو أوجب ما لم يُوجبه الله؛ مردود عليه، أما إذا تعاطى ما حرَّم الله فهو محرم من أجل الأدلة الأخرى: إذا لبس المغصوب، أو دخل الأرض المغصوبة، أو اشترى بدراهم محرمة، هذا محرم مطلقًا، لا يختص بالصلاة، ليس على أمر النبي، بل يجب رده، ولا يلزم من هذا بطلان الصلاة، إنما يحرم عليه فعل المغصوب أو الشراء بثمنٍ حرامٍ.
س: يبقى الحرير الصناعي، هل هو داخل في التَّحريم؟
الشيخ: الذي يظهر أنه ما يدخل في التَّحريم، التحريم في الحرير المعروف الذي ينشأ من الدَّابة المعروفة.
كِتَابُ اللِّبَاسِ
بَابُ تَحْرِيمِ لبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ
- عَنْ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ.
- عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
- وَعَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُهْدِيَتْ إلَى النَّبِيِّ ﷺ حُلَّةٌ سِيَرَاءُ، فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ، فَلَبَسْتُهَا، فَعَرَفْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، إنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إلَيْك لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُوم بِنْتِ النَّبِيِّ ﷺ بُرْدَ حُلَّةٍ سِيَرَاءَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد.
الشيخ: هذه الأحاديث تدل على تحريم لبس الحرير على الرجال، وأنه لا يجوز، وأنَّ مَن لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، هذا من باب الوعيد الشديد والتَّحذير، وهكذا الذَّهب يحلّ للنساء دون الرجال.
والواجب على المؤمن أن يبتعد عمَّا حرَّم الله عليه، وأن يجتهد في الوقوف عند حدود الله، ويحذر ما حرَّم الله جلَّ وعلا؛ ولهذا قال ﷺ: أُحلّ الذهب والحرير لإناث أمتي، وحُرم على ذكورها.
فالذهب والحرير حِلٌّ للإناث، محرَّم على الذكور، لكن تقدم أنه لا بأس بموضع أصبعين أو ثلاث أو أربع من الحرير عند الحاجة، موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع في حقِّ الذكر عند الحاجة إليه، وأما الذهب فيحرم حتى القليل.
ولما رآه في يد رجلٍ -خاتم من ذهب- طرحه وقال: يعمد أحدُكم إلى جمرةٍ من النار فيضعها في يده، فالواجب على الرجل أن يحذر الحرير والذهب، أما المرأة فلا بأس؛ لأنها في حاجةٍ إلى الزينة -للزوجة- فمن رحمة الله أن أباح لها ذلك .
س: هل يُستفاد من حديث عمر وأنس رضي الله عنهما: أنَّ مَن لبسوا الحرير في الدنيا لا يلبسونه في الآخرة؟
الشيخ: هذا من باب الوعيد، وقد يعفو الله ويُلبسهم إياه إذا تابوا وأنابوا عفا الله عنهم، وإذا ماتوا على المعصية فهم تحت مشيئة الله.
س: سنُّ الذهب للرجال، ما حكم لبسه؟
الشيخ: إذا دعت الحاجةُ إليه لا بأس، لكن الأحسن أن يلتمس أسنانًا أخرى، وقد رُوي عن بعض السَّلف أنهم ربطوا أسنانهم بالذَّهب عند الحاجة، للضَّرورة، لكن إذا تيسرت أسنان أخرى ورباط آخر فهو أحوط.
س: الذكور من الأطفال: هل الذكور الأطفال يدخلون في النَّهي؟
الشيخ: نعم، يعمّهم النَّهي، لا يلبسون الحرير ولا الذهب؛ لأنَّ الرسول جعل الحكم مُناطًا بالذكور: أُحلّ الذهب والحرير لإناث أمتي، وحُرم على ذكورهم، ذكورهم: الصَّغير والكبير.
بَابٌ فِي أَنَّ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ كَلُبْسِهِ
- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: نَهَانَا النَّبِيُّ ﷺ أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَيَاثِرِ.
وَالْمَيَاثِرُ: قِسِيٌّ كَانَتْ تَصْنَعُهُ النِّسَاءُ لِبُعُولَتِهِنَّ عَلَى الرَّحْلِ كَالْقَطَائِفِ مِن الْأُرْجُوَانِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.
الشيخ: الجلوس على الحرير مثل اللبس؛ لأنَّ الرسول نهى عن لبس الحرير والجلوس عليه، فالواجب الحذر من ذلك في حقِّ الرجل؛ لأنَّ الجلوس نوعٌ من اللباس، قال أنسٌ لما زارهم النبيُّ ﷺ قال: وقمتُ إلى حصيرٍ لنا قد اسودَّ من طول ما لبس.
فالجلوس نوع من اللبس في المعنى، فليس للذكر أن يجلس على الحرير، ولا أن يُصلي على الحرير، أما المرأة فلا بأس؛ لأنها يُباح لها لبس الحرير، فلها الجلوس عليه.
بَابُ إبَاحَةِ يَسِيرِ ذَلِكَ كَالْعَلَمِ وَالرُّقْعَةِ
- عَنْ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ لَبُوسِ الْحَرِيرِ إلَّا هَكَذَا، وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ وَضَمَّهُمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ: نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ.
وَزَادَ فِيهِ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد: وَأَشَارَ بِكَفِّهِ.
- وَعَنْ أَسْمَاءَ: أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ عَلَيْهَا لَبِنَةُ شَبْرٍ مِنْ دِيبَاجٍ كَسْرَوَانِيٍّ، وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِهِ، فَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كَانَ يَلْبَسُهَا، كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَلَمَّا قُبِضَتْ عَائِشَةُ قَبَضْتُهَا إلَيَّ، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرِيضِ يُسْتَشْفَى بِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الشَّبْرِ.
الشيخ: لا حرج في الشيء اليسير من الحرير في حقِّ الرجل، موضع إصبعين، وفي رواية مسلم: أو ثلاث، أو أربع، لا حرج في ذلك. ومثل: الزر، ومثل: الرقعة الصغيرة، ومثل: خياطة أطراف الجبة بالحرير، كل هذا لا بأس به، كما في حديث الجبة.
المقصود أنَّ هذا في الحرير خاصةً، أما الذهب لا، عبارة المؤلف في الترجمة تُوهم، والصواب أنَّ هذا خاصٌّ بالحرير، أما الذهب فيحرم قليله وكثيره، حتى الخاتم الصغير لا يجوز لبسه، لا خاتم ولا غيره، ولا يكون مُرصعًا في الملابس من الذهب، كله ممنوع.
أما المرأة فلها أن تلبس الخاتم من الذهب، وتلبس الحرير من الثياب، لا بأس؛ لأنها في حاجةٍ إلى الزينة.
وأما الاستشفاء بثوبه ﷺ فقد كان يُستشفى بعرقه وريقه ووضوئه، وهذا خاصٌّ بالنبي، لا يُقاس عليه غيره، فجبته لما جعل الله فيها من الشِّفاء، وفي ريقه، وفي عرقه، واستعملوا الجبَّة لأجل ما قد يحصل لها من العرق.
الشيخ: جلود النِّمار يُنهى عنها، ولا تُلبس، ونهى عن افتراش جلود السباع، والنِّمار من السباع، فلا يجوز لبسها، ولا افتراشها على الرَّحل.
ولبس الذهب إلا مُقطَّعًا، هذا محل إجمالٍ، والصواب حمله على النساء، وأما الرجال فليس لهم لبس الذهب؛ لأنَّ الأحاديث الصَّحيحة واضحة في ذلك، أما هذا فلفظ مجملٍ، ليس فيه صراحة، فيُحمل على لبسه في حقِّ المرأة، مع أنه مجمل تُفسره الأحاديث الأخرى: لبس الذهب كالأسورة والخواتم في حقِّ المرأة والقلائد.
فقوله: "إلا مُقطعًا" فيه إشكال، وليس بواضحٍ، ويرد إلى الأحاديث المحكمة، ولا يُفسر إلا بالأحاديث المحكمة، وذلك بأنه يجوز للنِّساء لبسه بالأسورة وأشباهها: كالخواتم والقلائد، أما الرجل فلا.
س: نختم هذا اللِّقاء بهذا السؤال سماحة الشيخ: إباحة اليسير هل هو على إطلاقه أم للحاجة؟
الشيخ: اليسير من الحرير لا بأس به مطلقًا، قدر أصبعين أو ثلاث أو أربع لا بأس به.
المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.