تفسير قوله تعالى: {وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ..}

وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير: حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم: حدثنا عبدالله بن رجاء: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ قال: كان رسول الله ﷺ جالسًا في ظلِّ شجرةٍ فقال: إنَّه سيأتيكم إنسانٌ فينظر إليكم بعيني الشَّيطان، فإذا جاء فلا تُكلِّموه، فلم يلبثوا أن طلع رجلٌ أزرق، فدعاه رسولُ الله ﷺ فقال: علامَ تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجلُ فجاءه بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا، حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله : يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا الآية [التوبة:74].

وقوله: وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة:74] قيل: أنزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أنَّه همَّ بقتل ابن امرأته حين قال: لأخبرنَّ رسول الله ﷺ.

وقيل: في عبدالله بن أُبي، همَّ بقتل رسول الله ﷺ.

وقال السّدي: نزلت في أناسٍ أرادوا أن يتوّجوا عبدالله بن أُبي وإن لم يرضَ رسول الله ﷺ.

وقد ورد أنَّ نفرًا من المنافقين همُّوا بالفتك بالنبي ﷺ وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السَّير، وكانوا بضعة عشر رجلًا.

قال الضَّحاك: ففيهم نزلت هذه الآية.

وذلك بيّن فيما رواه الحافظُ أبو بكر البيهقي في كتاب "دلائل النبوة" من حديث محمد بن إسحاق، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حُذيفة بن اليمان قال: كنتُ آخذًا بخطام ناقة رسول الله ﷺ أقود به، وعمار يسوق الناقة. أو أنا أسوقه، وعمار يقوده، حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبًا قد اعترضوه فيها. قال: فأنبهت رسول الله ﷺ بهم، فصرخ بهم؛ فولّوا مُدبرين، فقال لنا رسول الله ﷺ: هل عرفتم القوم؟ قلنا: لا يا رسول الله، قد كانوا مُتلثمين، ولكنا قد عرفنا الرِّكاب. قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟ قلنا: لا. قال: أرادوا أن يُزاحموا رسول الله ﷺ في العقبة فيُلقوه منها، قلنا: يا رسول الله، أفلا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قومٍ برأس صاحبهم؟ قال: لا، أكره أن تتحدث العربُ بينها أنَّ محمدًا قاتل بقومٍ حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم، ثم قال: اللهم ارمهم بالدّبيلة، قلنا: يا رسول الله، وما الدّبيلة؟ قال: شهاب من نارٍ يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك.

وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: حدَّثنا يزيد: أخبرنا الوليد بن عبدالله بن جميع، عن أبي الطّفيل قال: لما أقبل رسولُ الله ﷺ من غزوة تبوك أمر مُناديًا فنادى: إنَّ رسول الله ﷺ أخذ العقبة، فلا يأخذها أحدٌ. فبينما رسول الله ﷺ يقوده حُذيفة، ويسوقه عمار، إذ أقبل رهطٌ مُتلثمون على الرَّواحل، فغشوا عمَّارًا وهو يسوق برسول الله ﷺ، فأقبل عمار يضرب وجوه الرَّواحل، فقال رسول الله ﷺ لحذيفة: قد، قد، حتى هبط رسول الله ﷺ، فلمَّا هبط نزل ورجع عمار، فقال: يا عمار، هل عرفت القوم؟ قال: لقد عرفتُ عامَّة الرَّواحل، والقوم مُتلثمون. قال: هل تدري ما أرادوا؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أرادوا أن ينفروا برسول الله ﷺ راحلته فيطرحوه، قال: فسأل عمار رجلًا من أصحاب رسول الله ﷺ فقال: نشدتك بالله، كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلًا. فقال: إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر. قال: فعذر رسول الله ﷺ منهم ثلاثة، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله ﷺ، وما علمنا ما أراد القوم. فقال عمار: أشهد أنَّ الاثني عشر الباقين حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

وهكذا روى ابنُ لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير نحو هذا، وأنَّ رسول الله ﷺ أمر أن يمشي الناسُ في بطن الوادي، وصعد هو وحُذيفة وعمَّار العقبة، فتبعهم هؤلاء النَّفر الأرذلون وهم مُتلثمون، فأرادوا سلوك العقبة، فأطلع اللهُ على مرادهم رسول الله ﷺ، فأمر حذيفة فرجع إليهم، فضرب وجوه رواحلهم؛ ففزعوا ورجعوا مقبوحين، وأعلم رسولُ الله ﷺ حذيفة وعمارًا بأسمائهم وما كانوا همُّوا به من الفتك به -صلوات الله وسلامه عليه-، وأمرهما أن يكتما عليهم. وكذا روى يونس بن بُكير، عن ابن إسحاق، إلا أنَّه سمّى جماعةً منهم، فالله أعلم.

وكذا قد حُكي في "معجم الطبراني". قاله البيهقي.

ويشهد لهذه القصّة بالصحّة ما رواه مسلم: حدثنا زهير بن حرب: حدثنا أبو أحمد الكوفي: حدثنا الوليد بن جميع: حدثنا أبو الطّفيل قال: كان بين رجلٍ من أهل العقبة وبين حُذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك؟ فقال: كنا نُخبر أنَّهم أربعة عشر. فإن كنت منهم فقد كان القومُ خمسة عشر، وأشهد بالله أنَّ اثني عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة، قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله ﷺ، ولا علمنا بما أراد القوم. وقد كان في حرّةٍ يمشي، فقال: إنَّ الماء قليلٌ، فلا يسبقني إليه أحدٌ، فوجد قومًا قد سبقوه فلعنهم يومئذٍ.

وما رواه مسلم أيضًا من حديث قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس بن عباد، عن عمار بن ياسر قال: أخبرني حُذيفة عن النبي ﷺ أنَّه قال: في أصحابي اثنا عشر منافقًا لا يدخلون الجنةَ، ولا يجدون ريحها حتى يلج الجملُ في سمِّ الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدّبيلة؛ سراج من نارٍ تظهر بين أكتافهم حتى ينجم في صدورهم.

ولهذا كان حُذيفة يُقال له: صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره. أي: من تعيين جماعة من المنافقين، وهم هؤلاء، قد أطلعه عليهم رسولُ الله ﷺ دون غيره، والله أعلم.

الشيخ: وجاء في هذا المعنى سؤال عمر له، قال: أنشدك بالله، هل سمَّاني لك رسولُ الله ﷺ من المنافقين؟ فقال حُذيفة: لا، ولا أُزكي أحدًا بعدك. رضي الله عنه وأرضاه.

وقد ترجم الطّبراني في "مسند حذيفة" تسمية أصحاب العقبة، ثم روى عن علي بن عبدالعزيز، عن الزبير بن بكار أنَّه قال: هم: معتب بن قشيرة، ووديعة بن ثابت، وجدّ بن عبدالله بن نبتل بن الحارث -من بني عمرو بن عوف-، والحارث بن يزيد الطائي، وأوس بن قيظي، والحارث بن سويد، وسعد بن زرارة، وقيس بن فهد، وسويد بن داعس -من بني الحبلي-، وقيس بن عمرو بن سهل، وزيد بن اللّصيت، وسلالة بن الحمام؛ وهما من بني قينقاع أظهرا الإسلام.

الشيخ: وبكل حالٍ، المنافقون ما يُستغرب منهم هذا، المنافقون هم أعداء الله ورسوله، هؤلاء وغيرهم؛ لأنَّ المنافقين شرٌّ من الكفَّار: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، فهم حريصون على كلِّ ما يضرّ المسلمين، وعلى كلِّ ما يُبطل أمر الله، ولكنَّ الله خيَّب سعيهم، وكبتهم، وكفى المسلمين شرَّهم، والحمد لله.

س: كيف عدّهم من أصحابه؟

ج: ممن ينتسبون إلى صُحبة النبي ﷺ، المنافقون ينتسبون إلى الصُّحبة .....، نسأل الله العافية.

وقوله تعالى: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة:74] أي: وما للرسول عندهم ذنبٌ إلا أنَّ الله أغناهم ببركته، ويُملي سفارته.

الشيخ: "سفارته" يعني: رسالته.

س: النِّفاق الأكبر الذي خافه عمر؟

ج: من تواضعه وشدّة خوفه ، وإلا فهو أفضل الناس بعد الصّديق ، لكن هذا يُستدلّ به على شدّة خوفه من الله، وشدّة حذره .

ولو تمّت عليه السَّعادة لهداهم الله لما جاء به، كما قال ﷺ للأنصار: ألم أجدكم ضُلالًا فهداكم الله بي؟ وكنتم مُتفرقين فألَّفكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أمنّ. وهذه الصِّيغة تُقال حيث لا ذنب، كقوله: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الآية [البروج:8]، وقوله : ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله.

ثم دعاهم الله -تبارك وتعالى- إلى التوبة فقال: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [التوبة:74] أي: وإن يستمرّوا على طريقهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا أي: بالقتل والهمِّ والغمِّ، وَالْآخِرَةِ أي: بالعذاب والنَّكال والهوان والصَّغار، وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [التوبة:74] أي: وليس لهم أحدٌ يُسعدهم، ولا ينجدهم، لا يحصل لهم خيرًا، ولا يدفع عنهم شرًّا.

الشيخ: نسأل الله العافية.

وهذا يُوجب على المؤمن الحذر، وسؤال الله العافية من صفات المنافقين وأخلاق المنافقين، إذا كان عمر وأشباهه يحذر! يقول ابنُ أبي مُليكة: لقد أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي ﷺ كل واحدٍ منهم يخاف النفاقَ على نفسه. فكيف بحالنا؟!

فالواجب على المؤمن الحذر والخوف من الله دائمًا، وأن يكون على سؤالٍ وضراعةٍ إلى الله أن يُثبّته على الإيمان، وأن يُعيذه من أسباب الشَّقاء، وعلى تدبُّرٍ للقرآن، وعنايةٍ بالقرآن، وإقبالٍ على الله -جلَّ وعلا.

هكذا المؤمن أبدًا، مثلما قال الله -جلَّ وعلا-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ۝ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:7-8]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]، وقال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].

هكذا المؤمن يحذر ربَّه، ويحذر أسباب الهلاك القولية والفعلية، ويحذر أصحاب السُّوء، ويبتعد عنهم، نسأل الله العافية، نعم.

س: قول ابن أبي مليكة: "كلّهم يخاف النِّفاق" يعني: النِّفاق الاعتقادي؟

ج: الظاهر أنَّه عامّ: النِّفاق الاعتقادي والعملي، نسأل الله العافية.

س: الأثر الذي ذكره أبو جعفر ابن جرير سنده عن ابن عباسٍ: كان رسولُ الله ﷺ جالسًا في ظلِّ شجرةٍ، فقال: إنَّه سيأتيكم إنسانٌ ينظر بعيني شيطانٍ؟

ج: جيد، أثرٌ جيدٌ، هذا مما أوحى الله إليه من علم الغيب.