27 من قوله: ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا )

وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ۝ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ۝ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ۝ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:110-113].
يخبر تعالى عن كرمه وجوده أن كل من تاب إليه؛ تاب عليه من أي ذنب كان، فقال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: أخبر الله عباده بعفوه، وحلمه، وكرمه، وسعة رحمته، ومغفرته، فمن أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرا ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات، والأرض، والجبال، رواه ابن جرير.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا محمد بن مثنى، حدثنا محمد بن أبي عدي، حدثنا شعبة عن عاصم عن أبي وائل، قال: قال عبدالله: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول منه شيئا قرضه بالمقراض، فقال رجل: لقد آتى الله بني إسرائيل خيرًا، فقال عبدالله : ما آتاكم الله خير مما آتاهم، جعل الماء لكم طهورا، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135]، وقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا.
وقال أيضًا: حدثني يعقوب، حدثنا هشيم عن ابن عون، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: جاءت امرأة إلى عبدالله بن مغفل فسألته عن امرأة فجرت؛ فحبلت، فلما ولدت قتلت ولدها، قال عبدالله بن مغفل: ما لها؟ لها النار. فانصرفت، وهي تبكي فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا، أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]
قال: فمسحت عينها ثم مضت.
الشيخ: والمقصود من هذا أن الله جل وعلا أكرم هذه الأمة وجعل توبتها من ذنوبها بالندم، والإقلاع، وعدم الإصرار، والعزم على أن لا تعود في المعصية، فجعل هذا كافيًا في محو الذنوب، وسترها على العبد، وعدم أخذه بها يوم القيامة، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولهذا يقول سبحانه: وتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، فمن تاب فقد أفلح، بخلاف الآصار التي على بني إسرائيل، وهي تكتب المعصية على بابه -نعوذ بالله- خزيًا له، تكتب المعصية على بابه هذا من أعظم الخزي -نسأل الله العافية-، وإذا أصابه بول قرض محله، سواء كان من الثوب، أو من البدن، فمن رحمة الله أن جعل الماء طهورًا، وجعل التوبة، والندم، والإقلاع طهورًا من الذنوب، ولم يجعل آصارًا وأغلالًا كما جعلت على بني إسرائيل، حتى صار من توبتهم في بعض الأحيان قتل أنفسهم، فهنيئًا لهذه الأمة المحمدية بما شرع الله لها من الخير، وأن الواجب عليه أن تشكره كثيرًا، وتحمده كثيرًا على ما أعطاها، وأنعم به عليها من النعم العظيمة، التي من أجلها أن التوبة تمحو ما قبلها، وأن العبد ما دام يتوب فهو على خير عظيم، إنما الخطر عليه إذا أصر على السيئة، ولم يتب فقد يهجم عليه أجله وهو عليها فيكون على خطر من عذاب الله يوم القيامة إن لم يعف الله عنه، ولهذا يقول سبحانه: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا، أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا يعني يستغفره باللسان، وبالقلب، استغفارًا مقرون بالندم والتوبة، فإن المغفرة إنما تكون للتائبين، أما الداعي فقط فهو قد يجاب وقد لا يجاب، وإصراره على المعصية من أسباب عدم إجابته؛ لأن الله قال: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، فعلق التوبة بعدم الإصرار، فمن دعا باللسان وقلبه مقيم على المعصية ما كفى حتى يقلع منها ندمًا على ما مضى، وعزمًا أن لا يعود فيها، فهذا هو التائب الذي يمحو الله بتوبته ذنبه، وإذا أتبع هذه التوبة بالعمل الصالح، والاستقامة، أبدل الله سيئاته حسنات، كما في سورة الفرقان: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70]، فالواجب على كل مؤمن، وعلى كل مؤمنة البدار بالتوبة، وعدم الإصرار، وأن يكون أبدًا في توبته بينه وبين ربه؛ لأنه خطاء، كثير الذنوب، فالواجب عليه أن يلزم التوبة دائمًا دائمًا؛ لعله ينجو من شرها، ويخلص من عواقبها الوخيمة، وربما زين للناس الشيطان تأجيل التوبة، فيقول: أنت شاب، وأنت في مقتبل العمر بعدما يمضي عليك، وكذا وكذا، بعدما يمضي سن الكهول، أو سن الشيوخ يمكنك أن تتوب، فيغره، ويملي له، ويمنيه، وهو لا يدري، قد يموت غدًا، كم من شاب لم يبلغ الكهولة، ولا الشيبة، كم من شاب أخذ في شبابه، وقد يغره بصحته، أنت الحمد لله صحيح طيب إذا حسيت بمرض يمكنك أن تتوب بعد ذلك، ثم قد يموت على غير مرض، قد يموت فجأة بحادث من الحوادث، وسكتة من السكتات، فلا مرض ولا شعور بما يدعوه إلى التوبة، فالحزم كل الحزم لزوم التوبة أبدا في حال الصحة، وفي حال النشاط والقوة، والشباب حتى تكون على وثيقة، على احتياط في السلامة من خطر هذه الذنوب التي من ابتلي بها وأصر عليها أفضى إلى خطر عظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة، عن عثمان بن المغيرة، قال: سمعت علي بن ربيعة -من بني أسد- يحدث عن أسماء، أو ابن أسماء -من بني فزارة-، قال: قال علي : كنت إذا سمعت من رسول الله ﷺ شيئًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه. وحدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر- قال: قال رسول الله ﷺ: ما من مسلم يذنب ذنبًا، ثم يتوضأ، ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب، إلا غفر له، وقرأ هاتين الآيتين، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا، أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النساء:110] الآية، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135] الآية.
وقد تكلمنا على هذا الحديث، وعزيناه إلى من رواه من أصحاب السنن، وذكرنا ما في سنده من مقال في مسند أبي بكر الصديق ، وقد تقدم بعض ذلك في سورة آل عمران أيضا.
الشيخ: والحديث صحيح رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، وأسماء أو ابن أسماء بن الحكم الفزاري ثقة معروف، وهذا يدل على أن من أسباب صحة التوبة وقبولها: أن يتقدم على ذلك بالتطهر الشرعي، ثم صلاة ركعتين، ثم إعلان توبته إلى الله جل وعلا، توبة صادقة، فهذا من أسباب قبولها، ومحو السيئات عنه، وليست الصلاة شرطًا قبل ذلك، فمن تاب ولو لم يتقدم بصلاة وندم تاب الله عليه، لكن إذا كان قبلها صلاة، وعمل صالح، وانكسار، وذل بين يدي الله، كان هذا أقرب إلى النجاح، والفلاح.
........ 
وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من وجه آخر عن علي فقال: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحراني ........، حدثنا داود بن مهران الدباغ، حدثنا عمر بن يزيد، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن علي، قال: سمعت أبا بكر -هو الصديق- يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلى، واستغفر من ذنبه، إلا كان حقا على الله أن يغفر له؛ لأن الله يقول: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا، أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ الآية، ثم رواه من طريق أبان بن أبي عياش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي، عن الصديق، بنحوه، وهذا إسناد لا يصح.
وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا موسى بن مروان الرقي، حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي، عن تمام بن نجيح، حدثني كعب بن ذهل الأزدي، قال: سمعت أبا الدرداء يحدث قال: كان رسول الله ﷺ إذا جلسنا حوله، وكانت له حاجة فقام إليها، وأراد الرجوع، ترك نعليه في مجلسه، أو بعض ما عليه، وإنه قام فترك نعليه، قال أبو الدرداء: فأخذ ركوة من ماء فاتبعته، فمضى ساعة ثم رجع، ولم يقض حاجته، فقال: إنه أتاني آت من ربي فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا، فأردت أن أبشر أصحابي .
قال أبو الدرداء: وكانت قد شقت على الناس الآية التي قبلها مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، فقلت: يا رسول الله، وإن زنى، وإن سرق، ثم استغفر ربه غفر له؟ قال: نعم. ثم قلت الثانية، قال: نعم. قلت الثالثة، قال: نعم، وإن زنى، وإن سرق ثم استغفر الله، غفر الله له على رغم أنف أبي الدرداء. قال: فرأيت أبا الدرداء يضرب أنف نفسه بأصبعه، هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه بهذا السياق، وفي إسناده ضعف.
الشيخ: لأن المشهور أنه من رواية أبي ذر، والله يقول جل وعلا: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء:123] هذا وعيد، والوعيد قد يدخله العفو عن المسيء إذا تاب وندم، وعن غيره هو يجزى بها إن لم يتب، إن لم يتب جوزي، ولم يعف الله عنه أيضا فإن لم يتب إذا كان الذنب دون الشرك، ولهذا قال أبو هريرة في قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، قال هذا جزاؤه إن جازاه إذا مات على الإسلام، وإن عفا فهو أهل العفو ، وهكذا قوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، إما في الدنيا كما قال الصديق: ألست تنصب؟ ألست تألم؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فهذا مما تجزون به، وقد يجزى في الدنيا بالأمراض، بالتعب، بالفقر، بأشياء مما ... يكون جزاء له في الدنيا، وتكفيرًا له في الدنيا، وقد يعفى عنه في الدنيا بعمل صالح وحسنات أتى بها، وقد يؤجل إلى الآخرة فيجازى على ذنبه في الآخرة إذا لم يتب، ولم يأت بما يسقط عنه عمله السوء، فالحاصل أنه من باب الوعيد، والوعيد قد يعقبه العفو منه إذا كان الذنب دون الشرك، وقد يأتي العبد بأشياء يمحو الله بها عنه الوعيد من أعماله الصالحة، واستغفاره، وتوبته، وغير ذلك.
الشيخ: أيش قال عن إبراهيم بن إسحاق؟
الطالب: إبراهيم بن إسحاق بن عيسى البناني، بضم الموحدة، ثم نون مولاهم أبو إسحاق الطالقاني نزيل مرو، وربما نسب إلى جده، صدوق يغرب، من التاسعة، مات سنة خمس عشرة (مسلم، وأبو داود، والترمذي)
الشيخ:... هذا يدل على أنه ما روى عنه؛ لأنه من أقرانه فالسند... بمن فوقه من الشيوخ، والأقرب -والله أعلم- أنه الحربي صاحبه.
وقوله: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ الآية، كقوله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، يعني أنه لا يغني أحد عن أحد، وإنما على كل نفس ما عملت لا يحمل عنها غيرها، ولهذا قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:111].
أي من علمه، وحكمته، وعدله، ورحمته كان ذلك، ثم قال: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112] الآية، يعني كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح، وهو لبيد بن سهل كما تقدم في الحديث، أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الآخرون، وقد كان بريئًا، وهم الظلمة الخونة، كما أطلع الله على ذلك رسوله ﷺ، ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم، وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم، فارتكب مثل خطيئتهم، فعليه مثل عقوبتهم.
وقوله: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء:113].
وقال الإمام ابن أبي حاتم: أنبأنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إلي، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان، وذكر قصة بني أبيرق، فأنزل الله لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء:113].
يعني أسيد بن عروة، وأصحابه، يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق، ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم، وهم صلحاء برآء، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله ﷺ، ولهذا أنزل الله فصل القضية وجلاءها لرسول الله ﷺ، ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال، وعصمته له، وما أنزل عليه من الكتاب وهو القرآن، والحكمة وهي السنة، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أي: قبل نزول ذلك عليك، كقوله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ [الشورى:52] إلى آخر السورة، وقال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86]، ولهذا قال: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا.
س: كتابة الخطيئة على باب الواحد مما كان قبلنا هل هو ثابت في حديث مرفوع؟
الشيخ: هذا كلام ابن مسعود بإسناد جيد، يحتمل أنه سمعه من النبي، ويحتمل أنه تلقاه عن بني إسرائيل، لكنه من الآصار، ليس ببعيد على أنه من آصارهم، وابن مسعود من أقل الناس أخذًا عن بني إسرائيل، ولعله سمعه من النبي ﷺ.لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ۝ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:114، 115].
يقول تعالى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ يعني كلام الناس، إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ أي: إلا نجوى من قال ذلك، كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبدالله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث، حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس، قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده، فدخل علينا سعيد بن حسان المخزومي، فقال له سفيان الثوري: الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح، ردده علي، فقال: حدثتني أم صالح، عن صفية بنت شيبة، عن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله ﷺ: كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله ، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر.

الطالب: في عبارة في النسخة الثانية يقول: كلام ابن آدم كله عليه لا له ما خلا أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر.
الشيخ: المعنى واحد.
حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله ﷺ: كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله ، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ:38] فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول في كتابه: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] إلخ؟ فهو هذا بعينه، وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خنيس، عن سعيد بن حسان به، ولم يذكر أقوال الثوري إلى آخرها، ثم قال الترمذي: حديث غريب، لا يعرف إلا من حديث ابن خنيس.الشيخ: وهذا يوضح للمؤمن أن الواجب عليه حفظ لسانه، والحذر من ورطاته، وأغلاطه، فكلامه عليه لا له إلا ما كان من ذكر الله، أو ما كان من أمر بالمعروف، أو نهي عن منكر، وفي هذا المعنى يقول النبي ﷺ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا، أو ليصمت، ويقول جل وعلا: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ومن علم أن لسانه كثير العطب كثير الخطأ كثير الغلط وجب عليه أن يحفظه، وأن يصونه؛ حتى لا يقع في معاطبه، ومهالكه.
وحديث أم سلمة هذا مهما كان حال سنده فالأمر في متنه عظيم، وشواهده كثيرة من الكتاب، والسنة، كلها تبين خطر اللسان، وأن الإنسان قد يتساهل ببعض الكلمات التي توبقه، كما قال عليه الصلاة والسلام: إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها – يعني ما يثبت فيها- يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب نسأل الله العافية، وفي اللفظ الآخر: إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم زاد في رواية سبعين خريفًا فعلى المؤمن أن يحذر هذه الكلمات التي تضره، وأن يكون كلامه دائمًا فيما ينفعه، وإلا فليصمت.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، حدثنا صالح بن كيسان، حدثنا محمد بن مسلم بن عبيدالله بن شهاب أن حميد بن عبدالرحمن بن عوف أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله ﷺ: يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا، أو يقول خيرًا، وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها قال: وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله ﷺ، وقد رواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن الزهري به نحوه.الشيخ: الحديث السابق أصله عند الشيخين، وكأن المؤلف رحمه الله غاب عنه ذلك .. وهذا فيه شيء؛ لأن المعروف أن زيادة ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث من أفراد مسلم، الظاهر هذا أنه رواه الشيخان، ومعهم الإمام مالك، المؤلف يطلق هذا فيه تسامح فالثلاثة المذكورة هنا انفرد بها مسلم رحمه الله.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أنس بن محمد، عن سالم بن أبي الجعد، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، قال: وفساد ذات البين هي الحالقة. ورواه أبو داود، والترمذي من حديث أبي معاوية، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبدالرحيم، حدثنا سريج بن يونس، حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر حدثنا أبي عن حميد، عن أنس أن النبي ﷺ قال لأبي أيوب: ألا أدلك على تجارة؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا ثم قال البزار: وعبدالرحمن بن عبدالله العمري لين، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها. ولهذا قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ أي: مخلصًا في ذلك محتسبًا ثواب ذلك عند الله ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا أي: ثوابًا جزيلًا كثيرًا واسعًا.
وقوله: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى أي: ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول ﷺ، فصار في شق، والشرع في شق، وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق، وتبين له، واتضح له.
وقوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقًا، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفًا لهم، وتعظيمًا لنبيهم، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك، قد ذكرنا منها طرفًا صالحًا في كتاب أحاديث الأصول، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها، والذي عول عليه الشافعي رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي، والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات، وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك، ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا أي: إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره، ونزينها له استدراجا له، كما قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ [القلم:44]، وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وقوله: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]، وجعل النار مصيره في الآخرة؛ لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22] الآية، وقال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف:53].
الشيخ: وهذا واضح في الدلالة على وجوب اتباع ما عليه أهل الحق، وأن الخروج عنهم خروج إلى طريق النار، وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، فإذا أجمعت الأمة على شيء فهو الصراط المستقيم على ظاهر هذه الآية، وصريحها، وعلى ما دلت عليه الأحاديث المستفيضة بل المتواترة عن رسول الله ﷺ أن هذه الأمة لا تجتمع على باطل، وأنه لا يزال فيها طائفة منصورة على الحق، فمن خالفهم وسلك غير سبيلهم فقد خالف الحق، وشاق الرسول، واتبع غير سبيل المؤمنين، نسأل الله العافية.
س: من ادعى عدم وقوع الإجماع بعد الصحابة؟
الشيخ: بعدما تفرقت الأمة صعب الإجماع.. الإجماع المضبوط هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.