تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ..}

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [المائدة:17-18].

يقول تعالى مُخبرًا وحاكيًا بكفر النَّصارى في ادِّعائهم في المسيح ابن مريم، وهو عبدٌ من عباد الله، وخلقٌ من خلقه: أنَّه هو الله! تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.

ثم قال مُخبرًا عن قُدرته على الأشياء، وكونها تحت قهره وسُلطانه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أي: لو أراد ذلك فمَن ذا الذي كان يمنعه منه؟! أو مَن ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك؟!

ثم قال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ أي: جميع الموجودات ملكه وخلقه، وهو القادر على ما يشاء، لا يُسأل عمَّا يفعل بقُدرته وسُلطانه وعدله وعظمته، وهذا ردٌّ على النَّصارى، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

الشيخ: يُبين -جلَّ وعلا- أنَّ إله العالمين هو الله وحده، وأنَّ قول النَّصارى من أبطل الباطل، وهو سبحانه القادر على إهلاك المسيح ابن مريم وأمّه ومَن في الأرض جميعًا، وهو المتصرف في الكون كما يشاء، وهم يُشاهدون تصرّف الله في عباده بالعزِّ والذل، والإحياء والموت والمرض، وغير هذا.

وهذه إحدى طوائفهم قالت: أنَّ الله هو المسيح ابن مريم! وقد ذكر في سورة النِّساء قول .....: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة:73].

فالمقصود أنَّ الله -جلَّ وعلا- يُبين بطلان أقوال الكفرة من النَّصارى في جميع أنواع أقوالهم، وأنَّ الله سبحانه ليس هو المسيح ابن مريم، وليس ثالث ثلاثة، وليس معه إله آخر، بل هو الإله الحقّ ، وهذه الأقوال من أبطل الباطل، وأشدّ الشَّر: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].

فالواجب على جميع أهل الأرض من المكلَّفين من جنٍّ وإنسٍ أن يُؤمنوا بأنَّ الله ربُّهم الحقّ، ومعبودهم الحقّ، وإلههم الحقّ، وأنَّه لا معبودَ بحقٍّ سواه، ولا إله غيره، ولا مُدبّر للعالم سواه، ولا خالقَ غيره، فكما أنَّهم يعلمون أنَّه الخلَّاق الرَّزاق، فهكذا هو المستحقّ العبادة، لا يستحقّها سواه، لا المسيح ابن مريم، ولا غيره، بل هي حقُّ الله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، فهو سبحانه أوضح في كتابه أنَّه مُستحقُّ العبادة، وأنَّه هو الخلَّاق العليم، وهو أيضًا الموصوف بالصِّفات العُلى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الروم:27]، فهو الخلَّاق، وهو له المثل الأعلى الأكمل في الصِّفات، وهو المستحقُّ للعبادة؛ لكمال قُدرته، وكمال أسمائه وصفاته، ولكون غيره مربوبًا، مخلوقًا، لا يستحقّ شيئًا من العبادة، نعم.

ثم قال تعالى رادًّا على اليهود والنَّصارى في كذبهم وافترائهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أي: نحن مُنتسبون إلى أنبيائه، وهم بنوه، وله بهم عناية، وهو يُحبّنا. ونقلوا عن كتابهم أنَّ الله تعالى قال لعبده إسرائيل: أنت ابني بكري. فحملوا هذا على غير تأويله وحرَّفوه.

وقد ردَّ عليهم غير واحدٍ ممن أسلم من عُقلائهم، وقالوا: هذا يُطلق عندهم على التَّشريف والإكرام. كما نقل النَّصارى عن كتابهم أنَّ عيسى قال لهم: "إني ذاهبٌ إلى أبي وأبيكم"، يعني: ربي وربكم، ومعلومٌ أنَّهم لم يدّعوا لأنفسهم من البنوة ما ادّعوها في عيسى ، وإنما أرادوا من ذلك معزّتهم لديه، وحظوتهم عنده؛ ولهذا قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، قال الله تعالى رادًّا عليهم: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي: لو كنتم كما تدّعون أبناءه وأحباءه، فلم أعدّ لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟!

وقد قال بعضُ شيوخ الصُّوفية لبعض الفُقهاء: أين تجد في القرآن أنَّ الحبيبَ لا يُعذّب حبيبه؟ فلم يردّ عليه، فتلا عليه الصُّوفي هذه الآية: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. وهذا الذي قاله حسنٌ، وله شاهدٌ في "المسند" للإمام أحمد حيث قال: حدَّثنا ابنُ أبي عدي، عن حميد، عن أنسٍ قال: مرَّ النبي ﷺ في نفرٍ من أصحابه، وصبي في الطَّريق، فلمَّا رأت أمُّه القومَ خشيت على ولدها أن يُوطأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني، ابني. وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله، ما كانت هذه لتُلقي ولدها في النار. قال: فحفظهم النبيُّ ﷺ فقال: لا، والله ما يُلقي حبيبَه في النار. تفرد به.

الشيخ: هناك ما هو أعظم من هذا؛ قوله -عليه الصلاة والسلام- لما رأى امرأةً تطلب صبيًّا لها في السَّبي، قال: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا. قال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها، وهو صحيحٌ، وهو سبحانه أحبَّاؤه هم المؤمنون، فلن يُعذّبهم، قال -جلَّ وعلا- في الحديث الصَّحيح: ما تقرّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنَّوافل حتى أُحبّه، وقال: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54].

فأولياء الله هم أحبابه، ولن يُعذّبهم إذا استقاموا على دينه وماتوا عليه، فهو سبحانه ينصر أولياءه وأحبَّاءه، ويُؤيدهم ويُدافع عنهم: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، لكن اليهود والنَّصارى ليسوا أبناءه، وليسوا أحباءه، بل عادوا الله ورسوله، واستكبروا عن عبادته، وكذبوا على الأنبياء، وادّعوا في العُزير ما ادّعوا، وادّعوا في عيسى ما ادّعوا، وحرَّفوا الكلم عن مواضعه، وصاروا بذلك أعداءه، وليسوا بأوليائه، ولا أحبابه، صاروا أعداءه؛ لكونهم عادوا أنبياءه، وقتلوا مَن قتلوا، وخالفوا دينَ الله، إلا مَن هدى الله منهم، فليست المحبّة بالدَّعوى، وليس الدينُ بالدَّعوى، ولكن بالحقائق: لو يُعطى الناسُ بدعواهم لادّعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم.

فالمقصود العمل والحقائق، وليست الدَّعاوى، الدَّعاوى ما تنفع شيئًا، ولكن الحقيقة.

فمَن عَبَدَ الله، واتَّقاه، وأطاع أمرَه، واجتنب نهيه، ووقف عند حدوده، هؤلاء هم أحبَّاء الله، وهم أولياؤه الذين قال فيهم: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ.

ولو صحَّ ما في كتبهم أنَّه قال: "أبنائي"، لو صحَّ لكان المعنى من جهة المحبّة، ومن جهة أنَّه يُربّيهم على طاعته؛ لكونهم أطاعوه، لو صحَّ ما نقلوه عن بعض كُتبهم، وهم كذبة، لا يُؤمنون، لكن لو صحَّ فالمعنى أنَّهم أولياؤه، وأنَّه يُربّيهم على الحقِّ كما يُربي الوالدُ الصَّالح والأبُ الصَّالح أولاده على الخير والهدى.

س: حديث: "الخلق عيال الله" من هذا الباب؟

ج: هذا ضعيفٌ، ليس بصحيحٍ، من هذا الباب لو صحَّ، لكن معناه: يعولهم ويُنفق عليهم.

س: تعذيب الله -جلَّ وعلا- لأهل الكبائر في النار .....؟

ج: يُعذّبهم إذا شاء، يُعذّب قومًا، ويرحم قومًا ، يُعذّبهم بمعاصيهم له، ما صاروا أحبّاء كما ينبغي، صاروا مُخلِّطين، وابنك الذي يعقّك تارةً ويبرّك أخرى لك أن تُعذّبه وتُؤدّبه إذا عقّك، نعم.

س: ..............؟

ج: نعم، لعن اللهُ اليهود والنَّصارى، لعن اللهُ الكافرين، ألا لعنة الله على الكافرين، ألا لعنة الله على الظالمين، مشروع، نعم.

س: ما صحّة هذا السَّند الذي تفرَّد به أحمد؟

ج: ثلاثي، صحيح.

س: إسرائيل هو يعقوب؟

ج: إسرائيل هو يعقوب، نعم.

س: ..............؟

ج: النَّصارى ضُلال؛ لأنَّهم عبدوا الله على جهالةٍ، واعتقدوا في عيسى الباطل، إلا مَن هداه الله وآمن بالحقِّ كالحواريين، ومَن آمن به من صُلحائهم، وهم قليلٌ، كاليهود منهم مَن آمن واتَّبع موسى على الحقِّ، وصاروا على الهدى، يأتون يوم القيامة مع موسى قد سدّوا الأفق، وهكذا مَن آمن بعيسى واستقام على الهدى، ثم آمن بمحمدٍ .....، فهذا يأتي يوم القيامة مع النَّاجين، مع السُّعداء، ولكن أكثرهم قد ضلَّ عن السَّبيل، نسأل الله العافية.

............

بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أي: لكم أسوة أمثالكم من بني آدم، وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ أي: هو فعَّال لما يُريد، لا مُعقّبَ لحكمه، وهو سريع الحساب.

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أي: الجميع ملكه وتحت قهره وسُلطانه.

وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: المرجع والمآب إليه، فيحكم في عباده بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور.

وروى محمد بن إسحاق، عن محمد ابن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ قال: وأتى رسول الله ﷺ نعمان بن آصا، وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي، فكلَّموه، وكلَّمهم رسولُ الله ﷺ ودعاهم إلى الله، وحذَّرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد! نحن والله أبناء الله وأحبَّاؤه. كقول النَّصارى، فأنزل الله فيهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ إلى آخر الآية. رواه ابنُ أبي حاتم، وابنُ جرير.

ورويا أيضًا من طريق أسباط، عن السّدي في قول الله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أمَّا قولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ فإنَّهم قالوا: إنَّ الله أوحى إلى إسرائيل أنَّ ولدك بكري من الولد، فيُدخلهم النار، فيكونون فيها أربعين ليلةً حتى تُطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم يُنادي منادٍ: أن أخرجوا كلَّ مختونٍ من ولد إسرائيل، فأخرجوهم، فذلك قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [آل عمران:24].

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:19].

يقول تعالى مُخاطبًا أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى بأنَّه قد أرسل إليهم رسوله محمدًا ﷺ، خاتم النَّبيين، الذي لا نبيَّ بعده ولا رسول، بل هو المعقب لجميعهم؛ ولهذا قال: عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي: بعد مدّةٍ مُتطاولةٍ ما بين إرساله وعيسى ابن مريم، وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة كم هي؟

فقال أبو عثمان النَّهدي وقتادة في روايةٍ عنه: كانت ستمئة سنة.

ورواه البخاري عن سلمان الفارسي، وعن قتادة: خمسمئة وستون سنة.

وقال معمر، عن بعض أصحابه: خمسمئة وأربعون سنة.

وقال الضَّحاك: أربعمئة وبضع وثلاثون سنة.

وذكر ابنُ عساكر في ترجمة عيسى عن الشَّعبي أنَّه قال: ومَن رفع المسيح إلى هجرة النبي ﷺ تسعمئة وثلاث وثلاثون سنة.

والمشهور هو القول الأول، وهو أنها ستمئة سنة.

ومنهم مَن يقول: ستمئة وعشرون سنة. ولا مُنافاة بينهما.

الشيخ: الأمر في هذا واسعٌ، الربّ -جلَّ وعلا- ما بيَّنها، هي فترة، سواء كانت ستمئة، أو خمسمئة، أو تسعمئة، لو كان في هذا مصلحة لبيّنها -جلَّ وعلا.

المقصود أنَّه جعل بينه وبين عيسى فترة، أقام اللهُ به الحجّة، وقطع به المعذرة لجميع الأمّة، حتى لا يقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، فهو أرسل الرسل وأنزل الكتب لهداية الخلق وإنجائهم من غضبه وعقابه، وكان آخرهم قبل محمدٍ ﷺ هو عيسى، ثم ختمهم بمحمدٍ -عليه الصلاة والسلام-، وبينهما فترة، والله أعلم بهذه الفترة؛ لأنَّ الجزم بها يحتاج إلى دليلٍ عن المعصوم -عليه الصلاة والسلام-، وهو الرسول ﷺ، فلمَّا لم يأتِ من النص ما يدلّ على مقدارها فيُقال: فترة، كما قال الله، والله أعلم بمقدارها ، سواء كانت ستمئة أو أكثر أو أقلّ، نعم.

..............

فإنَّ القائل الأول أراد ستمئة سنة شمسية، والآخر أراد قمرية، وبين كل مئة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين؛ ولهذا قال تعالى في قصّة أهل الكهف: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25] أي: قمرية؛ لتكميل الثلاثمئة الشَّمسية التي كانت معلومةً لأهل الكتاب.

وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم -آخر أنبياء بني إسرائيل- وبين محمدٍ -خاتم النَّبيين من بني آدم على الإطلاق- كما ثبت في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله ﷺ قال: إنَّ أولى الناس بابن مريم لأنا، ليس بيني وبينه نبيّ، وهذا فيه ردٌّ على مَن زعم أنَّه بُعث بعد عيسى نبيّ يُقال له: خالد بن سنان، كما حكاه القضاعي وغيره.

والمقصود أنَّ الله بعث محمدًا ﷺ على فترةٍ من الرسل، وطموس من السُّبل، وتغيّر الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنِّيران والصُّلبان، فكانت النِّعمة به أتمّ النعم، والحاجة إليه أمر عمم، فإنَّ الفساد كان قد عمَّ جميع البلاد، والطُّغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلًا من المتمسِّكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين من بعض أحبار اليهود وعُبَّاد النَّصارى والصَّابئين.

كما قال الإمام أحمد: حدَّثنا يحيى بن سعيد: حدثنا هشام: حدثنا قتادة، عن مُطرف، عن عياض بن حماد المجاشعي : أنَّ النبي ﷺ خطب ذات يومٍ، فقال في خُطبته: وإنَّ ربي أمرني أن أُعلّمكم ما جهلتم مما علَّمني في يومي هذا: كلّ مالٍ نحلته عبادي حلال، وإني خلقتُ عبادي حُنفاء كلّهم، وإنَّ الشياطين أتتهم فأضلّتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يُشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا. ثم إنَّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من بني إسرائيل، وقال: إنما بعثتُك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلتُ عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرأه نائمًا ويقظان. ثم إنَّ الله أمرني أن أحرق قريشًا، فقلتُ: يا ربّ، إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزةً، فقال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق عليهم فسننفق عليك.

الشيخ: الذي أعرف في الأصل أنها ما فيها زيادة "عليهم": وأنفق يُنفق عليك يعني: أنفق في الجهاد والدَّعوة إلى الله يُنفق عليك. يُراجع الأصل.

وابعث جيشًا نبعث خمسًا أمثاله، وقاتل بمَن أطاعك مَن عصاك، وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مُقسطٍ مُوفَّقٍ مُتصدّقٍ، ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب بكلِّ ذي قُربى ومسلم، ورجلٌ عفيفٌ فقيرٌ ذو عيالٍ مُتصدّقٍ. وأهل النار خمسة: الضَّعيف الذي لا زَبْرَ له، والذين هم فيكم تبعٌ -أو تبعًا، شكَّ يحيى- لا يبتغون أهلًا ولا مالًا، والخائن الذي لا يخفى له طمعٌ وإن دقَّ إلا خانه، ورجلٌ لا يُصبح ولا يُمسي إلا وهو يُخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخيل أو الكذَّاب، والشّنظير: الفاحش.

ثم رواه الإمام أحمد ومسلم والنَّسائي من غير وجهٍ عن قتادة، عن مطرف بن عبدالله بن الشّخير.

وفي رواية شُعبة، عن قتادة التَّصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مُطرف.

وقد ذكر الإمامُ أحمد في "مسنده" أنَّ قتادة لم يسمعه من مطرف، وإنما سمعه من أربعةٍ عنه، ثم رواه هو عن روح، عن عوف، عن حكيم الأثرم، عن الحسن قال: حدَّثني مُطرف، عن عياض بن حماد، فذكره.

ورواه النَّسائي من حديث غندر، عن عوف الأعرابي، به.

الشيخ: والحديث طويلٌ، ولكن يُصحح على الأصل -أصل أحمد ومسلم- الكلمات الثلاث التي فيه، يُراجع الأصل في مسلم، و"المسند" كذلك؛ لأنَّ المؤلف عزا لهما جميعًا، نعم.

والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله: وإنَّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عجمهم وعربهم، إلا بقايا من بني إسرائيل، وفي لفظ مسلم: من أهل الكتاب، فكان الدِّينُ قد التبس على أهل الأرض كلِّهم حتى بعث اللهُ محمدًا ﷺ، فهدى الخلائقَ، وأخرجهم اللهُ به من الظُّلمات إلى النُّور، وتركهم على المحجّة البيضاء، والشَّريعة الغرَّاء؛ ولهذا قال تعالى: أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ أي: لئلا تحتجّوا وتقولوا يا أيّها الذين بدّلوا دينَهم وغيَّروه: ما جاءنا من رسولٍ يُبَشِّر بالخير، ويُنذر من الشَّر. فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ يعني: محمدًا ﷺ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قال ابنُ جرير: معناه: إني قادرٌ على عقاب مَن عصاني، وثواب مَن أطاعني.

الشيخ: الآية عامّة: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ على إثابة المطيعين، وعقاب العاصين، وعلى كل شيءٍ سبحانه، لا يُعجزه شيء -جلَّ وعلا-، والله له الحكمة البالغة في مُتابعة الرسل، وفي تأخير بعضٍ عن بعضٍ، وقد تابع الرسل في بني إسرائيل، وأقام الحجّة، وقطع المعذرة بعد عيسى، ثم أرسل اللهُ نبيَّه محمدًا عامًّا للناس؛ لإقامة الحجّة، وقطع المعذرة، وإيضاح سبيله، ودعوة الناس إلى أسباب النَّجاة، فله الحمد والشُّكر والمنّة .

س: مَن مات على دين إبراهيم، أو عيسى، أو موسى في الفترة يكون ناجيًا؟

ج: ما في شكّ، مَن مات على دين نبيِّه نجا.

س: ولو كان عيسى آخرهم؟

ج: ولو هو آخرهم، هو آخر أنبياء بني إسرائيل.

س: لكن ألا يُقال: إنَّ عيسى نسخ ما قبله؟

ج: إذا مات على دين عيسى بعد مبعث عيسى نجا، وإذا مات على دين موسى قبل بعث عيسى نجا، وهكذا، أمَّا مَن خالف عيسى بعدما بعث اللهُ عيسى من بني إسرائيل لا يكون ناجيًا؛ لأنَّ الله لما بعث عيسى استقرَّ الأمرُ على طاعته واتِّباع ما جاء به مع ما في التَّوراة.

س: ما يُقال: إنَّ هذا ..... في "الصحيحين": وإنَّ كل نبيٍّ بُعِثَ إلى قومه خاصّة، وبُعثتُ إلى الناس عامَّة؟

ج: معروفٌ، نعم.

س: ما يُقال أنَّ خالد بن سنان هذا ...؟

ج: لا، ما له أصل، هذا خالد بن سنان .....

س: قول النبي ﷺ: إنَّ أبي وأباك في النار؟

ج: لعله قامت عليه الحجّة من دين إبراهيم؛ لأنَّه قد بلغه ما يُوجب ذلك من دين إبراهيم، نعم.