تفسير قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ..}

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:42].

يقول تعالى مُوبِّخًا للذين تخلَّفوا عن النبي ﷺ في غزوة تبوك وقعدوا بعدما استأذنوه في ذلك، مُظهرين أنَّهم ذوو أعذار، ولم يكونوا كذلك، فقال: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا، قال ابنُ عباسٍ: غنيمة قريبة، وَسَفَرًا قَاصِدًا أي: قريبًا أيضًا لَاتَّبَعُوكَ أي: لكانوا جاءوا معك لذلك، وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي: المسافة إلى الشام، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي: لكم إذا رجعتم إليهم لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ أي: لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم، قال الله تعالى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ۝ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ۝ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة:43-45].

مُداخلة: أحسن الله إليكم، في الآية السابقة: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ الهلاك هنا ما المقصود به؟

الشيخ: بالتَّخلف عن الرسول ﷺ بغير عذرٍ؛ لأنَّ المعاصي هلاك، والشِّرك هلاك، لكن الشِّرك أعظم هلاكًا، والمعاصي نوعٌ من الهلاك: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بتخلُّفهم عن الرسول ﷺ بغير عذرٍ شرعي، وإذا كان عن نفاقٍ صار الهلاكُ أعظم، نسأل الله العافية.

س: أليس بالحلف الكاذب؟

ج: منه، منه المعاصي.

س: ما يشمل قول المجامع في رمضان: هلكتُ، وقعتُ على أهلي؟

ج: نعم، من هذا الباب، كل المعاصي نوعٌ من الهلكة، نسأل الله العافية.

قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا أبو حصين ابن سليمان الرازي: حدثنا سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن عونٍ قال: هل سمعتم بمُعاتبةٍ أحسن من هذا؟ نداء بالعفو قبل المعاتبة، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ.

وكذا قال مُورق العجلي وغيره.

وقال قتادة: عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل التي في سورة النور، فرخَّص له في أن يأذن لهم إن شاء فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ الآية [النور:62].

وكذا رُوي عن عطاء الخراساني.

وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناسٍ قالوا: استأذنوا رسول الله ﷺ، فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.

الشيخ: يعني: مجاملة .....

ولهذا قال تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي: في إبداء الأعذار، وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ يقول تعالى: هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحدٍ منهم في القعود؛ لتعلم الصَّادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنَّهم قد كانوا مُصرِّين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه.

ولهذا أخبر تعالى أنَّه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحدٌ يؤمن بالله ورسوله، فقال: لَا يَسْتَأْذِنُكَ أي: في القعود عن الغزو الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ لأنَّهم يرون الجهاد قُربةً، ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.

إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ أي: في القعود ممن لا عذرَ له الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي: لا يرجون ثوابَ الله في الدَّار الآخرة على أعمالهم، وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ أي: شكَّت في صحّة ما جئتهم به.

الشيخ: يعني: إنما يستأذن هؤلاء الذين ما عندهم إيمانٌ، وما عندهم بصيرة، وما عندهم يقين، ما عندهم إلا الشَّك، أما أهل الصِّدق والإيمان فهم يفرحون بالجهاد، ولا يستأذنون.

.............: وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، نسأل الله العافية.

فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ أي: يتحيرون، يُقدِّمون رجلًا، ويُؤخِّرون أخرى، وليست لهم قدمٌ ثابتةٌ في شيءٍ، فهم قومٌ حيارى، هلكى: لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:143].

وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ۝ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47].

يقول تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ أي: معك إلى الغزو، لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً أي: لكانوا تأهَّبوا له، وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ أي: أبغض أن يخرجوا معكم قدرًا، فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ أي: قدرًا.

ثم بيّن تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا أي: لأنَّهم جُبناء مخذولون، وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي: ولأسرعوا السَّير والمشي بينكم بالنَّميمة والبغضاء والفتنة، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي: مُطيعون لهم، ومُستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم.

الشيخ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ يعني: مَن يقبل منهم.

س: وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ الكراهة قدريّة؟

ج: قدرًا نعم.

س: الكراهة شرعية وقدريّة؟

ج: قدريّة، وإلا هم مأمورون شرعًا.

س: تكون الكراهةُ تنقسم إلى قسمين؟

ج: ..... الأصل فيها أنها كونية فقط، أما الإرادة فتنقسم.

فيُؤدي إلى وقوع شرٍّ بين المؤمنين وفسادٍ كبيرٍ.

وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي: عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم، وهذا لا يبقى له اختصاصٌ بخروجهم معهم، بل هذا عامٌّ في جميع الأحوال. والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسّرين.

الشيخ: وعلى المعنى الأول سَمَّاعُونَ لَهُمْ يعني: مَن يستجيب لهم على تثبيطهم، نعم، الله المستعان.

وقال محمد بن إسحاق: كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشَّرف، منهم: عبدالله بن أبي ابن سلول، والجدّ بن قيس، وكانوا أشرافًا في قومهم، فثبَّطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيُفسدوا عليه جنده، وكان في جنده قومٌ أهل محبَّةٍ لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه؛ لشرفهم فيهم، فقال: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ.

ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، فأخبر بأنَّه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؛ ولهذا قال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا، فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا، ومع هذا ما خرجوا كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، وقال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ۝ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ۝ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68]، والآيات في هذا كثيرة.

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:48].

يقول تعالى مُحرِّضًا لنبيه على المنافقين: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي: لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماده مدةً طويلةً، وذلك أول مقدم النبي ﷺ المدينة رمته العربُ عن قوسٍ واحدةٍ، وحاربته يهودُ المدينة ومُنافقوها، فلمَّا نصره اللهُ يوم بدرٍ وأعلى كلمته قال عبدالله بن أبي وأصحابه: هذا أمرٌ قد توجّه. فدخلوا في الإسلام ظاهرًا، ثم كلما أعزّ الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم؛ ولهذا قال تعالى: حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ.

الشيخ: الحمد لله، الحمد لله، هذا هو الذي يُحبّه المؤمنون، ويغيظ المنافقين: ظهور أمر الله، والمنافقون شرٌّ في كل مكانٍ، نسأل الله العافية، وهكذا مَن يسمعهم ويُجيبهم وينصرهم هو مثلهم، نسأل الله العافية.

س: مَن يقول أنَّ النِّفاق الاعتقادي لا يوجد في هذا العصر؟

ج: ما عنده بصيرة، وأيش يُدريه .....، النِّفاق في كل زمانٍ، نسأل الله العافية.