تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ..}

هذا بيانٌ من الله ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فكتب الآيات منها حتى بلغ: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [المائدة:4].

وقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد: حدثنا يونس بن بكير: حدثنا محمد بن إسحاق: حدثني عبدالله ابن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه قال: هذا كتابُ رسول الله ﷺ عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يُفقه أهلها ويُعلّمهم السُّنة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتابًا وعهدًا، وأمره فيه بأمره، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من الله ورسوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، عهدٌ من محمدٍ رسول الله ﷺ لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كلِّه، فإنَّ الله مع الذين اتَّقوا والذين هم مُحسنون.

قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال ابنُ عباسٍ ومجاهد وغير واحدٍ: يعني بالعقود: العهود.

وحكى ابنُ جرير الإجماع على ذلك، قال: والعهود ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره.

الشيخ: حديث عمرو بن حزم هذا حديثٌ طويلٌ، وفيه مسائل وفوائد كثيرة، منها: أنَّه أوصاه ألا يقرأ القرآنَ إلا طاهرًا، وفيه أشياء أخرى ..... الفطر ..... الأضحى، وأشياء أخرى، وهو مُرسل، قالوا: طرقه مُرسلة. ورواه أبو داود بسندٍ جيدٍ متَّصلٍ، نعم.

وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يعني: العهود، يعني: ما أحلّ الله وما حرَّم، وما فرض وما حدَّ في القرآن كلّه، فلا تغدروا، ولا تنكثوا، ثم شدد في ذلك فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إلى قوله: سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25].

وقال الضَّحاك: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: ما أحلّ الله وحرّم، وما أخذ الله من الميثاق على مَن أقرّ بالإيمان بالنبي والكتاب أن يُوفوا بما أخذ اللهُ عليهم من الفرائض من الحلال والحرام.

وقال زيد بن أسلم: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: هي ستة: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشَّركة، وعقد البيع، وعقد النِّكاح، وعقد اليمين.

وقال محمد بن كعب: هي خمسة، منها: حلف الجاهلية، وشركة المفاوضة.

وقد استدلّ بعضُ مَن ذهب إلى أنَّه لا خيارَ في مجلس البيع بهذه الآية: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: فهذه تدلّ على لزوم العقد وثبوته، فيقتضي نفي خيار المجلس. وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وخالفهما في ذلك الشَّافعي وأحمد والجمهور.

والحجّة في ذلك ما ثبت في "الصحيحين" عن ابن عمر قال: قال رسولُ الله ﷺ: البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا.

وفي لفظٍ آخر للبُخاري: إذا تبايع الرَّجلان فكلُّ واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرَّقا، وهذا صريحٌ في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع، وليس هذا مُنافيًا للزوم العقد، بل هو من مُقتضياته شرعًا، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود.

الشيخ: والآية عامّة: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عامّة، تعمّ عقود المعاهدات، وتعمّ عقود البيع والإجارة والشَّركات وسائر أنواع العقود كالنِّكاح، يجب الوفاء بما تعاقد عليه الناس إذا وافق الشرع، إذا وافق العقدُ الأمر الشَّرعي وجب الوفاء به، وحرمت الخيانةُ والنَّقض، إلا ما أجاز الشرعُ فيه التَّرك فلا بأس، كاستثناء الخيار: خيار المجلس، وخيار الشَّرط؛ لأنَّ السنة تُخصص القرآن: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يعني: العقود التي قد لزمت، أو التي اتَّفقتم عليها، لا تخونوا فيها، أوفوا بها، وما جاء في الشَّرع الإذن في نقضه فلا بأس: كالبيع، فلكل واحدٍ الخيار في المجلس ما لم يتفرَّقا، والسنة تُخصص القرآن، أو بيع الشَّرط، كأن يقول: بيننا الخيار إلى دخول شهر كذا، أو إلى يوم كذا، فالمسلمون على شروطهم.

ومن هذا قوله -جلَّ وعلا-: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، لما ذكر المحرّمات في النِّكاح قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، فجاءت السُّنة بتخصيص نكاح العمّة على بنت أخيها، والخالة على بنت أختها، وأنَّه لا يُجمع بينهما، وصار هذا من تخصيص القرآن.

وهكذا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11] آية المواريث، جاءت السنةُ بتخصيص منع إرث المسلم من الكافر: لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ، ولا يرث القاتلُ من قتيله، ولا الرَّقيق، فالسنة تُخصص القرآن.

س: ..............؟

ج: إذا كانت مُحصنةً من أهل الكتاب فلا بأس، الله أباح المحصنات من أهل الكتاب للمسلمين، قال -جلَّ وعلا-: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الآية [المائدة:5]، فنكاح المسلم من المحصنة الكتابية لا بأسَ به، أما غير المحصنة وغير الكتابية فلا، الوثنية والشُّيوعية والمجوسية لا تحلّ، خاصة بأهل الكتاب المحصنات فقط.

س: ..............؟

ج: هذا باطلٌ، الكافر لا ينكح المسلمة بإجماع المسلمين؛ لأنَّ الله يقول: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10]، ويقول -جلَّ وعلا-: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221]، نعم.

س: إذا كان بيّن له وأصرّ على رأيه ماذا يكون حكمُه في الشَّرع؟

ج: إذا استحلّه وبيَّن له الحقّ يكفر، إذا استحلّ وبيّن له الأدلة يكفر بذلك.

س: السنة تنسخ القرآن؟

ج: تُخصصه، لا تنسخ، تُخصصه، نعم.

س: عقود الأحلاف في الإسلام هل تدخل ضمن هذه الآية؟

ج: إذا كان عقدًا شرعيًّا، إذا وافق الشَّرع، إذا كان عقدُه مُوافقًا الشرع.

س: وحديث النبي ﷺ: لا حلفَ في الإسلام؟

ج: هذا الحلف المخالف للإسلام، الإسلام يكفي -والحمد لله-، ما كان من حلفٍ في الجاهلية لا يزيده الإسلامُ إلا شدّة، ولا حاجةَ إلى الحلف، ولكن يتعاقدون على عقدٍ يُوافق الشَّرع، يتعاقدون أنَّهم لا يظلم بعضُهم بعضًا، أو لا يسبّ بعضُهم بعضًا، هذا معناه تأكيد ما جاء به الإسلام، نعم.

وقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ [المائدة:1] هي الإبل والبقر والغنم. قاله أبو الحسن وقتادة وغير واحدٍ.

قال ابنُ جرير: وكذلك هو عند العرب، وقد استدلّ ابنُ عمر وابنُ عباس وغيرُ واحدٍ بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وُجد ميتًا في بطن أمه إذا ذُبحت.

الشيخ: لأنَّها داخلة في قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، فإذا ذبحها وفي بطنها جنين؛ فولدها تبعٌ لها، حِلٌّ، فإن خرج حيًّا يُنحر، إذا أرادوا نحره أو إبقاءه، وإن مات بذبح أمِّه فهو تابعٌ لها، حلال، ذكاة الجنين ذكاة أمِّه، نعم.

وقد ورد في ذلك حديثٌ في "السنن" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق مجالد، عن أبي الوداك جبر بن نوفل.

مُداخلة: جبر بن نُفيل.

الشيخ: انظر "التقريب": أبو الوداك في "الكنى"، وأيش عندك؟

الطالب: جبر بن نوف.

الشيخ: وأنت: نوفل؟

الطالب: نعم، أحسن الله إليك.

الشيخ: نعم.

عن أبي سعيدٍ قال: قلنا: يا رسول الله، ننحر النَّاقة ونذبح البقرة أو الشَّاة في بطنها الجنين، أنُلقيه أم نأكله؟ فقال: كلوه إن شئتم؛ فإنَّ ذكاته ذكاة أمه. وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ.

قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس: حدثنا إسحاق بن إبراهيم: حدثنا عتاب بن بشير: حدثنا عبيدالله ابن أبي زياد القداح المكي، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله، عن رسول الله ﷺ قال: ذكاة الجنين ذكاة أمّه. تفرد به أبو داود.

الشيخ: يكون بالسَّندين حسنًا لغيره، وجود السَّندين يجبر أحدُهما الآخر، نعم؛ لأنَّ مجالدًا فيه ضعفٌ، والسَّند الآخر فيه ضعفٌ، لكن ينجبر هذا بهذا مع عموم الآية.

الطالب: جبر بن نوف -بفتح النون وآخره فاء-، الهمداني -بسكون الميم-، البكالي -بكسر الموحدة وتخفيف الكاف-، أبو الوداك -بفتح الواو وتشديد الدال وآخره كاف-، كوفي، صدوق، يهم، من الرابعة. (مسلم والأربعة).

الشيخ: صلِّحوها: جبر بن نوف، الذي عنده: جبير، يُصلّحها: جبر، والذي عنده: "نوفل" نوف. نعم.

وقوله: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1] قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: يعني بذلك الميتة والدَّم ولحم الخنزير.

وقال قتادة: يعني بذلك الميتة وما لم يُذكر اسمُ الله عليه.

والظاهر -والله أعلم- أنَّ المراد بذلك قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [المائدة:3]، فإنَّ هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض؛ ولهذا قال: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3] يعني: منها فإنَّه حرام لا يمكن استدراكه وتلاحقه.

الشيخ: وهكذا قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يعني: إلا ما يُتلى عليكم تحريمه والنَّهي عنه، فهو مُستثنًى، نعم.

ولهذا قال تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي: إلا ما سيُتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال.

وقوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1] قال بعضُهم: هذا منصوبٌ على الحال، والمراد بالأنعام ما يعمّ الإنسي من الإبل والبقر والغنم، وما يعمّ الوحشي: كالظِّباء والبقر والحمر، فاستثنى من الإنسي ما تقدّم، واستثنى من الوحشي الصَّيد في حال الإحرام.

وقيل: المراد: أحللنا لكم الأنعام، إلا ما استُثني منها لمن التزم تحريم الصيد، وهو حرامٌ لقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:115] أي: أبحنا تناول الميتة للمُضطر بشرط أن يكون غير باغٍ ولا مُتعدٍّ، وهكذا هنا، أي: كما أحللنا الأنعام في جميع الأحوال فحرموا الصّيد في حال الإحرام، فإنَّ الله قد حكم بهذا، وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه؛ ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1].

ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ [المائدة:2] قال ابنُ عباس: يعني بذلك مناسك الحجِّ.

وقال مجاهد: الصَّفا والمروة، والهدي والبدن من شعائر الله.

وقيل: شعائر الله: محارمه، أي: لا تُحلوا محارم الله التي حرَّمها تعالى؛ ولهذا قال تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ [المائدة:2] يعني بذلك تحريمه، والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى اللهُ عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال، وتأكيد اجتناب المحارم، كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة:217]، وقال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا [التوبة:36].

وفي "صحيح البخاري": عن أبي بكرة: أنَّ رسول الله ﷺ قال في حجّة الوداع: إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ حرم، ثلاثٌ مُتواليات: ذو العقدة وذو الحجّة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان، وهذا يدلّ على استمرار تحريمها إلى آخر وقتٍ، كما هو مذهب طائفةٍ من السَّلف.

قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ يعني: لا تستحلّوا القتالَ فيه.

وكذا قال مُقاتل بن حيان وعبدالكريم بن مالك الجزري، واختاره ابنُ جرير أيضًا.

وذهب الجمهور إلى أنَّ ذلك منسوخٌ، وأنَّه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، واحتجّوا بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، والمراد أشهر التَّسيير الأربعة، قالوا: فلم يستثنِ شهرًا حرامًا من غيره.

وقد حكى الإمامُ أبو جعفر الإجماع على أنَّ الله قد أحلَّ قتال أهل الشِّرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السَّنة، قال: وكذلك أجمعوا على أنَّ المشرك لو قلّد عنقه أو ذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم لم يكن ذلك له أمانًا من القتل إذا لم يكن تقدّم له عقد ذمَّةٍ من المسلمين أو أمان.

ولهذه المسألة بحثٌ آخر له موضع أبسط من هذا.

وقوله تعالى: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ [المائدة:2] يعني: لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإنَّ فيه تعظيم شعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها؛ لتتميز به عمَّا عداها من الأنعام، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها مَن يُريدها بسوءٍ، وتبعث مَن يراها على الإتيان بمثلها، فإنَّ مَن دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور مَن اتَّبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء؛ ولهذا لما حجَّ رسولُ الله ﷺ بات بذي الحُليفة، وهو وادي العقيق، فلمَّا أصبح طاف على نسائه، وكن تسعًا، ثم اغتسل وتطيب وصلَّى ركعتين، ثم أشعر هديه وقلّده، وأهلّ للحجِّ والعمرة، وكان هديه إبلًا كثيرةً تنيف على الستين، من أحسن الأشكال والألوان، كما قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

وقال بعضُ السلف: إعظامها: استحسانها واستسمانها.

قال علي بن أبي طالب: أمرنا رسولُ الله ﷺ أن نستشرف العين والأذن. رواه أهلُ السنن.

وقال مقاتل بن حيان: وقوله: وَلَا الْقَلَائِدَ فلا تستحلّوا، وكان أهلُ الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلَّدوا أنفسَهم بالشّعر والوبر، وتقلّد مُشركو الحرم من لحاء شجره، فيأمنون به. رواه ابنُ أبي حاتم.

ثم قال: حدَّثنا محمد بن عمار: حدثنا سعيد بن سليمان، قال: حدَّثنا عبَّاد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد، وقوله: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42].

وحدثنا المنذر بن شاذان: حدثنا زكريا بن عدي: حدثنا محمد ابن أبي عدي، عن ابن عوفٍ قال: قلتُ للحسن: نُسخ من المائدة شيء؟ قال: لا.

وقال عطاء: كانوا يتقلّدون من شجر الحرم فيأمنون، فنهى اللهُ عن قطع شجره. وكذا قال مطرف بن عبدالله.

س: أحسن الله إليك، القتال في الأشهر الحرم؟

ج: فيه خلافٌ مشهورٌ، والجمهور على أنَّه منسوخٌ، وأنَّ الصحابة لم يكونوا  يتحرَّجون فيه بعد وفاة النبي ﷺ، وظاهر نصوص القرآن التَّشديد فيه، وأنه باقٍ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إلى آخر الآية [البقرة:217]، وفي المائدة -وهي من آخر ما نزل-: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ [المائدة:2]، فإذا تيسر اجتناب القتال فيه فهو أحوط؛ لأنَّ النَّسخ ليس واضحًا.

س: القول بأنَّ البداءة أنَّ هذا ...؟

ج: هذا في البدء، أمَّا إذا بدأوا هم يُقاتلون: فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191]، هذا ولو في الحرم لكان هذا المراد به البدء.

س: ما رأيكم يا شيخ؟

ج: الله أعلم، الله أعلم.

س: ما معنى قول علي بن أبي طالب: أمرنا رسولُ الله ﷺ أن نستشرف العين والأذن؟

ج: على ظاهره، يعني: في الضَّحية والهدي تكون العينُ سليمةً، والأذن سليمةً، ما فيها جدع ولا عور، نعم.

س: الصواب في تحليل الشَّعائر؟

ج: يعني: محارم الله، شعائر الله: محارم الله، مما حرَّم: الزنا، والسرقة، وتحريم الحرم المكي، والحرم المدني، وغير ذلك، شعائر الله: محارمه.

س: قول بعض الفُقهاء: إذا كان الأمرُ وعدًا فلا يجب الوفاء به، فإن كان شرطًا وجب الوفاءُ به. هل هناك فرقٌ بين الوعد والشَّرط؟

ج: الله أعلم، ما أعرف الفرق، ما أمر اللهُ به وجب اتِّباعه، وما نهى اللهُ عنه وجب تركه، نعم، إلا بدليلٍ.