تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا..}

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ۝ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:31-33].

يُخبر تعالى عن كفر قريش، وعتوهم، وتمردهم، وعنادهم، ودعواهم الباطل عند سماع آياته: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ أنَّهم يقولون: قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا، وهذا منهم قولٌ بلا فعلٍ، وإلا فقد تحدّوا غير ما مرّةٍ أن يأتوا بسورةٍ من مثله، فلا يجدون إلى ذلك سبيلًا، وإنما هذا القول منهم يُغرون به أنفسهم ومَن تبعهم على باطلهم.

وقد قيل: إنَّ القائل لذلك هو النَّضر بن الحارث -لعنه الله-، كما قد نصّ على ذلك سعيدُ بن جبير والسّدي وابنُ جريج وغيرهم، فإنَّه -لعنه الله- كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلّم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار، ولما قدم وجد رسول الله ﷺ قد بعثه اللهُ، وهو يتلو على الناس القرآن، فكان -عليه الصلاة والسلام- إذا قام من مجلسٍ جلس فيه النَّضر، فحدَّثهم من أخبار أولئك، ثم يقول: بالله أيّنا أحسن قصصًا: أنا أو محمد؟

ولهذا لما أمكن اللهُ تعالى منه يوم بدرٍ ووقع في الأسارى أمر رسولُ الله ﷺ أن تُضرب رقبته صبرًا بين يديه، ففعل ذلك، ولله الحمد.

وكان الذي أسره المقداد بن الأسود كما قال ابنُ جرير: حدثنا محمد بن بشار: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قتل النبي ﷺ يوم بدرٍ صبرًا عقبة ابن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنَّضر بن الحارث، وكان المقدادُ أسر النَّضر، فلمَّا أمر بقتله قال المقدادُ: يا رسول الله، أسيري! فقال رسولُ الله ﷺ أنَّه كان يقول في كتاب الله ما يقول، فأمر رسولُ الله ﷺ بقتله، فقال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال رسولُ الله ﷺ: اللهم أغنِ المقداد من فضلك، فقال المقداد: هذا الذي أردتُ. قال: وفيه أنزلت هذه الآية: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.

وكذا رواه هُشيم، عن أبي بشر جعفر ابن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير أنَّه قال: المطعم بن عدي. بدل: طعيمة. وهو غلط؛ لأنَّ المطعم بن عدي لم يكن حيًّا يوم بدر؛ ولهذا قال رسول الله ﷺ يومئذٍ: لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم سألني في هؤلاء النَّتنى لوهبتُهم له يعني: الأسارى؛ لأنَّه كان قد أجار رسول الله ﷺ يوم رجع من الطَّائف.

الشيخ: والمقصود أنَّ هؤلاء الضَّالين مثل: النَّضر بن الحارث، وعقبة ابن أبي معيط، وأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وأشباههم من أعيان قريش كانوا هم الذين يُضلّون الناس، ويلبسون على الناس، فقتلهم الله يوم بدرٍ، وأراح العباد من شرِّهم.

وكان النَّضر بن الحارث هذا من أشدِّ الناس عداوةً للنبي ﷺ، وعقبة ابن أبي معيط؛ فلهذا قتلهم النبي ﷺ يوم بدرٍ في الأسرى.

أما المطعم فكان أجار النبي ﷺ لما رجع من الطائف، ثم مات قبل بدرٍ، فقال ﷺ في أسارى بدر: لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلَّمني في هؤلاء النَّتنى يعني: الأسرى لتركتُهم له يعني: مُجازاةً لما عمل من اليد الجيدة البيضاء حين أجار النبي ﷺ.

والمقصود من هذا أنَّ الله -جلَّ وعلا- أقرَّ عينه، وأقرَّ أعين المؤمنين بهذه الغزوة العظيمة، وهذا الفتح العظيم يوم بدرٍ، الذي قتل الله فيه صناديدهم وكُبراءهم ورؤساءهم وقادة الشَّر فيهم، وكان ذلك من نصر الله لأوليائه ولنبيِّه وحزبه، ولله الحمد والمنَّة.

س: بالنسبة للأسير يكون ملكًا للآسر وإن لم يستأذن الإمام؟

ج: لا، فقط يريد ما يُؤخذ من الفدية؛ لأنَّ الأسرى وليُّ الأمر مُخيَّر فيهم، ما هو بكلِّه للآسر، لولي الأمر، مُخيّر: إن شاء قتل، وإن شاء فادى، وإن شاء مَنَّ وعفا، مالم يُسلم الأسير.

س: وقول المقداد؟

ج: يعني: قصده أنَّه يُعطى فديةً من أهل أسيره، يعني: قصد المقداد: لعلّ أهله يفدونه؛ فلهذا قال: اللهم أغنِ المقداد من فضلك، قال: هذا الذي أردتُ. هذه الدَّعوة المباركة.

س: ومن حيث الإسناد صحيحٌ قول المقداد: أسيري! واللهم أغنِ المقداد من فضلك؟

ج: أعد السَّند.

كما قال ابنُ جرير: حدَّثنا محمد بن بشار: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قتل النبيُّ ﷺ يوم بدرٍ صبرًا: عقبة ابن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنَّضر بن الحارث، وكان المقدادُ أسر النَّضر، فلمَّا أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال رسولُ الله ﷺ أنَّه كان يقول في كتاب الله ما يقول، فأمر رسولُ الله ﷺ بقتله، فقال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال رسولُ الله ﷺ: اللهم أغنِ المقداد من فضلك، فقال المقداد: هذا الذي أردتُ.

الشيخ: هذا مُرسل، أقول: مرسل.

ومعنى أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وهو جمع أسطورة، أي: كتبهم اقتبسها، فهو يتعلّم منها، ويتلوها على الناس، وهذا هو الكذب البحت، كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ۝ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:5-6]، أي: لمن تاب إليه وأناب، فإنَّه يتقبّل منه ويصفح عنه.

وقوله: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ هذا من كثرة جهلهم، وشدّة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم، وهذا مما عيبوا به، وكان الأولى لهم أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا له، ووفّقنا لاتّباعه. ولكن استفتحوا على أنفسهم، واستعجلوا العذاب.

الشيخ: وهذا يدلّ على شدّة العداوة، والتَّكبر على الحقِّ، وعدم الانصياع له والرَّغبة فيه، كيف يقول إنسانٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ؟! كيف يقول هذا عاقلٌ، لو كانوا يعقلون، لكن كبرهم وبغيهم وعدوانهم وشدّة عداوتهم للنبي والصَّحابة أوجبت لهم هذه المقالة الشَّنيعة: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ فعذّبنا. أعوذ بالله! أين العقول؟!

كان الأولى بهم لو كانوا يعقلون أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا له، ووفِّقنا لقبوله، وافتح على قلوبنا. لو كانوا يعقلون، لو كان عندهم تواضع، لو كانت عندهم رغبة في الخير، ولكن حملهم البغي والكِبْر والتَّعاظم والإعراض عن الحقِّ والصُّدود عن الهدى إلى أن يقولوا هذه المقالة، نسأل الله العافية.

وتقديم العقوبة كقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [العنكبوت:53]، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص:16]، وقوله: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ۝ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ۝ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ [المعارج:1-3].

وكذلك قال الجهلةُ من الأمم السَّالفة، كما قال قومُ شُعيب له: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء:187]، وقال هؤلاء: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.

قال شُعبة: عن عبدالحميد -صاحب الزيادي-، عن أنس بن مالك قال: هو أبو جهل ابن هشام، قال: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فنزلت: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. رواه البخاري عن أحمد ومحمد بن النَّضر –كلاهما-، عن عبيدالله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، به. وأحمد هذا هو أحمد بن النَّضر بن عبدالوهاب. قاله الحاكم أبو أحمد، والحاكم أبو عبدالله النَّيسابوري، والله أعلم.

وقال الأعمش: عن رجلٍ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ في قوله: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.

الشيخ: جاءهم العذابُ يوم بدر ولله الحمد، وأخذ اللهُ القائلَ ومَن كان معه من صناديدهم وكُبرائهم وأصنامهم، نسأل الله العافية.

س: وفتح مكّة يُعتبر من العذاب؟

ج: فتح مكّة رحمة، فتح اللهُ عليهم، ودخلوا في دين الله.

س: ما قُتل منهم أحدٌ؟

ج: قليل، عدد يسير.

قال: هو النَّضر بن الحارث بن كلدة، قال: فأنزل الله: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ۝ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ. وكذا قال مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسّدي: إنَّه النَّضر بن الحارث. زاد عطاء: فقال الله تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ، وقال: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94]، وقال: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ۝ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ. قال عطاء: ولقد أنزل اللهُ فيه بضع عشرة آية من كتاب الله .

وقال ابنُ مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم: حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث: حدثنا أبو غسان: حدثنا أبو تميلة: حدثنا الحسين، عن ابن بُريدة، عن أبيه قال: رأيتُ عمرو بن العاص واقفًا يوم أحد على فرسٍ، وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمدٌ حقًّا فاخسف بي وبفرسي.

وقال قتادة في قوله: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية، قال: قال ذلك سفهةُ هذه الأمّة وجهلتُها، فعاد اللهُ بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمّة وجهلتها.

وقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.

قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا أبو حُذيفة موسى بن مسعود: حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل سماك الحنفي، عن ابن عباسٍ قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك. فيقول النبيُّ ﷺ: قط، قط، ويقولون: اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. ويقولون: غفرانك، غفرانك.

الشيخ: ومعنى: "قط، قط" يعني: حسبكم، قفوا على هذا: "لا شريكَ لك"، لا تزيدوه: "إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك"، هذه الزيادة الباطلة، ولكنَّهم يفعلون هذا على اعتقادهم بأنَّ الآلهة شريكة، وتُعبد من دون الله، لكنَّها مملوكة لله، نعم.

مُداخلة: عندنا -أحسن الله إليك- بالدال: قد، قد. وكذا في نسخة (الشعب).

الشيخ: يمكن هذا ..... متقارب، نعم، يحطّ نسخة: "قد، قد"، والذي عنده: "قط" فلا بأس.

فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الآية.

قال ابنُ عباسٍ: كان فيهم أمانان: النبي ﷺ والاستغفار، فذهب النبي ﷺ وبقي الاستغفار.

الشيخ: والمعنى: أنَّه لا يُعذّبهم عذابًا عامًّا، هذه الأمّة رفع اللهُ عنها العذابَ العامّ، بخلاف مَن مضى فقد أُصيبوا بعذابٍ عامٍّ: كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شُعيب، أمَّا هذه الأمّة فرحمها اللهُ ورفع عنها العذاب العامّ، وقد عُذِّبوا عذابًا خاصًّا يوم بدر، وأمَّا العذاب العامّ فرفعه اللهُ عنهم، وهكذا رفع اللهُ عنهم العذابَ بالتوبة ..... مَن تاب إليه رفع اللهُ عنه العذاب.

وقال ابنُ جرير: حدَّثني الحارث: حدثني عبدالعزيز: حدثنا أبو معشر، عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعضٍ: محمد أكرمه اللهُ من بيننا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية، فلمَّا أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: غُفرانك اللهم. فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ إلى قوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الأنفال:33-34].

وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ يقول: ما كان اللهُ ليُعذّب قومًا وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يُخرجهم، ثم قال: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يقول: وفيهم مَن قد سبق له من الله الدُّخول في الإيمان، وهو الاستغفار، يستغفرون يعني: يُصلون، يعني بهذا أهل مكّة.

ورُوي عن مجاهد وعكرمة وعطية العوفي وسعيد بن جبير والسّدي نحو ذلك.

وقال الضَّحاك وأبو مالك: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني: المؤمنين الذين كانوا بمكّة.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا عبدالغفار بن داود: حدثنا النَّضر بن عربي قال: قال ابنُ عباسٍ: إنَّ الله جعل في هذه الأمّة أمانين، لا يزالون معصومين مُجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم، فأمانٌ قبضه الله إليه، وأمانٌ بقي فيكم، قوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.

الشيخ: كما قال ابن عباسٍ، فهما أمانان: الأمان الأول: وجوده ﷺ من أسباب سلامتهم من العذاب العامّ، والأمان الثاني: التوبة والاستغفار، مَن تاب إلى الله، ورجع إليه، وأناب إليه؛ رفع اللهُ عنه العذاب.

س: ..............؟

ج: الذين تركوا المنكر ولم يُغيّروه، أيّ طائفةٍ كانت، نعم، نسأل الله العافية.

وقال أبو صالح عبدالغفار: حدَّثني بعضُ أصحابنا: أنَّ النضر بن عربي حدَّثه هذا الحديث عن مجاهد، عن ابن عباسٍ.

وروى ابنُ مردويه وابنُ جرير، عن أبي موسى الأشعري نحوًا من هذا.

وكذا رُوي عن قتادة وأبي العلاء النَّحوي المقرئ.

وقال الترمذي: حدَّثنا سفيان بن وكيع: حدثنا ابنُ نمير، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عباد بن يوسف، عن أبي بردة ابن أبي موسى، عن أبيه قال: قال رسولُ الله ﷺ: أنزل اللهُ عليَّ أمانين لأمَّتي: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، فإذا مضيتُ تركتُ فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.

ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه" من حديث عبدالله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ: أنَّ رسول الله ﷺ قال: إنَّ الشيطان قال: وعزّتك يا ربّ، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحُهم في أجسادهم. فقال الربُّ: وعزَّتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يُخرجاه.

الشيخ: هذا من تساهل الحاكم؛ فإنَّ دراجًا عن أبي الهيثم ضعيف، والآية شاهدة، الآية العظيمة كافية: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، مع الآية الأخرى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود:3]، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10]، الآيات كثيرة في مسألة الاستغفار والتَّوبة، وأنَّ ذلك من أسباب السَّلامة في الدنيا والآخرة، نعم.

س: ما درجة الحديث الأول؟

ج: فيه سفيان بن وكيع أيضًا لا يُحتجّ به.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا معاوية بن عمرو: حدثنا رشدين -هو ابن سعد-: حدَّثني معاوية بن سعيد التّجيبي.

..............

الطالب: في "الخلاصة": ابن سعيد، معاوية بن سعيد، التّجيبي، الفهمي مولاهم، المصري، عن أبي قبيل، وعنه يحيى بن أيوب، وثَّقه ابنُ حبان. (ابن ماجه).

الطالب: في "التقريب": ابن سعيد، معاوية بن سعيد بن شريح، التُّجيبي -بضم المثناة وكسر الجيم ثم تحتانية ساكنة ومُوحّدة-، المصري، ويُقال: معاوية بن يزيد، مقبول، من السابعة. (ق).

الشيخ: صلح (ابن سعيد) مثلما في "التقريب" و"الخلاصة".

عمَّن حدَّثه عن فضالة بن عبيد، عن النبي ﷺ أنَّه قال: العبد آمنٌ من عذاب الله ما استغفر الله .

س: هل الحديث صحيح؟

ج: نعم.

س: آية: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ مُخاطب بها المؤمنون فقط أم الكفَّار؟

ج: كل الأمّة تتوب إلى الله، سواء من أهل مكّة أو غيرهم، هذه آية عامّة: مَن تاب إلى الله رفع اللهُ عنه، نعم.