تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ..}

وقوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4] أي: المتصفون بهذه الصِّفات هم المؤمنون حقَّ الإيمان.

وقال الحافظ أبو القاسم الطّبراني: حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي: حدثنا أبو كريب: حدثنا زيد بن الحباب: حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد السّكسكي، عن سعيد ابن أبي هلال، عن محمد ابن أبي الجهم، عن الحارث بن مالك الأنصاري: أنَّه مرَّ برسول الله ﷺ، فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحتُ مؤمنًا حقًّا. قال: انظر ما تقول! فإنَّ لكل شيءٍ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفتْ نفسي عن الدنيا: فأسهرتُ ليلي، وأظمأتُ نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النَّار يتضاغون فيها. فقال: يا حارث، عرفتَ فالزم ثلاثًا.

وقال عمرو بن مرّة في قوله تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا إنما أُنزل القرآن بلسان العرب، كقولك: فلان سيد حقًّا، وفي القوم سادة. وفلان تاجر حقًّا، وفي القوم تجّار. وفلان شاعر حقًّا، وفي القوم شُعراء.

الشيخ: والمقصود من هذا بيان أنَّ الذين اشتغلوا بذكر الله حتى وجلت قلوبهم، وزادتهم القراءة إيمانًا، وعلى ربهم يتوكلون، وهم يُقيمون الصَّلاة كما شرع الله، ويُنفقون مما رزقهم الله، هم المؤمنون حقًّا؛ لأنَّهم حققوا إيمانهم بالعمل الطيب، يعني: هم المؤمنون الكُمّل الذين حققوا إيمانهم بطاعة الله ورسوله، والاستقامة على دين الله؛ لتوكلهم عليه، ووجل قلوبهم عند ذكره، وزيادة إيمانهم عند تلاوة كتابه العظيم، مع إقامتهم الصلاة، وأدائهم الزكاة، فإنَّ هذه الخصال تُنبئ عن صدق الإيمان، وعن صدق الرَّغبة، وعن قوة الحذر من غضب الله؛ فلهذا وصفهم بقوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا يعني: المؤمنون الكُمّل؛ لأنَّ أهلَ الإيمان طبقات ثلاث:

الطبقة الأولى: المؤمن الذي عنده بعض المعاصي، مسلم، مؤمن بالله ورسوله، لكن عنده بعض المعاصي، فهذا مؤمن ظالم لنفسه، مسلم ظالم لنفسه بالمعاصي.

الثاني: مُقتصد، استقام على دين الله، وأدَّى الفرائض، وابتعد عن المحارم، لكن ليس عنده المسابقة الكثيرة إلى الطَّاعات غير الواجبة، وليس عنده المسارعة إلى أنواع الخير زيادة على الواجب. فهذه طبقة وسطى: مُقتصد يصدق عليه أنَّه مؤمن حقًّا.

لكن هناك طبقة ثالثة أعظم وأكمل إيمانًا: وهي التي مع أداء الفرائض وترك المحارم عندها المسابقة إلى الخيرات، والمسارعة إلى أنواع الطَّاعات غير الواجبات من النَّفقات في سبيل الله، ومن الحرص على أنواع القربات المستحبة، إلى غير ذلك من وجوه الخير. هؤلاء هم السَّابقون، هم الطبقة العُليا، السابقون إلى كل خيرٍ، وهم المقرَّبون.

وقد ذكر الله الطبقات الثلاث في سورة فاطر في قوله جلَّ وعلا: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ هذا العاصي، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ هذا المستقيم على أداء الواجب وترك الحرام، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32]، هؤلاء هم الطبقة العليا، المقرَّبون، السَّابقون.

وفي آيات كثيرات يجعل المسلمين طبقتين: أبرار، ومُقرَّبين، يُدخل الظالم نفسه في الأبرار؛ لأنَّ معاصيه لا تُخرجه عن كونه من الأبرار، من المسلمين، من المؤمنين في الجملة، كما في سورة الواقعة وغيرها: جعل أهلَ الإيمان طبقتين: أصحاب يمين، وسابقين مُقرَّبين، ثم أصحاب المشأمة.

فهؤلاء الذين هم المؤمنون حقًّا ينطبق على الطبقة الثانية والطبقة الثالثة: السَّابقون بالخيرات، وهم في الطبقة الثالثة أظهر؛ لقوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3]، فإنَّ هذا يشمل النَّفقة الواجبة والمستحبّة، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، هذا يقتضي منهم زيادة على مجرد أداء الواجبات وترك المحارم الزيادة في التوسع في الخيرات، والمسابقة إلى الطَّاعات.

فجديرٌ بكل مسلمٍ وكل مؤمنٍ أن يكون هكذا: أن يتّصف بهذا الخلق، وأن يُجاهد نفسَه في ذلك، وأن يكون عند ذكر الله يُوجَل قلبه، ويخاف الله ويُراقبه، وعند سماع الآيات القرآنية يزداد إيمانه، وأن يكون عظيم التوكل على الله جلَّ وعلا، والاستقامة على دينه: بأداء الفرائض، وترك المحارم، يرجو ثوابَ الله، ويخشى عقابه، الله وعدهم بقوله: لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4] بسبب أعمالهم الطّيبة.

س: هل حديث الحارث صحيح؟

ج: فيه ضعفٌ لأجل ابن لهيعة.

وقوله: لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ أي: منازل ومقامات ودرجات في الجنات، كما قال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران:163]، وَمَغْفِرَةٌ أي: يغفر لهم السّيئات، ويشكر لهم الحسنات.

وقال الضَّحاك في قوله: لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ أهل الجنة بعضهم فوق بعضٍ، فيرى الذي هو فوق فضلَه على الذي هو أسفل منه، ولا يرى الذي هو أسفل منه أنَّه فُضِّل عليه أحدٌ.

ولهذا جاء في "الصحيحين": أنَّ رسول الله ﷺ قال: إنَّ أهل عليين ليراهم مَن أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفقٍ من آفاق السَّماء، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا ينالها غيرهم. فقال: بلى، والذي نفسي بيده، لرجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين.

الشيخ: والمعنى: أنَّ جميع أهل الجنة كلّهم مُغتبطون، كلّهم مسرورون، كلّهم في نعيمٍ، كل واحدٍ لا يرى أنَّ غيره أفضل منه من عِظَم ما أعطاهم الله من النَّعيم؛ ولأنَّها دار ليس فيها حزن، وليس فيها مُكدرات، بل كلٌّ في نعيمٍ دائمٍ، وفي خيرٍ دائمٍ، لا يعتريه شيء من الحزن، ولا شيء من الكدر في جميع طبقاتهم. نعم.

وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وأهل السّنن من حديث عطية، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول الله ﷺ: إنَّ أهل الجنة ليتراؤون أهل الدَّرجات العُلى كما ترون الكوكبَ الغابر في أفق السَّماء، وإنَّ أبا بكر وعمر منهم وأنعما.

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ۝ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ۝ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ۝ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال:5-8].

قال الإمام أبو جعفر الطّبري: اختلف المفسّرون في السَّبب الجالب لهذه الكاف في قوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ، فقال بعضُهم: شبّه به في الصلاح للمؤمنين اتِّقاؤهم ربّهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم لله ورسوله. ثم روى عن عكرمةَ نحو هذا.

ومعنى هذا: أنَّ الله تعالى يقول: كما أنَّكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها، فانتزعها اللهُ منكم، وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله ﷺ، فقسمها على العدل والتَّسوية، فكان هذا هو المصلحة التَّامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشَّوكة، وهم النَّفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عِيرهم، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدَّره لكم، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعادٍ؛ رشدًا، وهُدًى، ونصرًا، وفتحًا، كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

قال ابنُ جرير: وقال آخرون: معنى ذلك: كما أخرجك ربُّك من بيتك بالحقِّ على كُرْهٍ من فريقٍ من المؤمنين، كذلك هم كارهون للقتال، فهم يُجادلونك فيه بعدما تبين لهم.

ثم رُوي عن مجاهد نحوه: أنَّه قال: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ قال: كذلك يُجادلونك في الحقِّ.

وقال السّدي: أنزل اللهُ في خروجه إلى بدرٍ ومُجادلتهم إياه، فقال: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ لطلب المشركين، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ.

وقال بعضُهم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ [الأنفال:1] مُجادلةً، كما جادلوك يوم بدرٍ فقالوا: أخرجتنا للعِير، ولم تُعلمنا قتالًا فنستعدّ له.

مُداخلة: عندنا: أخرجتنا للغير.

الشيخ: لا، للعِير، العير القادم من الشَّام، الذي فيه المتاع والتِّجارة، نعم، والنَّفير الذين خرجوا من مكّة لينصروه ويحموه: أبي جهل وأصحابه، نعم.

س: كون أهل الجنة يرون أهل الدَّرجات العُلا ألا تحصل في نفوسهم غبطةٌ لهؤلاء وتمني مكانهم يا شيخ؟

ج: الظاهر أنَّه ما يقع شيء، كلّهم مُستريح، ما يقع شيء.

س: وإن كانوا يتراءون؟

ج: وإن كانوا يتراءون.

قلتُ: رسول الله ﷺ إنما خرج من المدينة طالبًا لعِير أبي سفيان التي بلغه خبرُها أنها صادرة من الشَّام فيها أموال جزيلة لقريش، فاستنهض رسولُ الله ﷺ المسلمين مَن خفَّ منهم، فخرج في ثلاثمئة وبضعة عشر رجلًا، وطلب نحو السَّاحل من على طريق بدر، وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله ﷺ في طلبه، فبعث ضمضم بن عمرو نذيرًا إلى أهل مكّة، فنهضوا في قريبٍ من ألف مُقنع، ما بين التّسعمئة إلى الألف، وتيامن أبو سفيان بالعِير إلى سيف البحر فنجا، وجاء النَّفيرُ فوردوا ماء بدرٍ، وجمع اللهُ بين المسلمين والكافرين على غير ميعادٍ؛ لما يُريد الله تعالى.

الشيخ: والكافرون هم النَّفير الذين فيهم أبو جهل، وفيهم عتبة بن ربيعة، وفيهم صناديد قريش وكبارهم.

وجمع اللهُ بين المسلمين والكافرين على غير ميعادٍ؛ لما يُريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين، ونصرهم على عدوهم، والتَّفرقة بين الحقِّ والباطل، كما سيأتي بيانه.

والغرض أنَّ رسول الله ﷺ لما بلغه خروجُ النَّفير أوحى اللهُ إليه يَعِدُه إحدى الطَّائفتين.

الشيخ: بعدةٍ، يعني: بالوعد.

قارئ المتن: يَعِدُه.

الشيخ: طيب.

أوحى الله إليه يَعِدُه إحدى الطائفتين: إمَّا العِير، وإمَّا النَّفير، ورغب كثيرٌ من المسلمين إلى العِير؛ لأنَّه كسبٌ بلا قتالٍ، كما قال تعالى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ.

قال الحافظ أبو بكر ابن مردويه في "تفسيره": حدثنا سليمان بن أحمد الطّبراني حدثنا بكر بن سهل: حدثنا عبدالله بن يوسف: حدثنا ابنُ لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، حدّثه أنَّه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: قال رسولُ الله ﷺ ونحن بالمدينة: إني أُخبرتُ عن عِير أبي سفيان أنَّها مُقبلة، فهل لكم أن نخرج قِبَل هذه العِير لعلَّ الله أن يُغنِّمناها؟ فقلنا: نعم. فخرج وخرجنا، فلمَّا سرنا يومًا أو يومين قال لنا: ما ترون في قتال القوم، فإنَّهم قد أُخبروا بمخرجكم؟ فقلنا: لا، والله ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العِير. ثم قال: ما ترون في قتال القوم؟ فقلنا مثل ذلك، فقال المقداد بن عمرو: إذًا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قومُ موسى لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]. قال: فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحبّ إلينا من أن يكون لنا مالٌ عظيمٌ. قال: فأنزل اللهُ على رسوله ﷺ: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، وذكر تمام الحديث.

ورواه ابنُ أبي حاتم من حديث ابن لهيعة بنحوه.

وروى ابنُ مردويه أيضًا من حديث محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص اللَّيثي، عن أبيه، عن جدِّه قال: خرج رسولُ الله ﷺ إلى بدرٍ، حتى إذا كان بالرَّوحاء خطب الناس فقال: كيف ترون؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، بلغنا أنَّهم بمكان كذا وكذا. قال: ثم خطب الناس فقال: كيف ترون؟ فقال عمرُ مثل قول أبي بكر، ثم خطب الناس فقال: كيف ترون؟ فقال سعدُ بن معاذ: يا رسول الله، إيانا تُريد؟ فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قطّ، ولا لي بها علم، ولئن سرتَ حتى تأتي برك الغماد من ذي يمنٍ لنسيرنَّ معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتلا، إنا معكما مُقاتلون، ولعلك أن تكون خرجت لأمرٍ، وأحدث اللهُ إليك غيره، فانظر الذي أحدث اللهُ إليك فامضِ له، فصِلْ حبالَ مَن شئتَ، واقطع حبالَ مَن شئتَ، وعادِ مَن شئتَ، وسالم مَن شئتَ، وخُذْ من أموالنا ما شئتَ. فنزل القرآنُ على قول سعدٍ: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ الآيات.

الشيخ: وهذه منقبة عظيمة لسعد بن معاذ والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، وفي المتن بعض الإشكال؛ لأنَّ قول بني إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ نزلت في سورة المائدة، والمائدة مُتأخّرة، وهذا يوم بدر، فيُستغرب ما ذكره سعدٌ هنا، والسَّند هذا فيه عمرو بن علقمة، ليس بذاك، ولعلَّها مدخلة في الخبر.

انظر في "التقريب": عمرو بن علقمة.

الطالب: عمرو بن علقمة بن وقاص، الليثي، المدني، مقبول، من السادسة. (الترمذي، والنَّسائي، وابن ماجه).

الشيخ: المقبول هو شبه المستور، يعني: ليس مشهورًا بالحفظ والرِّواية، يُراجع أصله.

مداخلة: أحسن الله إليك، أصل الحديث في "الصحيحين"، لكن ليس فيه ذكر الآية.

الشيخ: أحدكم يحضره -إن شاء الله- يوم الاثنين من البخاري، أو من مسلم؛ لأنَّ ذكر الآية هنا محلّ نظرٍ.

س: ألا تكون هذه الآية جملةً تلقَّاها الصحابةُ من أخبار بني إسرائيل؟

ج: إذا ثبتت في الحديث ما لها إلا هذا: أنَّهم سمعوها من بني إسرائيل.

س: في هذه الرِّواية أنَّ الذي قال هذه المقالة هو سعد بن معاذ، وفي الرِّواية السَّابقة: المقداد؟

ج: نُراجع الأصل.

س: يقول: فيه ابن لهيعة.

ج: يُراجع الأصل، انظر الصَّحيح.

س: أليس علقمةُ تابعيًّا؟

ج: لا، حتى لو كان تابعيًّا، فليس التَّابعون كلّهم ثقات، فيهم الضَّعيف.

س: هل يكون الحديثُ مُرسلًا عن محمد بن علقمة بن وقاص؟

ج: عن علقمة بن وقاص. عن أبيه، عن جدِّه علقمة، علقمة ثقة، هو الراوي عن عمر بن الخطاب حديث: الأعمال بالنيات.

وقال العوفي: عن ابن عباسٍ: لما شاور النبي ﷺ في لقاء العدو، وقال له سعدُ بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر، أمر الناس أن يتهيؤوا للقتال، وأمرهم بالشَّوكة، فكره ذلك أهلُ الإيمان، فأنزل اللهُ: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ۝ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ.

وقال مجاهد: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ في القتال.

وقال محمد بن إسحاق: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ أي: كراهية للقاء المشركين، وإنكارًا لمسير قريش حين ذكروا لهم.

وقال السدي: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ أي: بعدما تبين لهم أنَّك لا تفعل إلا ما أمرك الله به.

قال ابنُ جرير: وقال آخرون: عنى بذلك المشركين.

الشيخ: قف على: قال ابنُ جرير.

س: رواية ابن لهيعة تضعف على الإطلاق؟

ج: هذا المشهور.

س: وإن روى عن العبادلة الثلاثة؟

ج: روايته عن العبادلة أحسن، وإلا فهي ضعيفة، لكنَّها أحسن من غيرها.

مُداخلة: الحديث موجود في "البخاري": فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ: حدثنا أبو نعيم: حدثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب: سمعتُ ابن مسعودٍ  قال: شهدتُ من المقداد. ح، وحدثني حمدان بن عمر: حدثنا أبو النَّضر: حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن مخارق، عن طارق، عن عبدالله قال: قال المقداد يوم بدر: يا رسول الله، إنَّا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن امضِ ونحن معك. فكأنَّه سري عن رسول الله ﷺ.

ورواه وكيع، عن سفيان، عن مخارق، عن طارق: أنَّ المقداد قال ذلك للنبي ﷺ.

الشيخ: لعلّها -والله أعلم- أنَّ المقداد سمعها من بني إسرائيل، من اليهود في المدينة، المشهور والمعروف في الرِّواية أنَّ المائدة من آخر ما نزل.

س: سعد بن عبادة شهد بدرًا؟

ج: هذا المقداد بن الأسود، الرِّواية في البخاري عن المقداد بن الأسود، نعم، والكلام الأول عن سعد بن معاذ، يُروى عن سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وعندك في "الصَّحيح" عن المقداد.