تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا..}

وقوله تعالى: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة:23] أي: فلمَّا نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومُتابعة رسول الله موسى ﷺ، حرَّضهم رجلان لله عليهما نعمة عظيمة، وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه.

وقرأ بعضُهم: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ أي: ممن لهم مهابة وموضع من الناس، ويُقال: إنَّهما يوشع بن نون وكالب بن يوقنا. قاله ابنُ عباسٍ، ومجاهد، وعكرمة، وعطية، والسدي، والربيع بن أنس، وغير واحدٍ من السلف والخلف رحمهم الله.

فقالا: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] أي: إن توكلتم على الله، واتَّبعتم أمره، ووافقتم رسوله؛ نصركم الله على أعدائكم، وأيَّدكم وظفركم بهم، ودخلتم البلد التي كتبها اللهُ لكم، فلم ينفع ذاك فيهم شيئًا.

قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، وهذا نكولٌ منهم عن الجهاد، ومُخالفة لرسولهم، وتخلّف عن مُقاتلة الأعداء.

ويُقال: إنَّهم لما نكلوا عن الجهاد، وعزموا على الانصراف والرجوع إلى مصر، سجد موسى وهارون عليهما السلام قدام ملأ من بني إسرائيل؛ إعظامًا لما همُّوا به، وشقَّ يوشع بن نون وكالب بن يوقنا ثيابهما، ولاما قومهما على ذلك، فيُقال: إنَّهم رجموهما، وجرى أمرٌ عظيمٌ، وخطرٌ جليلٌ.

الشيخ: وهذه الأخبار فيما يتعلق بالرجلين، أو بشقِّ الثياب، أو بغير هذا من أخبار بني إسرائيل لا تُصدّق ولا تُكذّب، المقصود أنَّ هؤلاء نكلوا وضعفوا، فنصحهم الرجلان، وشجَّعوا الجميع على القتال والجهاد، فلم يجد فيهم؛ فعُوقبوا.

فالواجب على أهل الإسلام الجهاد في سبيل الله مع القُدرة، فإذا كانت عندهم القُدرة وجب عليهم الجهاد على ما بيّن الله جلَّ وعلا إذا كانوا مثلهم أو ضعفيهم، وعليهم أن يتَّكلوا على الله، وأن يصبروا ويُصابروا، أمَّا إذا رأوا أنَّ المصلحة في المصالحة والهدنة بالجزية أو بغير الجزية فلا بأس؛ لقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال:61]، وصُلحه مع قريش يوم الحديبية عليه الصلاة والسلام.

فولي الأمر ينظر في الأمر: فإن كانت هناك قُدرة على القتال قاتل وجاهد في سبيل الله، وإن كان هناك ضعف صالح العدو مدّةً مُعينةً بجزيةٍ أو بغير جزيةٍ، بمالٍ أو بغير مالٍ، فالإمام ينظر في الأمر، والرسول فعل هذا وهذا: صالح قريشًا، وهادن اليهود في المدينة، وأخذ الجزية من مجوس هجر، كلّه فعله عليه الصلاة والسلام: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39].

فالواجب على ولي الأمر وعلى المسلمين العمل بما يرونه أصلح في حقِّ المسلمين، وأقرب إلى النَّجاح: من هدنةٍ، أو مُقاتلةٍ، وأخذ جزيةٍ وعدمها على حسب الطاقة: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

س: قول بعض الفُقهاء أنَّه إذا أخذ العدو شيئًا من بلاد المسلمين وجب على مَن كان في هذه البلاد الجهاد، فإن لم يقدروا وجب على مَن يلونهم، حتى يعمّ المسلمين، فإن تركوا ذلك أثموا جميعًا؟

ج: هذا هو الواجب مع القُدرة.

س: إذا تركوه جميعًا؟

ج: مع القُدرة يأثمون.

وما أحسن ما أجاب به الصحابةُ يوم بدر رسول الله ﷺ حين استشارهم في قتال النَّفير الذين جاءوا لمنع العِير الذي كان مع أبي سفيان، فلمَّا فاتَ اقتناصُ العِير، واقترب منهم النَّفير، وهم في جمعٍ ما بين التّسعمئة إلى الألف في العدّة والبيض واليلب، فتكلّم أبو بكر فأحسن، ثم تكلّم مَن تكلّم من الصَّحابة من المهاجرين، ورسول الله ﷺ يقول: أشيروا عليَّ أيها المسلمون، وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار؛ لأنَّهم كانوا جمهور الناس يومئذٍ، فقال سعدُ بن معاذ: كأنَّك تعرض بنا يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحقِّ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجلٌ واحدٌ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبرٌ في الحرب.

الشيخ: لصُبّر جمع: صابر، نعم.

صدقٌ في اللِّقاء، لعلَّ الله أن يُريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسُرّ رسول الله ﷺ بقول سعدٍ ونشطه ذلك.

وقال أبو بكر ابن مردويه: حدثنا علي بن الحسين: حدثنا أبو حاتم الرازي: حدثنا محمد بن عبدالله الأنصاري: حدثنا حميد، عن أنسٍ: أنَّ رسول الله ﷺ لما سار إلى بدرٍ استشار المسلمين، فأشار عليه عمر، ثم استشارهم، فقالت الأنصار: يا معشر الأنصار، إياكم يُريد رسول الله ﷺ. قالوا: إذًا لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، والذي بعثك بالحقِّ، لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتّبعناك.

ورواه الإمام أحمد، عن عبيدة بن حميد الطّويل، عن أنسٍ، به.

ورواه النَّسائي، عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن حميدٍ، به.

ورواه ابنُ حبان، عن أبي يعلى، عن عبدالأعلى بن حماد، عن معمر بن سليمان، عن حميدٍ، به.

وقال ابنُ مردويه: أنبأنا عبدالله بن جعفر: أنبأنا إسماعيل بن عبدالله: حدثنا عبدالرحمن بن إبراهيم: حدثنا محمد بن شعيب، عن الحسن بن أيوب.

مُداخلة: عندنا: الحكم.

الشيخ: الظاهر أنَّه الحكم.

قارئ المتن: فيه تعليق أحسن الله إليك.

الشيخ: اقرأه.

قارئ المتن: يقول: في المخطوطة: الحكم بن أيوب، ولم نجده، والمثبت عن "الجرح والتعديل"، جزء كذا، صفحة كذا، قال ابنُ أبي حاتم: الحكم بن أيوب الحضرمي، روى عن عبدالله بن بسر وعبدالله بن ناسخ الحضرمي، روى عنه محمد بن شعيب بن .....، كما ينظر .....

الشيخ: المعروف: الحكم بن أيوب، والحسن بن أيوب ما أذكر أنَّه مرَّ معنا، الحسن بن أيوب ما دام عندك في الحاشية، فالذي عنده الحسن يحطّ نسخة: الحكم بن أيّوب.

عن عبدالله بن ناسخ، عن عتبة بن عبيد السّلمي قال: قال النبي ﷺ لأصحابه: ألا تُقاتلون؟ قالوا: نعم، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتلا، إنا معكم مُقاتلون.

الشيخ: ولعلَّ هذا قد أخبرهم به النبي ﷺ لأنَّ سورة المائدة مُتأخّرة، ولعلَّ هذا مما أخبرهم به سابقًا: أنَّ بني إسرائيل أحجموا وقالوا لموسى: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون"؛ فلهذا استشهد به الأنصارُ، وإلا فالآية بعد بدرٍ بمدّةٍ طويلةٍ، قصّة بني إسرائيل في سورة المائدة، وهي مُتأخّرة، لكن لعلَّ هذا بلاغ منه ﷺ قبل نزول الآية.

............

وكان ممن أجاب يومئذٍ المقداد بن عمرو الكندي ، كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع: حدثني سفيان، عن مخارق بن عبدالله الأحمسي، عن طارق -هو ابن شهاب-: أنَّ المقداد قال لرسول الله ﷺ يوم بدر: يا رسول الله، إنَّا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا معكما مُقاتلون. هكذا رواه أحمد من هذا الوجه.

وقد رواه من طريقٍ أخرى فقال: حدثنا أسود بن عامر: حدثنا إسرائيل، عن مُخارق، عن طارق بن شهاب قال: قال عبدالله بن مسعود : لقد شهدتُ من المقداد مشهدًا لأن أكون أنا صاحبه أحبّ إليَّ مما عدل به، أتى رسول الله ﷺ وهو يدعو على المشركين، فقال: والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكنا نُقاتل عن يمينك، وعن يسارك، ومن بين يديك، ومن خلفك. فرأيتُ وجه رسول الله ﷺ يُشرق لذلك، وسُرّ بذلك.

الشيخ: ولا شكّ أنَّ هذا كلام عظيم ، ورضي الله عن جميع الصحابة جميعًا، وهكذا يجب على أهل الإسلام: القوة، والنَّشاط، والصبر، والمصابرة، والطاعة لولي الأمر فيما يُرضي الله ويُقرّب لديه؛ ولهذا شاورهم ﷺ لما خرج من المدينة لقصد العِير؛ ليستعين بذلك على أمور المسلمين، وكانت قريش لها عِير تذهب إلى الشام، وتأتي ببضائع وأموال إلى مكّة، فلمَّا بلغ النبي ﷺ خروج العِير من الشام فيها بضائع أحبّ أن يرصد لها في الطّريق ليأخذها ويستنفع بها المسلمون؛ لما بينهم وبين المشركين من الحرب.

فخرج من المدينة في ثلاثمئة وبضعة عشر من الناس، فبلغ أبا سفيان، وهو رئيس العِير، هو رئيس الجماعة الذين هم مع العِير، بلغه أنَّ النبي خرج من المدينة لأجل العِير، فسلك بها من جهة الساحل، وابتعد عن طريق المدينة، وبعث إلى قريش مَن يستنفرهم لحماية عِيرهم، فبلغ رسولُه أهلَ مكّة، واستنفرهم، فخرجوا في نحو ألف مُقاتل.

ثم وصلت العِير إلى مكّة، وقال أبو سفيان: وصلت العِير. وقال بعضُ الناس كذلك: لا حاجةَ إلى النَّفير. فصمموا على النَّفير، وأن يتوجَّهوا إلى بدرٍ؛ حتى تسمع بهم العرب وتهابهم.

فبلغ النبي ﷺ خبرهم، فاستشار الناس، فأشار الصديقُ، وأشار عمرُ، ثم استمر يقول: ما ترون؟ أشيروا. حتى تكلّم الأنصارُ، فلمَّا تكلّم الأنصارُ بهذا الكلام العظيم المفيد صمم على الجهاد، وتوجّه إلى بدرٍ، وأجرى اللهُ ما أجرى، ونصره على عدوه، مع قِلّة المسلمين، وكثرة المشركين، فالمسلمون نحو الثلث، والمشركون نحو الألف، والله أيَّد المسلمين ونصرهم، وصارت الدَّائرة على أعداء الله، وقُتل منهم سبعون، وأُسِرَ منهم سبعون، وصاروا غنيمةً للمسلمين، وأعزّ الله دينه وأظهره على رغم الأعداء، وكان في ذلك قتل صناديدهم وكبارهم: كأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وابنه، وجماعة.

س: هل تعريض النبي ﷺ بالأنصار لأنَّهم عاهدوه؟

ج: لأنَّهم أكثر الناس، وخشي أن يظنّوا أنَّه لا يلزمهم الجهاد إلا إذا هجم عليهم العدو، فأراد أن يعرف ما عندهم .

وهكذا رواه البخاري في "المغازي" وفي "التفسير" من طرقٍ عن مخارق، به، ولفظه في كتاب "التفسير": عن عبدالله قال: قال المقداد يوم بدر: يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن امضِ ونحن معك. فكأنَّه سري عن رسول الله ﷺ.

ثم قال البخاري: رواه وكيع، عن سفيان، عن مخارق، عن طارق: أنَّ المقداد قال ذلك للنبي ﷺ.

وقال ابنُ جرير: حدثنا بشر: حدثنا يزيد: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنَّ رسول الله ﷺ قال لأصحابه يوم الحديبية حين صدّ المشركون الهدي، وحيل بينهم وبين مناسكهم: إني ذاهبٌ بالهدي فناحره عند البيت، فقال له المقداد بن الأسود: أما والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتلا، إنا معكما مُقاتلون. فلمَّا سمعها أصحابُ رسول الله ﷺ تتابعوا على ذلك.

وهذا إن كان محفوظًا يوم الحُديبية، فيحتمل أنَّه كرر هذه المقالة يومئذٍ، كما قاله يوم بدر.

وقوله: قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25] يعني: لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال داعيًا عليهم: رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي أي: ليس أحدٌ يُطيعني منهم، فيمتثل أمر الله، ويُجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ.

قال العوفي: عن ابن عباسٍ: يعني: اقضِ بيني وبينهم.

وكذا قال علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباسٍ.

وكذا قال الضَّحاك: اقضِ بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم.

وقال غيره: افرق: افصل بيننا وبينهم، كما قال الشَّاعر:

يا ربّ فافرق بينه وبيني أشدّ ما فرقت بين اثنين

وقوله تعالى: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ الآية [المائدة:26]، لما دعا عليهم موسى حين نكلوا عن الجهاد حكم اللهُ بتحريم دخولها عليهم مدة أربعين سنةً، فوقعوا في التِّيه، يسيرون دائمًا لا يهتدون للخروج منه، وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة من تظليلهم بالغمام، وإنزال المنّ والسَّلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرةٍ صمّاء تُحمل معهم على دابَّةٍ، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عينًا تجري، لكلِّ شعبٍ عينٌ، وغير ذلك من المعجزات التي أيَّد الله بها موسى بن عمران.

وهناك نزلت التَّوراة، وشرعت لهم الأحكام، وعملت قبّة العهد، ويُقال لها: قبّة الزمان.

قال يزيد بن هارون: عن أصبغ بن زيد، عن القاسم ابن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير: سألتُ ابن عباسٍ عن قوله: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ الآية، قال: فتاهوا في الأرض أربعين سنةً، يُصبحون كل يومٍ يسيرون، ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التِّيه، وأنزل عليهم المنَّ والسَّلوى. وهذا قطعة من حديث الفتون.

ثم كانت وفاة هارون ، ثم بعده بمدّة ثلاث سنين وفاة موسى الكليم عليه السلام، وأقام الله فيهم يوشع بن نون نبيًّا خليفةً عن موسى بن عمران.

ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدّة، ويُقال: إنَّه لم يبقَ منهم أحدٌ سوى يوشع وكالب، ومن هاهنا قال بعضُ المفسرين في قوله: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ هذا وقفٌ تامّ، وقوله: أَرْبَعِينَ سَنَةً منصوبٌ بقوله: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ.

فلمَّا انقضت المدّةُ خرج بهم يوشع بن نون ، أو بمَن بقي منهم، وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس، فحاصرها، فكان فتحُها يوم الجمعة بعد العصر، فلمَّا تضيّفت الشمسُ للغروب وخشي دخول السبت عليهم، قال: إنَّك مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ. فحبسها اللهُ تعالى حتى فتحها.

وأمر الله يُوشع بن نون أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس أن يدخلوا بابها سجدًا وهم يقولون: حطة، أي: حطّ عنا ذنوبنا. فبدّلوا ما أُمروا به، ودخلوا يزحفون على أستاههم وهو يقولون: حبّة في شعرة.

وقد تقدّم هذا كلّه في سورة البقرة.

الشيخ: هذا فيه الحثّ على السمع والطَّاعة لله ..... مما يأمر به، والحذر من المعاصي، فإنها شرٌّ كبير، فالمعاصي شرّها كبير، وعاقبتها وخيمة؛ ولهذا أصابهم ما أصابهم بسبب العصيان.

فالواجب على جميع المكلَّفين المبادرة إلى طاعة الله، والحذر من التَّساهل في المعاصي، فإنَّ عاقبتها وخيمة، ولا ينبغي للعبد أن يغترّ بإمهال الله، فالله سبحانه يقول: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ۝ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182-183].

فالواجب الحذر، فقد ينظر الله ويُملي، ثم يأخذ، كما قال : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، وقال سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، فقد يُملى للعبد على معاصيه وكفره، وقد يُؤخذ على غرّةٍ، فالواجب الحذر، وعدم الاغترار بإمهال الله وإنظاره، نعم، والله المستعان.

س: قول المؤلف: أنَّ التوراة نزلت في التِّيه؟

ج: الله أعلم.

س: ما ضابط القوة في المسلمين؟ هل يكون ذلك بأن تكون عدّتهم ضعفي عدّة أعدائهم؟

ج: نصف عدّتهم، النِّصف.

س: .............؟

ج: ميِّز بيننا وبينهم.