وقوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [المائدة:75] أي: له سوية أمثاله من سائر المرسلين المتقدّمين عليه، وأنَّه عبدٌ من عباد الله، ورسولٌ من رسله الكرام، كما قال: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف:59].
وقوله: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75] أي: مُؤمنة به، مُصدّقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فدلّ على أنها ليست بنبيَّةٍ كما زعمه ابنُ حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أمّ موسى، ونبوة أمّ عيسى؛ استدلالًا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]، وهذا معنى النُّبوة.
والذي عليه الجمهور أنَّ الله لم يبعث نبيًّا إلا من الرجال، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109]، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله الإجماع على ذلك.
الشيخ: وهذا يُبين لنا بطلان ما عليه النَّصارى، وأنَّ قولهم من أبطل الأقوال، بل هو الكفر الصُّراح، فالمسيح هو عبدالله ورسوله، وليس هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة، وهكذا أمّه مريم صدّيقة، أعلى مقامات المؤمنين بعد الرسل الصّدّيقين، الرسل ثم الصدّيقون، فأعلى مقامٍ بعد النبوة: الصّديقية، كما قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]؛ ولهذا أفضل الصَّحابة الصّديق .
فالمقصود أنَّ مريم امرأة صالحة صدّيقة، كما أخبر اللهُ عنها، وليست نبيَّةً، ولا إلهة، ولا ثالثة للآلهة، وهكذا ابنها عبدٌ من عباد الله، ورسول من رسل الله، وليس هو الله، ولا ثالث ثلاثة، وإنما هو عبدٌ من عباد الله، ورسولٌ من رسل الله؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.
فالواجب على جميع المكلَّفين: الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بأنَّ الله سبحانه هو المعبود بالحقِّ، وأنَّه لا شريكَ له: لا عيسى، ولا أمّه، ولا غير ذلك، بل هو الإله الحقّ ، لا معبودَ بحقٍّ سواه جلَّ وعلا، وأنَّ قول النَّصارى بالآلهة الثلاثة من أبطل الباطل، وأضلّ الضلال، وأكفر الكفر، نسأل الله العافية.
أمَّا هذا فوحي إلهامٍ من طريق الملائكة، وليس وحي رسالةٍ، ولكن أوحى الله إليها بطريق الملائكة بهذا الشيء الخاصّ، ليس تشريعًا للناس، إنما هو شيء خاصّ: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]، وكذلك ما جرى لمريم رحمة الله عليها ....
وقوله تعالى: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ [المائدة:75] أي: يحتاجان إلى التَّغذية به، وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس، وليسا بإلهين كما زعمت فرقُ النَّصارى الجهلة، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
ثم قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ أي: نُوضِّحها ونُظهرها، ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:75] أي: ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون؟ وبأي قولٍ يتمسَّكون؟ وإلى أي مذهبٍ من الضَّلال يذهبون؟
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:76-77].
يقول تعالى مُنكرًا على مَن عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان، ومُبينًا له أنَّها لا تستحقّ شيئًا من الإلهية، فقال تعالى: قُلْ أي: يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم، ودخل في ذلك النَّصارى وغيرهم، أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا أي: لا يقدر على دفع ضرٍّ عنكم، ولا إيصال نفعٍ إليكم، وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي: السَّميع لأقوال عباده، العليم بكل شيءٍ، فلِمَ عدلتم عنه إلى عبادة جمادٍ لا يسمع، ولا يُبصر، ولا يعلم شيئًا، ولا يملك ضرًّا ولا نفعًا لغيره، ولا لنفسه؟!
ثم قال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أي: لا تُجاوزوا الحدَّ في اتِّباع الحقِّ، ولا تطروا مَن أُمرتم بتعظيمه فتُبالغوا فيه حتى تُخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح، وهو نبيٌّ من الأنبياء، فجعلتُموه إلهًا من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم، شيوخ الضَّلال الذين هم سلفكم ممن ضلَّ قديمًا: وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ أي: وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضَّلال.
الشيخ: وهذا يُبين ضرر التَّقليد الأعمى، وأنَّ ضرره عظيم، فإنَّ غالب الأمم إنما تحتجّ على كفرها باتِّباع آبائها، ويحتجّون بما مضى عليه الآباء والأسلاف، هذه حُجّتهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، فيُعادون الرسل ودُعاة الهدى بما كان عليه أسلافهم الضَّالون.
فالواجب على المكلَّف العاقل أن ينتبه، وأن يأخذ الحقَّ بدليله، لا بالتَّقليد الأعمى لأبيه وجدِّه، أو شيوخه، أو غير ذلك، يجب على كل مُكلَّفٍ أن يحكم عقله وينظر في الأدلة الشَّرعية، ولا يكتفي بتقليد الآباء والأسلاف وغيرهم، بل ينظر في الأدلة الشَّرعية، فيأخذ بالدليل وإن خالف أباه وجدّه، والله المستعان.
الشيخ: إسرائيلي لا يُعوّل عليه، التوبة تكفي ولو كان قد سبق منه ضلالٌ وإضلالٌ، متى تاب تاب اللهُ عليه، فالمشركون ضلُّوا وأضلوا، وكم جرى لهم من ضلالٍ قبل فتح مكّة، كم جرى لأبي سفيان، وكم جرى لصفوان بن أمية، وكم جرى لغيرهم من الضَّلالات والبلايا والمحن، ومع هذا لما تابوا تاب اللهُ عليهم، وصاروا من خير الناس، فالتوبة تجُبّ ما قبلها، ولو كان قد ضلَّ به كثيرٌ من الناس، فمَن تاب تاب اللهُ عليه، إذا تاب توبةً صادقةً: ندم على ما مضى، وأقلع من ذنبه، وعزم ألا يعود فيه صادقًا، ثم أتبع ذلك بالعمل الصَّالح؛ فالله يتوب عليه جلَّ وعلا، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ [الفرقان:68-70] من الشِّرك والقتل والزنا، والقتل تعدٍّ على الناس، ومع هذا إذا تاب تاب اللهُ عليه، وأرضى اللهُ عنه القتيل، وتحمّل عنه، وهكذا في الزنا إذا تاب تاب اللهُ عليه.
فكلّ الذنوب متى تاب منها تاب اللهُ عليه إذا صدق في التوبة، فالله جلَّ وعلا هو الجواد الكريم، الرحمن الرحيم .
س: ألا يُشترط البيان لتوبته لهذا الذي أضلّه؟
ج: التوبة لا بدَّ فيها من بيانٍ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة:160]، فلا بدَّ أن يُبين الضَّلال الذي كان عليه، يُبين للناس، ما هناك توبة إلا بالبيان.
الشيخ: قف على هذا.