وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:46-47].
يقول تعالى: وَقَفَّيْنَا أي: أتبعنا عَلَى آثَارِهِمْ يعني: أنبياء بني إسرائيل بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ أي: مؤمنًا بها، حاكمًا بما فيها، وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ أي: هدى إلى الحقِّ، ونور يُستضاء به في إزالة الشُّبهات وحلِّ المشكلات، وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ أي: مُتبعًا لها، غير مُخالفٍ لما فيها إلا في القليل مما بيّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنَّه قال لبني إسرائيل: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]؛ ولهذا كان المشهورُ من قول العلماء: أنَّ الإنجيل نسخ بعض أحكام التَّوراة.
وقوله تعالى: وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي: وجعلنا الإنجيلَ هدًى يُهتدى به، وَمَوْعِظَةً أي: زاجرًا عن ارتكاب المحارم والمآثم، لِلْمُتَّقِينَ أي: لمن اتَّقى الله وخاف وعيدَه وعقابَه.
وقوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ قُرئ: "وليحكم أهلَ الإنجيل" بالنَّصب على أنَّ اللام لام كي، أي: وآتيناه الإنجيل ليحكم أهلُ مِلّته به في زمانهم.
وقُرئ: "وليحكم" بالجزم على أنَّ اللام لام الأمر، أي: ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أُمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمدٍ، والأمر باتِّباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الآية [المائدة:68]، وقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]؛ ولهذا قال هاهنا: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أي: الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التَّاركون للحقِّ. وقد تقدّم أنَّ هذه الآية نزلت في النَّصارى، وهو ظاهر من السِّياق.
الشيخ: وهذا الذي بيّنه الله جلَّ وعلا ..... خانه الأكثرون، ولم يستجيبوا، وكفروا بمحمدٍ ﷺ، ولم ينقادوا للحقِّ، بل غيَّروا التوراة والإنجيل، وحرَّفوا، وبدَّلوا، فاستحقّوا غضبَ الله وعقابه، لما غيَّروا وبدَّلوا استحقّوا غضبَ الله، واستحقّوا الحكم عليهم بالضَّلال.
ثم جاء محمدٌ ﷺ ولم يستجيبوا لداعي الحقِّ، وقد أُمروا في كتبهم بتصديقه واتِّباعه، ولكنَّهم تابعوا الهوى والشيطان، وانقادوا للباطل، فصاروا كافرين، وظالمين، وفاسقين، إلا مَن هداه الله وتابع الحقَّ، وهم قليل.
أما الأكثرون فقد أبوا إلا العناد والمخالفة إلى يومنا هذا، اليهود والنَّصارى إلى يومنا هذا هم في ضلالهم يعمهون، وفي باطلهم يترددون، ولم ينقادوا للحقِّ إلا القليل، إلا مَن هداه الله، وهم قليل، نسأل الله السلامة، ولا سيّما اليهود؛ فإنَّ المنقاد للحقِّ منهم أقلّ القليل، فإنَّه يندر الإسلام منهم، فإذا عددت مَن أسلم منهم وجدتهم عددًا قليلًا.
أما النَّصارى فالمسلمون منهم كثير في كل زمانٍ، هم أقرب إلى الحقِّ؛ لأنَّ داءهم الجهل، فمتى ظهر الحقُّ أسلم الكثير منهم، أما داء اليهود فهو العناد والحسد والبغي؛ فلهذا لم يُسلم منهم إلا القليل، وهم ندرة، أمَّا النصارى فداؤهم الضَّلال والجهل؛ فلهذا عند البيان والإيضاح يهدي اللهُ، ولا تزال الآن تسمع مَن يُسلم منهم في كل وقتٍ في سائر أنحاء الأمصار.
س: يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا في الكتب التي لم تُحرّف أو المحرّفة؟
ج: في نفس التوراة والإنجيل، لكن هم حرّفوا.
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:48-50].
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، ومدحها، وأثنى عليها، وأمر باتِّباعها حيث كانت سائغةَ الاتِّباع، وذكر الإنجيل ومدحه، وأمر أهله بإقامته واتِّباع ما فيه، كما تقدّم بيانه، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، فقال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أي: بالصّدق الذي لا ريبَ فيه أنَّه من عند الله مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ أي: من الكتب المتقدّمة المتضمّنة ذكره ومدحه، وأنَّه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمدٍ ﷺ، فكان نزوله كما أخبرت به.
الشيخ: وهذا عامّ: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ بما بين يد محمدٍ، وبما بين أيديهم، مُصدِّقًا لما في أيديهم من توحيد الله، وطاعة الله، والأمر باتِّباع الرسول، والحذر من اتباع الهوى والمعاصي، فالقرآن يُصدّق ما قبله بوجوب توحيد الله، بوجوب عبادة الله وحده، بوجوب طاعة الله وحده، واتِّباع شريعته بتحريم الوقوع في مناهيه ..... واحد بوجوب طاعة الله، وترك معصية الله، ثم آخرها الكتاب العظيم والخاتم لها، الذي فيه بيان الهدى والحثّ عليه، وبيان الضَّلالة والتَّحذير منها، وهو مُصدِّقٌ لما بين يديه من الكتب بما جاءت به من الهدى، ومُهيمنٌ عليها، وحاكمٌ عليها، وآتٍ بزيادة أحكامٍ لم تكن فيما مضى، والله المستعان.
س: هل يجزم أنَّ كل اليهود والنَّصارى الآن من أهل النار، أم أنَّ الذين لم تبلغهم دعوة الإسلام الصَّحيحة في علم الله ؟
ج: اليهود والنَّصارى كفَّار، قد بلغتهم الدَّعوة: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إبراهيم:52]، جاء القرآنُ بذلك، هذا إنذارٌ في كل مكانٍ، قد بلغتهم الدَّعوة، وزالت المعذرة من قديم الزمان، من عهده ﷺ.
س: الذين يعيشون في العصر الحالي من دول أوروبا؟
ج: كلهم من أهل النار، كلهم كفرة، إلا مَن أسلم، قد بلغتهم الدَّعوة، وانتشرت الدَّعوة، والجاهل ..... تبع رؤسائه، قاتلهم النبي ﷺ، وقاتلهم الصَّحابة، عامّتهم تبع رؤسائهم، نسأل الله العافية.
س: تحلّ ذبائحهم لنا؟
ج: نعم، طعام ونساء أهل الكتاب حِلٌّ لنا، نعم، إلا أن تعلم أنَّ الذَّبيحة أُهِلَّت لغير الله، والمحصنات منهم كذلك، غير البغايا، المحصنات منهم حِلٌّ لنا بنصِّ القرآن.
س: ..............؟
ج: يُقاتلون، نعم، يجب قتالهم.
مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله، واتَّبعوا شرائع الله، وصدّقوا رسل الله، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [الإسراء:107-108] أي: إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمدٍ عليه السلام لمفعولًا، أي: لكائنًا لا محالةَ ولا بدَّ.
قوله تعالى: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ قال سفيان الثوري وغيره: عن أبي إسحاق، عن التَّميمي.
الشيخ: هكذا عندكم: التَّميمي، أو التّيمي؟
مُداخلة: في تعليق يقول: التَّميمي هو أربدة، ويُقال: أربد -بدون هاء-، روى التَّفسير عن ابن عباسٍ، وروى عنه أبو إسحاق، قال ابن .....: مجهول.
الشيخ: محتمل، نعم.
عن ابن عباسٍ: أي: مُؤتمنًا عليه.
وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: المهيمن: الأمين. قال: القرآن أمينٌ على كل كتابٍ قبله.
ورواه عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسّدي وابن زيد نحو ذلك.
وقال ابنُ جرير: القرآن أمينٌ على الكتب المتقدّمة قبله، فما وافقه منها فهو حقّ، وما خالفه منها فهو باطل.
وعن الوالبي، عن ابن عباسٍ: وَمُهَيْمِنًا أي: شهيدًا. وكذا قال مجاهد وقتادة والسّدي.
وقال العوفي: عن ابن عباسٍ: وَمُهَيْمِنًا أي: حاكمًا على ما قبله من الكتب.
وهذه الأقوال كلّها مُتقاربة المعنى، فإنَّ اسم "المهيمن" يتضمن هذا كلّه، فهو أمينٌ وشاهدٌ وحاكمٌ على كل كتابٍ قبله، جعل اللهُ هذا الكتابَ العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلّها، وتكفّل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة.
الشيخ: والمعنى في هذا أنَّه مُصدّقٌ لها بما فيها، وحاكمٌ عليها بما فيها، فهو الخاتم الآخر، فقد صدّق ما قبله من الكتب بصحّة ما جاءت به الرسل عن الله، وعن توحيده والإخلاص له، وعمَّا مضى في هذه الأمم من عقوبات ونقمات على أيدي الرسل، إلى غير ذلك، فهو مُصدّق لها فيما جرى، وحاكمٌ عليها، ومُهيمنٌ عليها، لا يُخالف ما فيها، بل يُصدّق ما فيها، ويزيد عليها أحكامًا جاء بها محمدٌ عليه الصلاة والسلام، فقد شهد لها بالصّدق، وحكم لها بالصدق، وجاء بأشياء شرعها الله لهذه الأمّة غير ما شرع للماضين من التَّخفيف والتَّيسير .
س: هل يجوز الاستشهاد بشيءٍ من التوراة والإنجيل في هذا الوقت، أم يُكتفى بالقرآن؟
ج: الواجب القرآن، ولا يجوز التَّعرض لها، ولا الاستفادة منها، القرآن كافٍ شافٍ، والحمد لله.
فقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
فأمَّا ما حكاه ابنُ أبي حاتم، عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وابن أبي نجيح، عن مجاهد: أنَّهم قالوا في قوله: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ يعني: محمدًا ﷺ أمين على القرآن. فإنَّه صحيحٌ في المعنى، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضًا نظر، وبالجملة فالصَّحيح الأول.
وقال أبو جعفر ابن جرير بعد حكايته له عن مجاهد: وهذا التَّأويل بعيدٌ من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ؛ وذلك أنَّ المهيمن عطفٌ على المصدّق، فلا يكون إلا صفة لما كان المصدّقُ صفةً له.
قال: ولو كان الأمرُ كما قال مجاهد لقيل: وأنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ مُصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب، مُهيمنًا عليه، يعني: من غير عطفٍ.
وقوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ أي: فاحكم يا محمد بين الناس: عربهم وعجمهم، أمّيهم وكتابيهم بما أنزل اللهُ إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم مَن كان قبلك من الأنبياء، ولم ينسخه في شرعك. هكذا وجهه ابنُ جرير بمعناه.
قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار: حدثنا سعيد بن سليمان: حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباسٍ قال: كان النبي ﷺ مُخيَّرًا: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردّهم إلى أحكامهم، فنزلت: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ فأُمِرَ رسولُ الله ﷺ أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وقوله: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ أي: آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله؛ ولهذا قال تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ أي: لا تنصرف عن الحقِّ الذي أمرك اللهُ به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء.
وقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا قال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبو سعيد الأشج: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يوسف ابن أبي إسحاق.
الشيخ: كذا عندكم: يوسف، أو يونس؟
الطالب: يوسف، عندنا: يوسف.
الشيخ: حدثنا أيش؟
الشيخ: انظر "التقريب": يوسف ابن أبي إسحاق.
عن أبيه، عن التميمي، عن ابن عباسٍ: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً قال: سبيلًا.
وحدثنا أبو سعيد: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباسٍ: وَمِنْهَاجًا قال: وسنة.
كذا روى العوفي عن ابن عباسٍ: شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا سبيلًا وسنةً.
وكذا رُوي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضَّحاك والسّدي وأبي إسحاق السَّبيعي: أنَّهم قالوا في قوله: شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي: سبيلًا وسنةً.
وعن ابن عباسٍ أيضًا ومجاهد، أي: وعطاء الخراساني عكسه: شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي: سنةً وسبيلًا.
والأول أنسب، فإنَّ الشِّرعة -وهي الشَّريعة أيضًا- هي ما يُبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يُقال: شرع في كذا، أي: ابتدأ فيه، وكذا الشَّريعة، وهي ما يشرع منها إلى الماء.
مُداخلة: يشرع فيها.
الشيخ: يشرع منها إلى الماء، طريق إلى الماء، يعني: الشّرعة: طريق يُوصِل إلى النَّهر، نعم.
أمَّا المنهاج فهو الطَّريق الواضح السَّهل، والسنن: الطرائق.
فتفسير قوله: شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا بالسَّبيل والسّنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم.
الشيخ: وهذا من فضله جلَّ وعلا؛ لأنَّه أعلم بأحوال عباده، فجعل التَّوراة والإنجيل والكتب الماضية للأنبياء الماضين شرائع تناسب أقوامهم وشؤونهم وأحوالهم، وجعل لهذه الأمّة شريعة تُناسبها، وأوجب على كل أمّةٍ اتِّباع رسولها، والانقياد لما جاء به رسولها، ثم بعث اللهُ هذا النبي الكريم للناس عامّة، للأمّة عامّة، وجعل شريعتَه أشمل الشرائع وأيسرها، وأزال عن هذه الأمّة الآصار والأغلال التي كُتبت على بعض الماضين من اليهود والنَّصارى، وكل هذا من تيسيره -جلَّ وعلا- ومن رحمته؛ لأنَّه أعلم بأحوال عباده، وأرحم بهم، وألطف بهم، فلمَّا كانت شريعةً عامّةً لجميع أهل الأرض جعل اللهُ فيها من التَّيسير والتَّسهيل ورفع الحرج ما يرفع عنهم الشّدة، ويُسهّل عليهم، فجعلها خمس صلوات خفيفة، وصيام شهر واحد من السنة، وحجّة واحدة في العمر، وجزءًا يسيرًا من المال في السنة -من ماله- للفُقراء والمساكين، وهكذا بقية الشرائع التي شرعها في أطعمتهم وأشربتهم ونكاحهم ونفقاتهم، كلّ ذلك بحمد الله مُيَسّرٌ، نعم.
س: لو أنَّ اليهود والنَّصارى شربوا الخمر في بلاد الإسلام، هل يُقام عليهم حدّ شرب الخمر، وتطبق الشَّريعة الإسلامية؟
ج: إذا ثبت ..... إقامة الحدّ عليهم، مثلما أقام النبيُّ ﷺ حدَّ الزنا على اليهوديين.
س: حتى لو قالوا: أنها في دينهم مُباحة؟
ج: ولو، ولو، إذا تحاكموا إلينا وأظهروها لنا ظاهر الكتاب: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، نعم.
الطالب: يوسف بن إسحاق ابن أبي إسحاق، السَّبيعي، عن أبيه وجدِّه وجماعة، وعنه: ابنه إبراهيم، وابن عمّه إسرائيل، وابن عيينة وطائفة، قال أبو حاتم: يُكتب حديثه. وثَّقه الدَّارقطني، قيل: توفي سنة سبعٍ وخمسين ومئة. الجماعة.
الشيخ: انظر: يونس ابن أبي إسحاق، نعم.
الشيخ: والمعنى: أنَّ العقيدة واحدة، والشرائع مختلفة: إخوة لعلات يعني: ضرائر، الدِّين واحد: كالأب، والزوجات مختلفة، فالمعنى: أنَّ الشرائع مُختلفة، والدِّين واحد: وهو عقيدة توحيد الله، والإخلاص له، والإيمان بكلِّ ما أخبر الله به بما يكون، وما يكون، أما الشرائع فهي مُختلفة في الواجبات والمباحات.
س: الصَّحيح في شرع مَن قبلنا إذا لم يُخالف شرعنا؟
ج: شرعٌ لنا إذا لم يأتِ شرعُنا بخلافه.
الطالب: يونس ابن أبي إسحاق، السبيعي، أبو إسماعيل، الكوفي، عن أبيه وناجية بن كعب، وعنه ابنه إسرائيل وعيسى، وثَّقه ابنُ معين، وقال أبو حاتم: صدوق لا يُحتجّ به. قال ابنُ سعد: مات سنة تسعٍ وخمسين ومئة. (البخاري في "جزء القراءة"، ومسلم، والأربعة).
الشيخ: طيب، نعم.
وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ الآية [النحل:36].
وأما الشَّرائع فمُختلفة في الأوامر والنَّواهي؛ فقد يكون الشيء في هذه الشَّريعة حرامًا، ثم يحلّ في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا فيُزاد في الشّدة في هذه دون هذه؛ وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجّة الدامغة.
قال سعيد ابن أبي عروبة: عن قتادة: قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا يقول: سبيلًا وسنة، والسنن مختلفة، هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يُحِلّ الله فيها ما يشاء، ويُحرِّم ما يشاء؛ ليعلم مَن يُطيعه ممن يعصيه، والدِّين الذي لا يقبل اللهُ غيره: التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وقيل: المخاطب بهذه الآية هذه الأمّة، ومعناه: لِكُلٍّ جَعَلْنَا القرآنَ مِنْكُمْ أيّتها الأمّة شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي: هو لكم كلّكم، تقتدون به.
وحذف الضَّمير المنصوب في قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ أي: جعلناه، يعني: القرآن، شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا أي: سبيلًا إلى المقاصد الصَّحيحة، وسنةً، أي: طريقًا ومسلكًا واضحًا بيِّنًا.
هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد رحمه الله، والصَّحيح القول الأول، ويدلّ على ذلك قوله تعالى بعده: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، فلو كان هذا خطابًا لهذه الأمّة لما صحَّ أن يقول: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وهم أُمّة واحدة، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قُدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلّهم على دينٍ واحدٍ، وشريعةٍ واحدةٍ، لا يُنسخ شيء منها، ولكنَّه تعالى شرع لكلِّ رسولٍ شريعةً على حدةٍ، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا ﷺ، الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبةً، وجعله خاتم الأنبياء كلّهم؛ ولهذا قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ أي: أنَّه تعالى شرع الشَّرائع مُختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويُثيبهم أو يُعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كلِّه.
وقال عبدالله بن كثير: فِي مَا آتَاكُمْ يعني: من الكتاب.
ثم إنَّه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ وهي طاعة الله، واتِّباع شرعه الذي جعله ناسخًا لما قبله، والتَّصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتابٍ أنزله.
ثم قال تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا أي: معادكم أيّها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة، فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي: فيُخبركم بما اختلفتم فيه من الحقِّ، فيجزي الصَّادقين بصدقهم، ويُعذِّب الكافرين الجاحدين المكذِّبين بالحقِّ، العادلين عنه إلى غيره بلا دليلٍ ولا برهانٍ، بل هم مُعاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدَّامغة.
وقال الضَّحاك: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ يعني: أمّة محمدٍ ﷺ. والأظهر الأول.
الشيخ: هذا فيه الحثّ على السباق إلى الخيرات، وأنَّ الدَّعوة للجميع؛ لجميع الأمّة، يُشرع لهم أن يُسارعوا، وأن يُسابقوا إلى الخيرات، وهي ما شرع الله لعباده ودعاهم إليه من واجبٍ ومُستحبٍّ؛ لما فيه من الخير العظيم لهم، فالاستباق إليه هذا مُسارعة؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، وقال: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21].
فجديرٌ بأهل الإيمان المسابقة إلى الخيرات، والمسارعة إلى الطَّاعات قبل أن يحلّ بهم ما يمنع: من مرضٍ، أو موتٍ، أو فقرٍ، أو غير هذا، فالمؤمن ينتهز الفرصة في كل وقتٍ في المسابقة إلى الخيرات: من الصَّدقة، وصلاة النَّافلة، والتَّسبيح، والتهليل، والذكر، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، إلى غير هذا من وجوه الخيرات، يُسابق إليها قبل أن يُحال بينه وبين ذلك، والله المستعان.
س: هل من الجنِّ رسل: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130]؟
ج: المعروف عند العلماء أنَّ الرسل من الإنس، أما الجنّ ففيهم النذر، وقال بعضهم -كابن حزم وجماعة-: أنَّ فيهم رسلًا على ظاهر الآية -والله أعلم-، أمَّا جمهور أهل العلم فيرون أنَّ الرسل من الإنس.
س: ما حكم تفسير القرآن بالتوراة .....؟
ج: لا، التوراة يجب الإعراض عنها؛ لأنها حُرِّفت وبُدِّلت، والإنجيل كذلك، فلا يجوز تفسير القرآن بها، القرآن -بحمد الله- واضح، ليس فيه .....، ثم قد يُشكل فيه كلام أهل العلم، والأحاديث الصَّحيحة تكفي، النبي ﷺ لما رأى في يد عمر شيئًا من التوراة غضب عليه الصلاة والسلام.
س: ..............؟
ج: يجب ألا تحتقر، إمَّا أن تُدفن، أو تُحرق؛ لأنَّ فيها من كلام الله، وإن حرَّفوا وغيَّروا ففيها بقية، لكن إذا وجدها الإنسانُ إمَّا أن يدفنها في أرضٍ طيبةٍ، وإمَّا أن يحرقها.
س: معنى قوله ﷺ: وكان النبيُّ يُبعث إلى قومه خاصّة؟
ج: على ظاهره، ظاهره واضح: إلى قومه، جماعته، أمّته: شعيب إلى أمته، لوط إلى أمته، هود إلى أمته، صالح إلى أمته.
س: الاستدلال على اليهود والنَّصارى بما يوجد عندهم في التوراة والإنجيل من ذكر النبي ﷺ؟
ج: ولو، يكفي القرآن، القرآن صادقٌ، ويكفي، ما نحتاج أن نبحث في التوراة والإنجيل، القرآن كافٍ، وهو أصدق كلامٍ، وأوضح كلامٍ.
س: قوله تعالى: يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الأعراف:157]؟
ج: نعم، هذا حُجّة عليهم.
س: ما الفرق بين الرسول والنبي؟
ج: الرسول: الذي أُوحي إليه بشرعٍ وأُمر بتبليغه، والنبي: يُوحى إليه بشرعٍ ولكن لا يُؤمر بتبليغه. هذا هو المشهور.
س: هل يُشرع التَّنويع في الخيرات؟
ج: يفعل كلّ ما يستطيع فعله، الأهم فالأهم: الفريضة قبل النافلة، والنوافل تختلف، فيفعل الأهم فالأهم، إذا لم يتيسر له الجميع يبدأ بالأهم فالأهم.
س: .............؟
ج: يفعل هذا وهذا إذا تيسّر له هذا وهذا؛ حتى يُنوّع الخيرات، نعم.