تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ..}

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ۝ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ۝ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:47-49].

يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله، وكثرة ذكره، ناهيًا لهم عن التَّشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم بَطَرًا أي: دفعًا للحقِّ، وَرِئَاءَ النَّاسِ وهو المفاخرة والتَّكبر عليهم، كما قال أبو جهل لما قيل له: إنَّ العِير قد نجا فارجعوا، فقال: لا، والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، وننحر الجزر، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، وتتحدث العربُ بمكاننا فيها يومنا أبدًا. فانعكس ذلك عليه أجمع؛ لأنَّهم لما وردوا ماء بدرٍ وردوا به الحِمام، وركموا في أطواء بدرٍ مُهانين أذلّاء، صغرة أشقياء، في عذابٍ سرمديٍّ أبدي.

الشيخ: وهذا جزاء مَن استكبر عن الحقِّ وبغى وطغى، عاقبته الذل والهوان، والنار والعذاب؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا لأوليائه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45-46]، هذه صفات المؤمنين، وهو الواجب، فالواجب على المؤمن أن يكون هكذا.

وأما أولئك فقال فيهم جلَّ وعلا: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ أي: لا تشبّهوا بأعداء الله، وهم أهل مكّة: كأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وجماعة خرجوا من مكّة بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ يعني: تكبُّرًا وتعاظُمًا وردًّا للحقِّ الذي جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام، ورياءً للناس: إظهارًا لعظمتهم، وأنَّهم أقوياء، وأنهم أعزّاء، وأنهم لن يغلبهم محمدٌ، وما أشبه ذلك، فأذلّهم الله، وأبطل كيدهم، وقتلهم في بدرٍ، وردّ فلّهم خاسئةً، وكلّ هذا من أسباب كبرهم وعنادهم وطُغيانهم.

فالواجب على أهل الإسلام الحذر من التَّشبه بهم، والحذر من التَّكبر والرياء الذي هو دين الكفَّار، فالمؤمنون من صفتهم: الإخلاص، والتواضع، والتعاون على البرِّ والتقوى، والتواصي بالحقِّ، هذه صفة المؤمنين، بخلاف أعداء الله الذين صفتهم: التَّكبر، والتَّعاظم، وردّ الحقِّ، ورياء الناس، نسأل الله العافية، ومع هذا يصدّون عن سبيل الله، يصدّون عن الحقِّ، ويردّون الناس عن الدُّخول في الإسلام؛ فلهذا عاقبهم اللهُ عقوبةً عاجلةً يوم بدر، وجرى ما جرى يوم الأحزاب، ثم فتح اللهُ على رسوله مكّة، ودخل الناسُ في دين الله أفواجًا، وانتصر الحقّ، وذلّ الباطل وخنس، والحمد لله.

ولهذا قال: وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أي: عالم بما جاءوا به وله؛ ولهذا جازاهم عليه شرّ الجزاء لهم.

قال ابنُ عباسٍ ومجاهد وقتادة والضَّحاك والسّدي في قوله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ قالوا: هم المشركون الذين قاتلوا رسول الله ﷺ يوم بدر.

وقال محمد بن كعب: لما خرجت قريش من مكّة إلى بدر، خرجوا بالقيان والدّفوف، فأنزل الله: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.

وقوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ الآية، حسَّن لهم -لعنه الله- ما جاءوا له، وما همُّوا به، وأطمعهم أنَّه لا غالبَ لهم اليوم من الناس، ونفى عنهم الخشية من أن يُؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر.

الشيخ: وهذه وساوس ألقاها في صدورهم، وزيّن لهم الباطل، وأنَّهم لا غالبَ لهم اليوم من الناس، ثم تشكّل لهم في صورة سُراقة بن مالك، وأنَّه جارٌ لهم، وأنَّه يحميهم من عدوهم، فجمع بين الوساوس وبين الكذب والتَّزوير، نسأل الله العافية.

وهذه عادة الشياطين: شياطين الإنس والجنِّ، هكذا بالوسوسة والتَّزيين والباطل والوعود الكاذبة، فشياطين الإنس والجنِّ هذا دأبهم: الوعود الفاجرة الكاذبة، وإلقاء الشُّبَه حتى يصدّوا الناس عن الحقِّ، نسأل الله العافية.

فقال: وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ وذلك أنَّه تبدّى لهم في صورة سُراقة بن مالك بن جعشم، سيد بني مدلج، كبير تلك الناحية، وكلّ ذلك منه كما قال تعالى عنه: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:120].

قال ابنُ جُريج: قال ابنُ عباسٍ في هذه الآية: لما كان يوم بدر سار إبليسُ برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين أنَّ أحدًا لن يغلبكم، وإني جارٌ لكم، فلمَّا التقوا ونظر الشيطانُ إلى إمداد الملائكة نكص على عقبيه. قال: رجع مُدبرًا، وقال: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ الآية.

وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ قال: جاء إبليسُ يوم بدرٍ في جندٍ من الشياطين معه رايته في صورة رجلٍ من بني مدلج، في صورة سُراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطانُ للمُشركين: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ، فلمَّا اصطفَّ الناسُ، أخذ رسولُ الله ﷺ قبضةً من التراب فرمى بها في وجوه المشركين؛ فولوا مُدبرين، وأقبل جبريلُ عليه السلام إلى إبليس، فلمَّا رآه، وكانت يدُه في يد رجلٍ من المشركين، انتزع يده، ثم ولّى مُدبرًا وشيعته، فقال الرجل: يا سُراقة، أتزعم أنَّك لنا جارٌ؟! فقال: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. وذلك حين رأى الملائكة.

وقال محمد بن إسحاق: حدَّثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباسٍ: أنَّ إبليس خرج مع قريشٍ في صورة سُراقة بن مالك بن جعشم، فلمَّا حضر القتال ورأى الملائكة نكص على عقبيه: وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، فتشبّث به الحارث بن هشام، فنخر في وجهه فخرّ صعقًا، فقيل له: ويلك يا سُراقة على هذه الحال! تخذلنا وتبرأ منا! فقال: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

وقال محمد بن عمر الواقدي: أخبرني عمر بن عقبة، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباسٍ قال: لما تواقف الناسُ أُغمي على رسول الله ﷺ ساعةً، ثم كشف عنه، فبشّر الناس بجبريل في جندٍ من الملائكة ميمنة الناس، وميكائيل في جندٍ آخر ميسرة الناس، وإسرافيل في جندٍ آخر ألف، وإبليس قد تصوّر في صورة سُراقة بن مالك بن جعشم المدلجي يُدبّر المشركين.

الشيخ: يُدبّر يعني: يأمرهم وينهاهم: افعلوا كذا، وافعلوا كذا، يُوجّههم، قاتله الله.

ويُخبرهم أنَّه لا غالبَ لهم اليوم من الناس، فلمَّا أبصر عدوُّ الله الملائكة نكص على عقبيه، وقال: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، فتشبّث به الحارث بن هشام، وهو يرى أنَّه سُراقة؛ لما سمع من كلامه، فضرب في صدر الحارث؛ فسقط الحارث، وانطلق إبليسُ لا يُرى حتى سقط في البحر ورفع ثوبه، وقال: يا ربّ، موعدك الذي وعدتني.

الشيخ: الموعد يعني: الإنظار؛ لأنَّه وعده أن يُنظره إلى يوم يُبعثون.

وفي الطبراني عن رفاعة بن رافع قريب من هذا السياق وأبسط منه، ذكرناه في "السيرة".

وقال محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب، فكاد ذلك أن يُثنيهم، فتبدّى لهم إبليسُ في صورة سُراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا جارٌ لكم أن تأتيكم كنانة بشيءٍ تكرهونه. فخرجوا سراعًا.

قال محمد بن إسحاق: فذكر لي أنَّهم كانوا يرونه في كل منزلٍ في صورة سُراقة بن مالك، لا يُنكرونه، حتى إذا كان يوم بدر، والتقى الجمعان، كان الذي رآه حين نكص الحارث بن هشام، أو عُمير بن وهب، فقال: أين سُراقة؟! أين؟! وميل عدو الله فذهب.

مُداخلة: فقال: أين أي سُراق؟! ومثل عدو الله فذهب.

الشيخ: سُراق بالتَّرخيم يعني.

الطالب: ومثل عدو الله فذهب.

الشيخ: مثل: انتصب ثم انصرف.

الطالب: وميل عدو الله.

الشيخ: لا، لعلها "مثل" يعني: انتصب قائمًا.

الطالب: مثل: لطئ بالأرض واختفى.

الشيخ: لا، مثل يعني: قام، يعني: انتصب وانصرف. نعم، مثل يمثل: إذا انتصب.

ومثل عدو الله فذهب، قال: فأوردهم ثم أسلمهم.

قال: ونظر عدو الله إلى جنود الله قد أيّد اللهُ بهم رسوله والمؤمنين، فنكص على عقبيه: وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وصدق عدو الله: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

وهكذا رُوي عن السّدي والضّحاك والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم رحمهم الله.

وقال قتادة: وذُكر لنا أنَّه رأى جبريلَ عليه السلام تنزل معه الملائكة، فعلم عدو الله أنَّه لا يدانِ له بالملائكة، فقال: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وكذب عدو الله، والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنَّه لا قوةَ له ولا منعة، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له، حتى إذا التقى الحقُّ والباطل أسلمهم شرَّ مسلمٍ، وتبرأ منهم عند ذلك.

قلت: يعني بعادته لمن أطاعه قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16]، وقوله تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].

الشيخ: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، نسأل الله العافية، الواجب على كل مؤمنٍ أن يحذر عدو الله، فهو هكذا شيطان رجيم، يُدلي في الباطل، ثم يسلم أهله إذا أوقعهم في الباطل، أدلاهم ثم أسلمهم، "إنَّ الخبيثَ لمن والاه غرَّار" كما قال حسان.

المقصود أنَّ هذه سُنته وطريقته: يُلقي الناس في الشَّر، ويدلّهم عليه، ويُزين لهم الباطل، ثم يسلمهم، نسأل الله العافية.